لماذا إختار الوصي عبد الاله البصرة بعد هروبه من بغداد سنة ١٩٤١
بعد إستقالة الكيلاني ألف طه الهاشمي الوزارة الجديدة في الأول من شباط 1941، إلا ان هذه الوزارة الجديدة ـ التي كانت بمثابة وزارة إنتقالية ـ فشلت هي الأخرى في التوفيق بين قادة الجيش والساسة المناهضين لبريطانيا من جهة وبين الوصي ونوري السعيد وجناحهم الموالي لبريطانيا من جهة أخرى.
كما أن بعض قراراتها المتعلقة بتقليص نفوذ العقداء الأربعة قد نتج عنها أزمة إنعدام الثقة بين رئيس الوزراء وقادة الجيش الذين أصبحوا القوة المسيطرة على زمام الموقف عليه أجبروا طه الهاشمي هو الآخر على الاستقالة، الا ان الوصي رفض قبولها واستطاع الهروب مرة ثانية إلى الحبانية ومنها إلى البصرة ليقود منها الحركة المضادة للوضع الجديد.
كان هروب الوصي قد دفع قادة الجيش إلى إتخاذ خطوة جريئة بتشكيل حكومة عسكرية في 3 نيسان 1941 تتولى مسؤولية الحكم عرفت باسم (حكومة الدفاع الوطني) برئاسة رشيد عالي الكيلاني، وفي مساء اليوم نفسه أذاع رئيس أركان الجيش أمين زكي بيانًا على الشعب العراقي أتهم فيه الوصي بارتكابه لمجموعة من المخالفات، وأعقبه رشيد عالي الكيلاني ببيان آخر أوضح فيه الأسباب التي دعته إلى تحمل المسؤولية، وان برنامجه في الحكم يكون إستمرارًَا لمنهاج وزارته السابقة، كما دعا الشعب إلى مؤازرة حكومته وتأييدها.
الوصي عبد الإله في البصرة:
لماذا اختار الوصي مدينة البصرة بعد هروبه من بغداد دون غيرها من المدن العراقية فذلك يعود لأسباب متعددة منها:
1 ـ لانها المدينة الثانية بعد بغداد ولانها ميناء العراق الوحيد وتقع على الخليج العربي الذي هو من ضمن مناطق النفوذ البريطاني.
2 ـ لانه كان مقتنعًا بان الوجود العسكري البريطاني في البصرة سيدعمه عندما يقوم بحركة مضادة لحكومة الدفاع الوطني.
3 ـ لان في البصرة متصرفًا هو صالح جبر الداعم والمؤيد للوصي ولسياسته.
على أية حال إنتقل الوصي ومرافقوه وهم كل من علي جودت الأيوبي وجميل المدفعي والنقيب عبيد الله المضايفي من الحبانية إلى القاعدة البريطانية، في الشعيبة
ومنها إلى فندق شط العرب في المعقل مساء يوم 3 نيسان 1941 وفي الفندق المذكور كان المتصرف صالح جبر أول من حضر لزيارته والالتقاء به، كما جاء لمقابلته كل من قائد قوات شط العرب أحمد رشدي وآمر حامية البصرة العقيد رشيد جودت، أما من البريطانيين فقد زاره كل من قائد القوة الجوية البريطانية في قاعدة الشعيبة والمستر وارد مدير الميناء والكابتن ميلنك ضابط الاستخبارات في القنصلية البريطانية في البصرة.
وخلال المباحثات التي جرت بين الوصي وبين قادة الجيش في البصرة طلب الوصي من آمر حامية البصرة باعداد قواته للتوجه نحو بغداد من أجل القضاء على حكومة الدفاع الوطني
كما أخبره بان هناك قوات بريطانية كثيرة مزودة بالأسلحة والمعدات ستنضم إليه عند التوجه نحو بغداد إلا ان العقيد رشيد جودت قد تسلم في الوقت نفسه برقية من رئاسة أركان الجيش تطلب منه ضرورة السيطرة على الموقف، لذا إنعقد مؤتمر عسكري حضره قادة البصرة من آمري الأفواج والوحدات والتشكيلات العسكرية واتخذوا ما يلي من القرارات:
1 ـ رفض التقدم نحو بغداد مهما كانت الأسباب.
2 ـ عدم جعل البلاد ساحة قتال والدخول في صراعات داخلية كما حدث في أسبانيا.
3 ـ تعتبر رئاسة أركان الجيش المصدر القيادي الأعلى لاصدار الأوامر ووجوب تنفيذ ما يصدرعنها.
4 ـ عدم السماح للقوات البريطانية بالانزال في البصرة إلا بعد إستحصال موافقة رئاسة أركان الجيش.
5 ـ رفض تشكيل حكومة أو إدارة مدنية أو عسكرية في البصرة مما يعد عملا ضد الحكومة الشرعية في بغداد.
6 ـ المحافظة على سلامة الوصي طالما هو في البصرة ومنع أي اتصال معه أو تجاوز عليه.
7 ـ الحفاظ على الأمن العام وعدم فسح المجال للفوضى والمحافظة على الهدوء والاستقرار في المدينة.
وقد دلّ هذا الموقف على أن القادة العسكريين بالرغم من علمهم بقوة الإنكليز ودعمهم للوصي، إلا ان إيمانهم العميق بوطنيتهم دعاهم إلى موقف تجسد في القول: ((ليس من المعقول ان نسير إلى جانب الإنكليز ونقاتل أخواننا بالدم ونجلب على أحفادنا لعنة التاريخ)) لذلك إندفعوا لاتخاذ تلك الإجراءات من أجل دعم الحكومة الشرعية في بغداد.
وفضلا عما تقدم فان قادة الجيش قرروا في إجتماع آخر عقدوه في مقر اللواء في الجبيلة على فرض السيطرة على وسائل الاتصالات الهاتفية والبرقية ومراقبة المتصرف والمقربين منه ومنعهم من الاتصال بأي جهة كانت، وكذلك مصادرة البيانات المعدة للنشر من قبل الوصي واخضاع جميع الدوائر والمؤسسات ومراكز الشرطة إلى سيطرة مقر الحامية.
وهكذا فشلت جميع محاولات الوصي لشق الجيش على نفسه والتأثير على حامية البصرة ودفع ضباطها لاتخاذ موقف مناوئ لحكومة الدفاع الوطني.
عزل متصرف البصرة صالح جبر:
في يوم الجمعة الموافق 4 نيسان 1941 وصلت برقيتان إلى البصرة. الأولى من رشيد عالي الكيلاني بصفته رئيسًا لحكومة الدفاع الوطني ومعنونة إلى متصرف البصرة يعلمه فيها بقرار عزله، أما الثانية فقد وردت من رئاسة أركان الجيش إلى آمر الحامية في البصرة تتضمن القاء القبض على المتصرف صالح جبر وإرساله مخفورًا إلى بغداد.
وعلى أثر ذلك وضع حرس خاص حول دار المتصرف واقتيد بحراسة ضابط برتبة رئيس إلى بغداد، وفي العاصمة بقي رهن التوقيف لمدة عشرة أيام انتهت بفصله عن الخدمة لمدة خمس سنوات والسماح له بالذهاب إلى إيران حسب رغبته.
ثم وصلت إلى البصرة بعد ظهر يوم الجمعة 4 نيسان 1941 برقية أخرى من رئاسة أركان الجيش تقضي بمنع الوصي عبد الإله من الاتصال بأي جهة كانت، وقد طلب آمر الحامية من مقدم لوائه الرائد عامر حسك بتنفيذ مضمون البرقية، وقد أخذ الأخير ثلة من عشرين جنديًا وذهب بهم إلى فندق شط العرب في الوقت الذي قطعت فيه خطوط الهاتف عن الفندق، وعند وصوله إلى الفندق لم يجد الوصي، إذ غادره إلى جهة مجهولة بعد ان علمت دوائر الاستخبارات البريطانية بمضمون برقية رئاسة أركان الجيش.
ويبدو واضحًا ان الوصي قد أصبح موقفه صعبًا بعد وصول برقية رئاسة أركان الجيش التي تقضي بمنعه من الاتصال بالخارج، كما أشارت بعض تقارير مديرية شرطة البصرة بان قطع الخطوط الهاتفية مع القاء القبض على المتصرف وسوقه إلى بغداد قد أثارت استياءه واستياء مرافقيه لذا قرروا ترك فندق شط العرب وتوجهوا صحبة الكولونيل وارد مدير الميناء إلى مقر القوة الجوية في الشعيبة، ومن هناك تم الاتفاق على نقلهم إلى السفينة البريطانية (كوك شبير) الراسية في شط العرب.
بدأ الوصي من مقره الجديد محاولاته اليائسة باثارة أهل البصرة ضد حكومة الدفاع الوطني عبر سلسلة من الحملات الدعائية ضدها.
فقد أذاع في 4 نيسان 1941 بيانًا على الشعب العراقي طلب فيه من الجيش والشعب القيام بحملة لإسقاط حكومة رشيد عالي الكيلاني، إلا ان هذا البيان وغيره من البيانات الأخرى لم تؤثر في مشاعر الناس ولم يكن هناك أي تجاوب معه.
وكانت متصرفية لواء البصرة قد أرسلت تقريرًا مفصلا إلى وزارة الداخلية أوضحت فيه هدوء الحالة العامة في البصرة وان الجماهير البصرية تؤيد وتدعم حكومة الدفاع الوطني، كما ان إجراءات المراقبة والأمن الحازمة التي إتخذت من جانب الجيش والشرطة قد حالت بين الوصي و إتصاله وتأثيره في الأهالي.
تنحية عبد الإله من الوصاية والمناداة بالشريف شرف وصيًا جديدًا على عرش العراق:
على أثر خلفية التطورات السياسية هذه وغياب الوصي عن موقع المسؤولية دعت حكومة الدفاع الوطني إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمة ودعت النواب لحضوره، وكانت وزارة الداخلية قد أرسلت برقية بهذا الخصوص إلى المحافظات كافة ومنها البصرة، وقد حضر إلى بغداد مندوبو البصرة وهم كل من الشيخ صالح باش أعيان ومحمود النعمة والسيد حامد النقيب وعبود الملاك ومصطفى الحاج طه السلمان ومحمد سعيد العبد الواحد، وعند اجتماع المجلس تقرر بالاجماع تنحية عبد الإله من وصاية العرش وتنصيب الشريف شرف مكانه.
أما بالنسبة إلى الوصي فانه على الرغم من تنحيته من الوصاية لم يغادر البصرة بل بقي فيها مستمرًا على إتخاذ البارجة البريطانية مقرًا له، ولكن يبدو من سياق الأحداث أنه فشل في إستمالة السكان والشخصيات المهمة فضلا عن القيادات العسكرية، وكان كورنواليس السفير البريطاني الجديد في بغداد قد أشار في أحد تقاريره إلى وزارة الخارجية البريطانية إلى الوضع السيئ الذي كان عليه عبد الإله، كما أن الأحداث في البصرة قد خيبت، كما رأى، كل آماله في عبد الإله وفي إمكانياته في إنشاء مركز قوي موالٍ له في البصرة ليتمكن من خلاله تحدي القوى المعارضة له في بغداد، لذا تقرر العمل على نقله ومرافقيه يوم 15 نيسان 1941 إلى القدس.
وهكذا يتضح مما تقدم ان عبد الإله يتحمل المسؤولية المباشرة في تأزم الأوضاع، إذ بهروبه من بغداد واعتماده على دعم الإنكليز قد عمق من أزمة إنعدام الثقة بينه وبين العناصر القيادية في الجيش العراقي، كما أن فشله في حل المشاكل التي حصلت نتيجة إختلاف الآراء بين القوى السياسية وقادة الجيش قد هيأ الجو المناسب لبريطانيا على إستغلال هذه الخلافات للتدخل المباشر في شؤون العراق واحتلال البصرة.
د. سامي عبد الحافظ القيسي/ المدى
742 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع