رشيد كوله رضا اشهر شخصية في كركوك
سيرة حياة طافحة بالمتاعب كما يرويها الاستاذ الاديب (( فؤاد حمدي ))
كان رشيد كوله رضا جاراً لنا في محلة (جاي) وهو يقيم في الطرف المطل على نهر الخاصة من زقاق (كدك) في دقته . وقد أصبح هذا الزقاق في خبر كان منذ ما يقارب الخمسين عاماً بسبب توسيع الشوارع الرئيسية .
قضى رشيد 60 عاما من عمره الذي ناهز الخامسة والسبعين . أما بالسكون وأما بالحركة، حياة ساطعة بالنور أو مكتنفاً بالضباب . لكنه في الحالتين ظلت متوجة بخصلة السخاء الحاتمي التي كانت تشكو منها زوجته مادية بقولها متأففة : لقد أفقرت بيتي يا حاتم وأخويته !
ومن المصادفات الغريبة بأن سيرة رشيد كوله رضا على طرفي نقيض مع سيرة المطرب الشعبي (محمد كولبوي) .
أن وجه التشابه الرئيسي بينهما ، أن كليهما قد أديا فريضة الحج المباركة نحو أواخر عمرها وطفق يعيشان حياة التائبين على ما يظهر . أما قبل ذلك فكانت الحياة بالنسبة لكليهما على حد سواء ، مليئة بالهلاهل ويا ليل ويا سعاد ويا وداد ، أن جاز التعبير . لكنها كانت حافلة بغياهب السجون، وردهات المستشفى حيث أن صاحبنا رشيد في قد أودع في السجن مصابا بالرصاص ، او رقد في المستشفي مطعوناً بالسكاكين والرصاص معاً . وبقدر علمي ، قد صار على قاب قوسين أو أدنى من حافة القبر لمرتين على الأقل ونجا منهما معافىً ولسوف نرى هذا في السطور القادمة .
في بداية الثلاثينات بالضبط كان مقهى (رشه) – أسمه المصغر – في محل سوق الصفافير الحالي. منذ ذلك الوقت كان رشيد مغرماً بتربية مهر من أكرم الجياد العربية طراً . وبشكل دائم تقريباً . و قد أبدل محل مقهاه إلى مكانين أخرين في نفس المنطقة . يمكن القول بأن رشيد قد جاء إلى الدنيا لأسماع الصوت الرخيم إلى الناس منذ نشأته الأولى . فكان من المدعوين الرئيسيين إلى مجالس الطرب والشراب بمناسبة ختان الأولاد والزفاف وما أكثر ما كانت تقام من قبل أهل كركوك تلك الأيام، كأنما هي مراسيم قدسية عندهم لا مفر منها ولا مناص الظاهر أنها كانت من رواسب طقوسهم الدينية الراجعة إلى ما قبل الإسلام كما يغلب على ظني .
لما شب عن الطوق ولم يعد في وسع والده ضبطه كلياً وهو لا يريد إفلات عنانه عن يده نهائياً ، فكان لا يجد مناصاً من التوغل في نفس المجالس فيتخذ لنفسه مقعداً في إحدى الزوايا ، ويراقبه وليكون على بصيرة منه عن قرب على الأقل . وإذا لاحظه رشيد ووجه إليه استفسارا من قبيل:
ـ ها بابا ؟ .. خيراً خو ماكو شيء ؟
فكان الجواب : كلا يا ولدي فلقد ضاقت نفسي بعض الشيء .. فحضرت .
الحرب وتبريز والمنفى في سنغافورة
عند اندلاع شرارة الحرب العالمية الأولى .. وإعلان النفير العام، إذا برشيد وفي طرفة عين ، يجد نفسه في الجبهة الروسية في أطراف ولاية (قارص) فكانت الفرقة العراقية قد جرى سوقها إلى ذلك الجانب .
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، لبث رشيد فترة من الزمن في تبريز ،استغلها في تعلم بعض المقامات والألحان الآذرية ، لكنه عندما عاد أدراجه إلى كركوك ، ما لبث أن تم القبض عليه من قبل قوات الاحتلال البريطانية أسوة بغيره من الشبان المحليين تم نفيهم إلى سنغافورة ، خشية مشاركتهم في المقاومة المحلية ضد الإنكليز . قضى هنالك مدة سنتين ثم أعيد إلى العراق . حيث تزوج على أثرها .
رصاص ورحيل الزوجة
تقول الرواية بأن رشيد في هذه الأثناء دأب على أداء فروض العبادة من الصوم والصلاة ، ويُسمع صوته للناس عن طريق تلاوة الأذان في المسجد هذه المرة، وحسب الروايات كذلك كان جد ملتزم في هذه الفترة ، حيث أصبح صوفي النزعة بل بدا متزمتا في نزعته. سيما وأن التزمت هذا قد شكل نقطة تحول عكسية سيئة في حياته الخاصة وأن مردوده استمر لمدة طويلة من الزمن . إذ جاءه أحد الوشاة ذات يوم وهو يسعى بهذا الخبر السيء :
ـ هل تعلم يا رشيد أن حماك الآن يرقص في حفلة العرس المقامة في الدار الفلانية وهو قد وضع جرة ماء على رأسه ؟
ما إن سمع رشيد بهذا الخبر حتى استشاط غضباً كأنه يعود لجريمة لا تغتفر .. فتلقف مسدسه فوراً وأسرع إلى الدار المذكورة كالبرق الخاطف موجها المسدس نحو حميه فضغط على الزناد دون تردد ! .. لكن الطلقة العمياء أخطأت سبيلها فأصابت شخصا غير حميه ، يدعى هو الأخر باسم رشيد فأصابت منه مقتلاً وما وراء ذلك فمعلوم . الفرار .. والتوقيف .. والمحاكمة .. ثم الحكم بالسجن لمدة أربعة عشر عاماً . بعد أن أمضى زهاء نصف المدة هذه في غياهب السجن ، أخلي سبيله فخرج من السجن لكنه كيف خرج ؟ خرج وهو متسم بخصال الفرعون بتعبير قريبه ، صديقي المرحوم الحاج فيصل الحلاق ! . حيث خلال هذه المدة فارقت زوجته العزيزة الحياة. ما لبث إن لحق بها ولده الوحيد بعد ستة أشهر هو الأخر . أسودت الدنيا في عيني رشيد . فعزف عن كل شيء حتى من ضمنهما الصوم والصلاة وأطلق لحيته، ولم يحلقها حتى أخر عمره . أما إدمانه على المخدرات ، لربما يعود ذلك إلى أيام السجن على الأغلب . رغم أنه كان يهوى ابنة عمه . إلا أنه لم يجد منها غير الصدود . وفي الحقيقة أنهما لم يكونا من أهل مشرب واحد . فتلك كانت على حظ وافر من الرقة والحساسية والفهم والدراية عكس رشيد .
أيام في اربيل
لما قفل رشيد عائداً من الهند في وقته ، لم يستقر في كركوك لسبب من الأسباب . بل رحل إلى أربيل ، وفتح لنفسه مقهى هناك . فسارت أموره على خير ما يرام . ، أو بتعبير أدق أكثر مما تتحمله الظروف المعيشية السائدة آنذاك . إذ بحكم كون رشيد قارئ مقام القوريات التركماني من الدرجة الأولى ، فأن زبائن المقاهي الأخرى من محبي الاستماع إلى المقام المذكور، أخذوا بالنزوح إلى مقهاه شيئاً فشيئاً بمرور الأيام . في حين أن مدينة أربيل في تلك الأيام لم تكن بمدينة مزدحمة بالسكان . ولذا فلقد غدا أصحاب المقاهي الأخرى على وشك الإفلاس بسببه ، لاسيما وإن الكساد الاقتصادي كان أخذاً بخناق الناس على الصعيد العالمي بصورة عامة وعلى رأسها أوربا وأمريكا بالذات في تلك الأيام ، أي أوائل الثلاثينات تحديداً . لذا فلقد تلقى رشيد إنذاراً ذات يوم من أصحاب المقاهي المحليين هؤلاء يفيدون بصريح العبارة:
ـ أنك تسببت في انقطاع أرزاقنا فأصبحنا جميعاً على وشك الإفلاس . فندعوك إلى تكون رجلاً واعياً ومدركاً للواقع بأن ترحل عن هذه المدينة . وقد أعذر من أنذر !
في تلك الأيام كان ثمن كأس الشاي في المقاهي فلسان اثنان فقط، فهل يستحق الأمر الشجار والتذابح في سبيل ذلك يا ترى ؟ كلا ولا سيما فأن رشيد حديث عهد بالخروج من السجن . لذلك باع المقهى إلى شخص لقاء مبلغ قدره مائة وثمانون ديناراً . وأعتزم مغادرة أربيل . في الليلة التي تم فيها استلام المبلغ وتقرر تسليم المفاتيح غداتها ، جاء البعض من أغوات أربيل من محبيه لوداعه . بطبيعة الحال تحول الأمر إلى الغناء والطرب كالعادة ولا سيما فإنها آخر ليلة في أربيل . إذن بصوت أغنية يصل إلى أسماعهم ومن الدرجة الأولى فنياً وهو يقول :
كل برى كوزوم شريف
سن عاقل اول من عريف
ميدانى بوش بولوبسان
بيلميسه ن بوردا واريخ
ما لبث من وراء ذلك أن ولج (محمد جلبوين) المطرب الشعبي التركماني هو الأخر ، إلى داخل المقهى . وهو بزي شرطي كان يخدم في أربيل . الظاهر إنه جاء للتوديع كذلك .
بعد أن أنفض الجميع وتبسط الاثنان في الحديث .. فهم رشيد بأن الرجل بحاجة ماسة إلى مائة دينار . ما كان منه ألاّ أن أخرج مائة دينار من المبلغ الذي أستلمه كثمن للمقهى فنقده إليه عن طيب خاطر !
من قبيل الاستطراد أود أن أذكر بأن جلبوين هذا كان قارئ قوريات ذو باع هو الأخر في زمانه . فلقد وصل صيته إلى أسماع المطربة الشهيرة زكية خانم الأرمنية فاشتاقت إلى سماع صوته وألحت عل ذلك بواسطة رسول . فتم الاتفاق بشق الأنفس على أن تجلس هي في أحد الشبابيك المطلة على السوق من الخان ، الذي كانت قاطنة فيه مع أهلها والواقع في بداية سوق القورية على يسار الداخل من جانب مقهى أحمد آغا ، وأن يجلس هو في مكان الحلاق الكائن أمام باب الخان المذكور لكي يسمعها ببعض القطع من قورياته . ذلك هو ما حصل . وكان وقعها عندها عظيماً جداً على ما يروي الشقاة . والآن فلنعد إلى ما نحن فيه . إذ عاد رشيد إلى كركوك وفي جيبه ثمانون ديناراً فقط . علماً أن ثمن الحقة الواحدة التي تساوي الكيلوين ونصف الكيلو من سمن الغنم كان مائة وخمسون فلساً وسعر الرز ستة وخمسون فلساً . نفس القوة الشرائية لمبلغ مائة دينار تلك الأيام .
مخدرات ورصاص
واجه رشيد في كركوك منافسا آخر هذه المرة . أما هذا فلم يكن من جراء زبائن أقداح الشاي .. بل بسبب بيع جرعات المواد المخدرة ! التي كانا هما الموزعان الرئيسيان لها لفترة طويلة من الزمن . وكان يجري محاسبتهما من قبل السلطة وحدهما دون غيرهما . إذ من الذي كان يقوم بتجهيزها لهما طي الخفاء .. ذلك مالم يهتم به أحد من قبل المسؤولين هكذا أن الذين تناولوا لب الرقي كان نصيبهم الخلاص والذين اقتاتوا بالقشرة ، أنزل فيهم القصاص كما يقول المثل التركماني . فهؤلاء قد جنوا الأرباح الطائلة من وراء الستار .. أما هذان فكثيراً ما تعرضا للحساب والعقاب . دام الحال على هذا المنوال ، حتى صدور قانون منع الاتجار بالمواد المخدرة أو تناولها بشكل صارم في عام 1958 . يعيد بضع سنوات من ذلك التاريخ . كان علي مردان قد ترك المهنة وآوى إلى دار العجزة التي كنت على رأس إدارتها . فسألته عن سبب عدائه الشديد لرشيد – كان جوابه : - انه بذيء اللسان !
حدث قبل ذلك بمدة تقدر بحوالي سبعة أو ثمانية أعوام ، قام علي مردان من محله في المقهى قبيل أذان العشاء ، وأتخذ سبيله نحو السوق الكبير عن طريق فرعي في سوق الصفافير وهو شاهر المسدس في يده .. لم يلبث إن عاد أدراجه بعد دقائق قليلة واستوى في مقعده بكل بهدوء وكأن شيئا لم يحدث ، رغم قيامه بتسديد عدد من الاطلاقات على رشيد الجالس في باب المقهى آمناً مطمئناً . وقد أصابت طلقة واحدة منها في حلقه . ورغم أن الإصابة في الحلق على جانب كبير من الخطورة، إلا أن رشيد قد أجتازها بسلامة . أما علي مردان فقد أجتاز مخاطر الحبس جراء ذلك بسهولة بدوره . أما كيف حدث ذلك بالضبط ، لست أدري . لكنه لم يسلم من انتقام رشيد بالطبع . فكان علي مردان يبيت في المقهى عادة ولا يغادر إلى البيت . ففي ذات ليلة بينما كان غارقاً في النوم أمام المقهى ، لكون الموسم صيفاً ، جاءه رشيد على غفلة وبرفقته صديقه( قرة )الخباز ،واعملا فيه طعنا بالسكاكين . لكنها لم تكن قاتلة . إذ سرعان ما شفي منها بفضل معجزة الطب الحديث . ولم يتعرض رشيد للسجن من جراء ذلك كما أعتقد ،لأن علي مردان قد صفح عنه ولم يقدم أي دعوى ضده . لكونه قربيه كما ذكر لي . أما قره فكان صديقاً حميماً لرشيد ، رغم فارق العمر بينهما ، ويقلده من بعض النواحي . ففي أعوام 46 – 48 لما أخذ يدب فيه عنفوان الشباب ، كان يلف يشماغه على رأسه مثل رشيد ، يدب خطواته مثله ، ويقلده في الحركات . فكان يبدو وكأنه صورة مصغرة له ، لما يمشيان سوية . غير أن ملازمة قره لرشيد لم تعمر طويلاً . إذ إنه ما أن أسس مخبزا حتى تفرغ لمهام عمله كلياً ، وقيض له من تكوين شخصية رزينة ومحترمة لنفسه بمرور الأيام .
اتفاقية الجنتلمان وجعاو القصاب
فلنعد إلى صاحبينا رشيد وعلي مردان . يمكن القول أنه كان ثمة نوع من اتفاقية بين هذين المتنافسين العدوين اللدودين . لاحظوا كيف كان ذلك . فكل واحد منهما كان (جنتلمان) يأبى أن يقر في مخفر الشرطة أو أمام المحكمة ويأنف أن يدعى بأن الطرف المقابل قد وجد في نفسه الجرأة اللازمة للاعتداء عليه وإيقاع الأذى به . فكانا يعتبران ذلك ذلاً وهواناً في حساباتهما الشخصية وتقيمهما للأمور . فكانا يخرجان من مجلس المرافعة بطريقة التنازل أو المصالحة ! وكل واحد منهما يمضي في سبيله.
وقد تعرض رشيد كوله رضا ، تعرض لتجاوزات أشخاص أخرين كذلك وبدون أي سبب موجب من جانبه بل ظلماً وعدواناً . تلك هي الظاهرة الغريبة التي كان يشكو منها دوماً . إذ يروى عنه بأنه كان يندب حظه لدى خلانه أحيانا قائلاً : ما العمل . إذا أي فتى شب عن الطوق وقويت عضلاته ووجد في نفسه شيئاً من روح (الأبوجاسمية) ، إذا به يثبت الوجود أمام المقهى وهو يقول :
- لأفعلن بك كذا وكذا يا رشة ! .
وقد شاهدت بالفعل ً شخصياً ذات ليلة في ملهى الفارابي الصيفي في كركوك ، في الخمسينات ، المصارع( جعاو القصاب) ، وقد ضربت الخمرة في رأسه ، وقد قام من كرسيه فهجم على رشيد الجالس مع بعض أصدقائه في أحدى المقصورات . سرعان ما هرعت أفراد الشرطة وسحبوا جعاو جانباً . ألاّ أنه لم يرتدع . وأعاد الكرة ثانية وكان رشيد يقول :
- شاهدوا يا جماعة .. ما الذي يريده مني يا ترى ؟
فوجد جعاو نفسه في الشارع هذه المرة . بعد انقضاض الحفل وجدت في طريقي أن جعاو والبطل الذي كثيراً ما صفقنا له في حلبة (الزورخانة) في الأعياد ونحن صغار ، جالساً على أحدى المقاعد لمقهى معزول ، مقابل كازينو المجيدية فكان يتربص طريق رشيد على ما يظهر . لم يكن بيننا وبينه أية معرفة سابقة . لذا لم نجد في أنفسنا الحق في توجيه أي كلام.
مواقف حاتمية
كان رشيد سخياً جواداً كما رأينا موقفه مع المغني محمد جلبوين. إذ حسب ما ذكر لي صديقي المرحوم ملك الخطاط . بأنه كان معتاداً على تزويد اللحوم إلى بيوت أقاربه عموماً سواء كانوا أغنياء أومن المتعففين أيام (عرفة) والأعياد الدينية المباركة . ولرب من قال له : ((بابا أنت أبعث هذا لمن هو أحوج له هذا غني !)) فكان جوابه على ذلك : لا تهتم . إذ أن الفقراء المستحقين بدورهم أيضاً قد أرسلت حصصهم إليهم.
في ذات مرة ، حصل توزيع مبالغ وراثة بين أفراد الأسرة وكان نصيب رشيد أكثر من ثمانية آلاف دينار في وقت كان سعر المثقال الواحد من الذهب دون الثلاثة دنانير . لكن المبلغ المذكور لم يجد إلى جيب رشيد سبيلاً .. إذ وهبه في الحال إلى سيدة مترملة من أقاربه .
كان من دأبه حمل الطعام إلى الغرباء النازلين في خان البلدية من الآذريين والأتراك في الثلاثينيات أسوة بالمرحوم سليمان آغا الكدك أبو فاتح في كثير من الأحيان .
في أواخر أيامه أخذ يمارس تجارة الخيول والبغال . دخل في ذات يوم في مساومة على بغل أبيض مع الدلالين خليل وسمين – في نهاية المطاف رسى البيع المذكور لصالح رشيد بمبلغ ثمانية دنانير بعد أن نقد الثمن إلى صاحب الحيوان ، وقبض على زمامه ، عاد وسلمه إلى الدلالين المذكورين قائلاً :
-هاكم إياه وقوما ببيعه بمعرفتكما . ومن ثم أتوني بالمبلغ الثمانية دنانير فحسب .. وما حصل شيء من الربح فأقتسماه بينكما بالمناصفة . لما أستفسره أحد الواقفين عن مغزى ذلك كان جوابه :
ـ فلينتفعا هما من وراء ذلك بعض الشيء !
بعد عودته من الحج ، تزوج بسيدة أرملة لم تكن غريبة عليه . وأبتاع داراً مطلة على الجسر الحجري في رأس القلعة ، سكن فيها مدة ومن ثم عاد وأستأجر داراً لنفسه في محلته القديمة كما وأجر الدار المذكورة إلى شخص أخر . لكن هذا الشخص لم يلبث أن أصيب بضائقة مالية على أثر حالة طارئة من تصاريف الحياة ، فأعفاه رشيد عن كلفة الإيجار طيلة ثماني سنوات .
رشه مغنيا
التطرق هنا إلى الشخصية الفنية لرشيد كوله رضا كمغني شعبي لا يتعدى كونه إعلاماً للمعلوم فحسب . إذ كان في عداد الأوائل لمطربي الغناء التركماني الأصيل على مدار عمره . فكان المرحوم الشيخ حبيب الطالباني رئيس البلدية في وقته والحاكم الشيخ نجم الدين وشامل بك اليعقوبي رئيس البلدية كذلك ، على قائمة المحبين للاستماع إلى صوته . حتى أنه لما كان مشغولاً بمعاملات السفر الرسمية بغية أداء فريضة الحج ، إذا ترده دعوة من بعض رؤساء عشيرة الطالبانية لحضور مجلس طرب . لم يستجب . على أساس أنه في طور الاستعداد للسفر إلى الأراضي المقدسة .وقد أجرى التلقيح في المستشفى لذلك الغرض فأعتذر قائلاً : لقد أنقضى ذلك العهد ومضى ! . فلقد طرق ذلك سمعي ، عن لسان أخي بهاء الدين المرحوم الذي كان حاضراً في المقهى تلك الساعة
أما من الناحية الفنية فقال بأنه كان يخشى الفنان مشكو الأربيلي ويحاذر من بزوان الخنجرجي أثناء المنازلة الغنائية ان جاز التعبير .. على أساس أن مشكو يعض خصمه خلال التراشق بالخوريات .. وبزوان قد يؤلف قطعة قوريات من وحي نفسه في الحال ، غير مألوف أو مسموح ، فيعجز المرء عن إتيان ما يعادله ، فيقع في موقع حرج ويغلب على أمره .
حسب تقييم رشيد، لزملائه الفنانين المعاصرين له، إن عز الدين نعمت القصاب أستاذ. وأن عبد الواحد الكوزه جي قد بيّض وجوه المغنين التركمان بحق!.
يستخلص من دراسة سيرة رشيد المرحوم ، إنه كان له مباديء خاصة سواء كان في حياته الخاصة أو العامة على حدٍ سواء .
على سبيل المثال أن الحاج عزة القصاب قد أصيب بألم الأسنان ذات يوم بشكل مبرح . فناول درهمين لأبن أخيه حسام قائلاً : خذ هذا يا ولدي وأسرع إلى مقهى رشة وأجلب لي شيئاً من الترياق لكي أضعه على أسناني .
كان حسام في حدود الرابعة عشر من العمر تلك الأيام .. وبحكم التربية والأدب ، لم يمتنع عن الذهاب إلى ذلك المقهى الغير المرغوب كثيراً .بل بارح وقدم الدرهمين إلى رشيد قائلاً وهو يرتجف حياءً:
ـ أن عمي الحاج عزة ليشكو من ألم الأسنان ، ويرجو تزويده بشيء من العلاج
- قل صدقاً يا ولدي .. مالك بهذا السم ؟ نحن هم الذين وضع الله الطين على رؤوسهم . عسى أن لا يكون الشيطان قد أضلك عن سواء السبيل ، إنني لا أعرف عمك . ومن ثم استدار نحو الجالسين وهو يقول :
- يا جماعة كونوا شهوداً . ومن ثم أخرج قطعة من المادة المطلوبة وبتعبيرهم الخاص (حبة حمصاية) فناولها إياه . فأسكن الحاج عزة وجع أسنانه بذلك .
ذلك ما حكاه حسام به نفسه .
رأيته قبيل رحيله بعامين أو ثلاثة . كان قد بلغ من الشيخوخة عتياً . فكان ماضياً في سبيله إلى المنزل بصحبة زوجته.. وفي أواخر أيامه ألتوت قدمه وخلعت من مفصلها . ولعدم مراجعته الطبيب قد عجز عن المشي وعانى ألاماً مبرحة من وراء ذلك . في عام 1974 أنتقل إلى رحمة الله . وهكذا ألتحق فنان مقتدر إلى زمرة الخالدين في ذاكرة الناس في كركوك وأطرافها .
1545 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع