لا نعرف في تاريخ الطب العراقي المعاصر، أن برز اثنان من الأطباء، شقيقان، لهما كل هذا الحب والعشق لتطبيب الفقراء، ونشر الثقافة الصحية بين الناس ويكفيهما أنهما انشئا في زمن مبكر من تاريخ العراق المعاصر، (عيادة شعبية)، لتطبيب الناس، وأصدرا (مجلة) هدفها الرئيس هو نشر الثقافة الصحية .
إنهما الشقيقان الطبيبان الدكتور إسماعيل ناجي والدكتور خالد ناجي …ولقد حظي الأول ببعض الاهتمام من لدن الكتاب والمؤرخين، في حين أن الثاني لم ينل مايستحقه من اهتمام وها نحن اليوم نتحدث عنه، وكل ما نبتغيه هو أن يتمثل به، وبنشاطه وجهوده إخواننا وأبناءنا من الأطباء..
وقبل أن نتعرض لمجهوداته لابد أن نقف قليلاً عند سيرته الذاتية، فلقد ولد في منطقة رأس القرية ببغداد سنة 1923، وأكمل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية فيها ثم دخل الكلية الطبية سنة 1945. وحصل على الماجستير في الجراحة سنة 1948 وكان عنوان رسالته الحروق وفيها تم تجريب ماسماها الطريقة البغدادية لعلاج الحروق ، ثم نال لقب الاختصاص في الجراحة العامة سنة 1949. وقد تيسرت له فرصة للعمل عدة سنوات مع أساتذة وأطباء كبار عملوا في العراق أبرزهم الدكتور روجرز، والدكتور وردل. فضلا عن عمله مع الدكتور هاشم الوتري أحد مؤسسي الكلية الطبية العراقية .
عمل في المستشفى الملكي / قسم الجراحة والمعروف سابقا بمستشفى المجيدية، وأمضى في ردهاته قرابة (25) سنة ، ثم انتقل إلى مدينة الطب واشرف على طابق الجراحة الثالث لمدة عشر سنوات .
قام بتدريس مادة الجراحة السريرية في الكلية الطبية العراقية(تأسست سنة 1927 )، وحصل على لقب الأستاذية في سنة 1966، له قرابة (40) بحثا في موضوعات طبية مهمة، وهو أول طبيب عراقي ينشر بحوثه في المجلة الطبية العالمية المشهورة (لانست).. وقد تضمنت بحوثه ابتكارات جديدة في مجال علاج الحروق والأكياس المائية التي كان يسميها (سرطان العراق ) . أسس متحفا خاصاً يشمل البحوث والأعمال التي قام بها وأنجزها مدعمة بالآلاف من الشرائح النسيجية وصور الاشعة .
الذي يهمنا هنا انه أسس مع أخيه الدكتور إسماعيل ناجي (العيادة الشعبية) سنة 1948 واستمرت بالعمل حتى سنة 1958. وكانت مخصصة لمعالجة الفقراء من الناس، وباشتراك شهري للعائلة الواحدة لايتجاوز آنذاك أل (150) فلساً.. وكان مقرها في رأس القرية شارع الرشيد.
كما أصدرا مجلة باسم (العيادة الشعبية) سنة 1947، وقد ذكرت السيدة زاهدة إبراهيم في كتابها : (كشاف الجرائد والمجلات العراقية) الذي صدر عن وزارة الإعلام العراقية سنة 1976، أن هذه المجلة كانت كما جاء في ترويستها : “مجلة طبية صحية صاحبها إسماعيل ناجي (طبيب) ومديرها المسؤول هاشم العاني (محام)، وقد صدرت ببغداد سنة 1947 واستمرت في الصدور حتى 17 كانون الأول / ديسمبر سنة 1954.
ذكر الأستاذ جعفر الخليلي في كتابه : (هكذا عرفتهم) إن الناس اقبلوا على العيادة الشعبية حتى ضاقت بهم ، وكانت بنايتها مؤلفة من خمس غرف وصالون( وبالكونة )، حيث خصص الأخيران للانتظار، فيما شغل الدكتور إسماعيل ناجي جانبا من تلك العيادة لفحص ومعالجة الأمراض الباطنية، وشغل أخوه الدكتور خالد ناجي الاختصاصي المعروف جانبا منها للجراحة. وكان يداوم في إحدى غرف العيادة السيد عبدالاحد، وهو من الاكتفاء في عمليات التحليل الكيماوي الطبي.. وكان في العيادة من يقوم على مساعدة الدكتور إسماعيل، وشقيقه الدكتور خالد من مضمدين ومعينين. وقد تحدث الدكتور إسماعيل ناجي يوما في إذاعة بغداد عن عيادته فقال إن فكرة العيادة :((راودتني بوحي من هذه العلل الاجتماعية، وإنها لكثيرة في مجتمعنا تطاردنا مصبحين ممسين في كل جانب من جوانبنا، ولقد فكرت مليا في هذا الجانب، جانب الحاجة إلى تعميم المعالجة وتيسيرها للفقراء وكان من السهل أن أجد من يعاونني لإخراجها، ولقد كان يحز في نفسي ويؤلمني أن أرى الأمراض تفتك بالطبقة الوسيطة والفقيرة عندنا، في حين قطعت الشعوب أشواطا بعيدة في تحقيق مشاريع الضمان الاجتماعي ،والعدالة الاجتماعية، وتوفير الوقاية والعلاج الطبي للطبقة الفقيرة))، وكان رب الأسرة يدفع 150 فلسا في الشهر لتتم معالجة سائر أفراد أسرته مجاناً.
كان الدكتور خالد ناجي ،من أوائل الذين وقفوا إلى جانب شقيقه، سواء بالعيادة الشعبية أو المجلة. ويعد مشروع المجلة من أوائل مشاريع الصحافة الصحية في الوطن العربي إن لم يكن أول مشروع صحي عربي مجاني،والمشروع لم يقف عند ناحية واحدة من نواحي العلاج وان رسالته أوسع من ذلك، فهو كما يعنى بالعلاج الباطني ،فانه يولي جل اهتمامه بضروب أخرى من العلاج، ومنها على سبيل المثال لاالحصر ، العمليات الجراحية ، والأمراض النسائية، وأمراض العيون والأنف والإذن والحنجرة، كما أن للمشروع فرعا للتحاليل المرضية كافة . أما عملية الختان والتلقيح ضد الأوبئة كالجدري والحصبة والتيفوئيد واليضة وماشاكل فكل ذلك يقوم به المشروع مجانا..
وقد اتسعت شهرة المجلة ، فقررت وزارة التربية اقتناءها والسماح بدخولها إلى المدارس، كما أقدم عدد من الكتاب والباحثين والمفكرين على الكتابة فيها ولعل من ابرز هؤلاء الدكتور هاشم جواد الدبلوماسي العراقي المعروف، والدكتور صائب شوكت عميد الكلية الطبية، والدكتور كمال السامرائي الطبيب النسائي العراقي المعروف، فضلا عن الأديب المشهور عبد المجيد لطفي ،والشيخ محمد رضا الشبيبي رئيس المجمع العلمي ووزير المعارف (التربية ) الأسبق ، والدكتور صبري القباني الطبيب السوري وصاحب مجلة طبيبك فيما بعد ، والأستاذ جعفر الخليلي الكاتب والباحث والصحفي المعروف والذي يقول أن حركة المجلة توسعت حتى أنها سبقت جميع صحف العراق ومجلاته آنذاك في كمية المطبوع الشهري والانتشار.
لقد كان الدكتور خالد ناجي من أوائل الذين تيسرت لهم الفرصة للدراسة خارج العراق، لكنه فضل البقاء في العراق ،والدراسة في الكلية الطبية .ويبدو أن مما شجعه على ذلك، وجود عدد من الأطباء الأجانب وخاصة الانكليز في هذه الكلية، ولهذا حصل الدكتور خالد ناجي على تدريب جيد على أيدي هؤلاء في المستشفى الملكي (المجيدية) التعليمي الذي كان يستقطب أعدادا هائلة من الحالات الجراحية، التي تشكل مادة دسمة للعمل والخبرة قلما يحظى بها أي طبيب حديث التخرج في ذلك الوقت.
اهتم الدكتور خالد ناجي بالتراث الطبي العربي والإسلامي، وكان الطبيب الرازي موضع إعجابه وقد كتب الكثير عن التراث الطبي ، وتفرغ لتطوير ذلك بعد تقاعده وقد قدم الكثير من الإبداعات في هذا المجال إلى اتحاد المؤرخين العرب، وطلبة الدراسات العليا في جامعة النهرين وفي مركز التراث العلمي ،ومعهد التاريخ العربي، ومؤسسة بيت الحكمة. وقد كلف من قبل ديوان رئاسة الجمهورية سنة 1997 برئاسة لجنة تشرف على كل كليات الطب في العراق وتقدم المقترحات لتطوير العمل فيها، وقد زار كلية الطب في الموصل وأفاد الكلية ، أساتذة وطلبة، وقدم لهم خبراته فأحبه الطلبة والتفوا حوله .
ابتكر الدكتور خالد ناجي العديد من الطرق العراقية للحروق، والأكياس المائية، وسقوط الشرج، وسرطان الثدي، وزرع الغدة الدرقية اللسانية بالبطن. وقد تيسرت له الفرصة لزيارة العديد من المراكز والمؤسسات الطبية في العالم وحاضر فيها، ونال العديد من الجوائز والشهادات وكان يتميز بفخره الشديد بأصالة علمه وحرفية خبرته .. عاش ومات ولم يندرج كطالب أو متعلم في أي مستشفى أو أي مؤسسة تعليمية خارج العراق .. وقد امتازت طريقته في التدريس بالرصانة العلمية والعملية .وقد أشار الدكتور عمر الكبيسي إلى ذلك في مقال له نشر يوم 6 نيسان –ابريل 2008 قائلا : إن الدكتور خالد ناجي ترك في شخصية كل طالب درسه، حكمة لاتنسى، أو نصيحة لاتثمن أو مهارة وخبرة ظل له بسببها مدينا. ويقينا أن الآلاف من الطلبة درسوا عليه وتدربوا على يديه .ولم يكن الدكتور خالد ناجي من أصحاب الأبراج العاجية، بل كان منهمكا في الحياة العامة فلقد كان عضوا في نقابة الأطباء، واتحاد المؤرخين العرب، وملتقى الرواد، وكان رياضيا مارس ألعابا كثيرة منها لعبة الغولف، والسباحة، والتنس ،وتسلق الجبال وكان رئيسا لنادي الغولف العراقي سنة 1966 وكان من رواد نادي العلوية والجمعية البغدادية وعرف بين الناس انه من هواة الزهور وعاشقيها ولم تكن وردة ألجوري أو الكاردينا تفارق صدره حتى وهو على سرير المرض المتقدم في أواخر أيامه رحمه الله .وكان أثناء عمله في عيادته الكائنة في ساحة حافظ القاضي ، يستقبل المرضى والمراجعين بوجه بشوش وحيوية لافتة .وقد ذكر الأستاذ عبد الكناني في مقال له أن الدكتور خالد ناجي ربط بين الطب والرياضة حتى انه كان يردد ومن كثرة شغفه بالرياضة انه لو لم يصبح طبيبا لكان بطلا رياضيا .وقد تحدث احد طلبته ومن الذين كانوا يزورونه(الدكتور عمر الكبيسي ) فقال أن الدكتور خالد ناجي كان يتلذذ بالكيك الانكليزي المطعم بالزبيب English cake ويحب ثريد الباميا، وحرص على تقديم أكلاته لضيوفه وهم عادة من طلابه المعجبين به كل ظهيرة جمعة .ومما عرف به الدكتور خالد ناجي احترامه للمرأة ،وعدها مصدر الهام، وقد حرص على إظهار إعجابه بالمرأة الجميلة لاعتقاده أن الجمال اكبر نعمة يمن بها الله على المرأة. ومع انه كان موضع جذب وإعجاب الكثير من النساء ،لكنه ظل عفيفا نظيفا في حبه وتقديره للمرأة، وقد تأخر في الزواج حتى العقد الخامس من عمره وعندما تزوج لم يوفق وله من زواجه ابنه الوحيد شعلان الذي لايزال يعيش خارج العراق. وفي سنة 2002 اقترن بالسيدة هدى وهي امرأة فاضلة أحبته وخدمته في كبره ومرضه ورافقته حتى آخر لحظة من حياته .وفي بغداد تعرض بعد الاحتلال وسقوط النظام السابق في 9 نيسان 2003 إلى مشاكل منها سرقة بيته وسيارته فساء وضعه الصحي والنفسي فكانت الدموع لاتفارق جفنيه، وبعد أن زاد عليه المرض، قررت زوجته نقله إلى عمان بالأردن وقد عولج هناك لكنه توفي بأجله المحتوم يوم 5 نيسان / ابريل سنة 2008 رحمه الله وجزاه خيرا على ماقدم لوطنه وأمته وللإنسانية جمعاء.
2249 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع