قصر الرحاب مقر العائلة المالكة في العراق حيث وقعت المجزرة
قاسم وعارف لم يستنكرا حادث مقتل العائلة المالكة، ولم يحاكم القاتل بتاتا، مما يعطي انطباعات بوجود أوامر سرية بقتل الملك!!.
الجزيرة/الموصل:في 14 يوليو/تموز 1958، استفاق العراقيون على مجزرة دامية جرت أحداثها في قصر الرحاب بالعاصمة بغداد، إذ استطاع زعيما تنظيم الضباط الأحرار عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم الإطاحة بالحكم الملكي العراقي وإعلان تأسيس الجمهورية، بعد قتل جميع أفراد العائلة المالكة وعلى رأسهم الملك فيصل الثاني (23 عاما) والوصي على العرش عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد، في مجزرة لا يزال المؤرخون يكتبون عنها حتى يومنا هذا.
محاباة الشيوعية
اختلف المؤرخون في تسمية هذه الحركة ما بين الانقلاب أو الثورة، إلا أن ما يجمعون عليه هو أن العائلة الحاكمة قتلت بطريقة بشعة، وكان من الأولى نفيها إلى الخارج كما حدث في الثورة المصرية عام 1952، حيث تم نفي الملك فاروق دون إراقة الدماء.
ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة الموصل محمود عزو إن أسباب الانقلاب أو ثورة 1958 بالعراق لا تتعلق بالداخل العراقي فحسب، بل هناك جملة من الصراعات الدولية بين المعسكرين الشرقي والغربي، وهو ما دفع كثيرا من الحركات الشبابية والعسكرية إلى أن تُؤدلَجَ وفق الفكر الشيوعي والانقلاب الجذري في المجتمع.
ويتابع عزو في حديثه للجزيرة نت أن ما حدث كان محاباة للفكر الشيوعي الذي كان يتوسع في المنطقة حينها، وبالتالي استغل قادة الثورة وضع النظام السياسي في عهد الملكية العراقية التي وصف نظامها بـ"الديمقراطي الهش"، حيث لم يتقبل العسكريون والساسة التغيير المستمر للوزارات العراقية آنذاك.
وعن حيثيات المجزرة، يرى العزو أن التجربة العراقية كانت عنيفة ودامية مقارنة بالتجارب العربية، كما حدث في مصر التي نفت ثورتها الملك ولم تقدم على قتله، على عكس التحريض الكبير الذي حصل ضد العائلة الحاكمة بالعراق.
أما الكاتب مجيد خدوري، فيقول في كتابه "العراق الجمهوري" إن أسباب الثورة عميقة وتكمن في أن الجيل الجديد في العراق شعر بالهوة التي تفصله عن الجيل القديم، فسعى إلى الاشتراك في السلطة ولم يجد المجال حيث كان مضطهدا، بحسبه.
ويضيف أنه على إثر ذلك، بدأت روح التذمر من الأسفل إلى الأعلى، وفي الوقت ذاته كان ذاك الجيل يشعر بقوته وقابلياته للمشاركة في الحياة العامة، لكنه لم يجد مجالا للاشتراك فيها، فحصل الضغط الاجتماعي الذي ترجمه تنظيم الضباط الأحرار في الثورة التي جرت عام 1958.
حيثيات المجزرة
وبغض النظر عن كيفية التهيئة للثورة وكيفية تشكيل تنظيم الضباط الأحرار، يقول المؤرخ وأستاذ التاريخ المعاصر في جامعة الموصل إبراهيم العلّاف إن من قاد الثورة هم كل من عبد السلام عارف الذي أذاع بيان الثورة من مبنى إذاعة بغداد، يرافقه في التخطيط والتنفيذ عبد الكريم قاسم الذي كان يشغل منصب آمر اللواء 19 في الجيش العراقي، والذي كان قد تحرك ليلة الثورة من ديالى نحو بغداد.
ويتابع العلاف -في حديثه للجزيرة نت- أن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف هما من قاد ونفذ الثورة فعليا، حيث إنهما قررا قبيل ذلك قتل كل من الوصي عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد والملك فيصل الثاني لتلافي ثورة مضادة داخلية أو تدخل أجنبي لإعادة الملكية، رغم أن تنظيم الضباط الأحرار أجمع على قتل عبد الإله ونوري السعيد دون البت في مصير الملك فيصل الثاني.
ويكشف العلاف أنه في صبيحة الاثنين 14 يوليو/تموز 1958، حاصر الضباط الأحرار قصر الرحاب، وكانت القوات المهاجمة أضعف وأقل قدرة وتسليحا من قوات الحرس الملكي بكثير، إلا أن الوصي عبد الإله كان يرغب في ترك العراق وتنازل الملك فيصل الثاني عن العرش، ولذلك رفض أن يعطي الأوامر للعقيد الركن طه البامرني -آمر الحرس الملكي بقصر الرحاب- بإطلاق النار على المهاجمين.
وبحسب العلاف، أراد عبد الإله مفاوضة ضباط الثورة من أجل السماح له بمغادرة العراق، حيث خرج ومعه الملك فيصل الثاني والملكة نفيسة والأميرة هيام إلى الشرفة، وانطلقت بعض الرصاصات من ورائهم، إلا أن الوضع المتوتر وخشية القوة المهاجمة من العواقب، أدى إلى إصدار الضابط عبد الستار العبوسي أوامره بإطلاق النار على الملك والوصي والعائلة المالكة بمن فيهم النساء، فسقطوا مضرجين بدمائهم إلا الأميرة هيام التي أصيبت.
وجدير بالذكر أن قاسم وعارف كانا من أبرز الضباط في الجيش العراقي إبان الملكية، وكانا مسؤولين عن قطعات عسكرية كبيرة، كما يقول الكاتب جمال مصطفى مردان في كتابه "عبد الكريم قاسم البداية والسقوط" إن النواة الأولى لتنظيم الضباط الأحرار تأسست عام 1954.
ويضيف الكاتب أن التنظيم أيّد دعوة قاسم للانضمام إلى التنظيم بسبب سمعته العسكرية الجيدة وقيادته للواء "19" مشاة المنصورية، إذ رأت الحركة أنه مهم للإطاحة بالحكم الملكي، وبعد انضمامه للحركة انتخب رئيسا لها عام 1957 رفقة عبد السلام عارف.
روايات متضاربة
من جانبه، يقول المؤرخ العراقي مؤيد الونداوي إن قادة تنظيم الضباط الأحرار لم يتوصلوا في اجتماعاتهم قبيل الثورة لتصور نهائي عن ماهية الحالة التي سيكون عليها العرش في العراق، إلا أن رؤيتهم كانت تصب في محاكاة التجربة المصرية عام 1952 بنفي الملك ومن ثمّ قتل الوصي ورئيس الوزراء، وذلك خشية مما حدث في ثورة مايس (مايو/أيار) 1941، وقدرة استمرار العائلة المالكة على العودة مجددا بدعم بريطاني.
ويتابع الونداوي -في حديثه للجزيرة نت- أن أحداث 14 يوليو/تموز بقيادة عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم جرت دون اطلاع تنظيم الضباط الأحرار، وبالتالي لم يكن لدى تشكيلات التنظيم علم بالذي سيجري في ذلك اليوم.
وبحسب الونداوي، فإن القطعات التي دخلت بغداد ونفذت الثورة كانت بقيادة عبد السلام عارف الذي أذاع بيان الثورة، حيث إن عبد الكريم قاسم دخل العاصمة بغداد بعد أن انتهى كل شيء.
وعن مقتل العائلة المالكة، يضيف أن القوة المهاجمة لقصر الرحاب كانت صغيرة وبحاجة للعتاد، وبالتالي طلب من معسكر الوشاش في بغداد (منتزه الزوراء حاليا) مساندة القوة المهاجمة، حيث كان الرائد عبد الستار العبوسي على رأس هذه القوة التي انضمت للمهاجمين في قصر الرحاب.
وعلى الرغم من استسلام البيت الملكي، بحسب الونداوي، فإنه في خضم الفوضى التي حصلت حينها، شرع الضابط عبد الستار العبوسي بإطلاق النار على العائلة المالكة، فأردى الجميع قتلى في الحال باستثناء الأميرة هيام.
وعن مدى مشاركة عبد الكريم قاسم أو عبد السلام عارف في أوامر القتل، يضيف الونداوي أن الوقائع لم تثبت أي شيء في هذا القبيل، إلا أن تحريض عارف على العائلة المالكة كان حاضرا بقوة عبر بيان الثورة الذي اذاعه الأخير، بل إن حادث مقتل العائلة المالكة لم يُستهجن أو يُستنكر من قبل قائدي الثورة، ولم يحاكم العبوسي بتاتا، مما يعطي كثيرا من الانطباعات عن وجود أوامر سرية بقتل الملك دون وجود أدلة على ذلك.
تجارب سابقة
وتعليقا على ذلك، يرى العلاف أن مقتل العائلة المالكة بالعراق لم يكن الحادث الأول، إذ يشهد التاريخ على مقتل العائلة المالكة إبان الثورة الفرنسية 1789، ومقتل العائلة الملكية في روسيا إبان الثورة البلشفية عام 1917.
وبالتالي، يعلق العلاف بأن "الثورة عندما تقع، فإن أحداثا كثيرة ترافقها، ليس من السهل واليسير السيطرة عليها أو فلسفتها من الناحية العقلية والمنطقية"، مضيفا أنه ورغم ذلك فقد وضع قادة الثورة في أذهانهم ما حدث إبان حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وفرار الوصي الأمير عبد الإله والعائلة المالكة من العراق، ومن ثم الاستنجاد ببريطانيا وبالعائلة المالكة في إمارة شرقي الأردن للتدخل، حيث أحبطت الحركة حينها وعادت العائلة إلى بغداد".
ويتفق هذا الطرح مع الونداوي الذي يضيف أن قاسم وعارف كانا خائفين من ردات الفعل الدولية، خاصة من بريطانيا أو من حلف بغداد الذي كان يضم الولايات المتحدة وتركيا وإيران وباكستان، وخشيتهما من عمل عسكري ضد "الثورة".
وفيما يتعلق بالفوضى، يعلق الونداوي بأن "إثارة عارف للجمهور عبر بيان الثورة كان سببا في استثارة الجماهير التي وصلت لقصر الرحاب بعد أن قُتلت العائلة المالكة، غير أن هذه الجماهير أقدمت على إيقاف السيارة العسكرية التي نقلت جثث العائلة المالكة، حيث سُحبت جثة الوصي عبد الإله من السيارة ومَثّلت الجماهير بالجثة ثم سحلتها في شوارع بغداد".
ومن ثمّ، يشير الونداوي إلى أن قادة الثورة لم يمتلكوا القطعات العسكرية القادرة على وقف التصرفات الجماهيرية، إضافة إلى أن هذه الحادثة كشفت عن أمرين: أولهما التأييد الشعبي لما جرى، إضافة إلى عدم الإعداد العسكري الجيد للانقلاب أو الثورة.
دور بريطانيا
وعلى مدى العقود الماضية، طُرح العديد من التساؤلات عن دور بريطانيا فيما حدث في 14 يوليو/تموز 1958، حيث يرى أستاذ العلوم السياسية محمود عزو أن العراق قبيل الثورة كان عامل استقرار وتوازن إقليميا، وكان يشكل ضمن حلف بغداد جدار الصد في وجه التوسع الشيوعي.
ومع إتمام الثورة، بات العراق حليفا للمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، مما أدى بالبلاد إلى فقدان الاستقرار السياسي طوال العقود اللاحقة وما شابها من الانقلابات والأحداث الدموية التي بدأت بعد الثورة/الانقلاب بـ5 سنوات، وتمثلت في مقتل عبد الكريم قاسم عام 1963 ثم الاضطرابات التي لحقت ذلك حتى ثورة/انقلاب عام 1968 وما تبعها، بحسب عزو.
وعطفا على ذلك، يؤكد الونداوي أنه بعد مرور أكثر من 6 عقود على الحادثة، لا يتوفر دليل أو وثيقة تؤيد تورط بريطانيا أو الولايات المتحدة بما حدث في العراق، وبالتالي تظل الحادثة بعيدة عمّا وصفها بـ"المؤامرة"، خاصة أن الوثائق البريطانية التي كُشف النقاب عن سريتها لم تؤكد ذلك، بل كانت السفارة البريطانية ببغداد مطلعة على وجود تنظيمات الضباط الأحرار منذ عام 1957، وحذرت الحكومة العراقية حينها.
ويفصل الونداوي في ذلك ليشير إلى أن فكرة التدخل البريطاني الأميركي العسكري طرحت خلال اجتماعات الحكومة البريطانية في لندن، إلا أن تهديد الاتحاد السوفياتي حال دون ذلك التدخل لإنقاذ الملكية.
ويرى عزو أن الجمهورية التي أسسها عارف وقاسم كانت ملكية أكثر من الملكية ذاتها، إذ ما لبثت الخلافات السياسية أن دبت بين قائدي الثورة دون وجود برنامج سياسي واضح لهما، ثم إنهما سعيا للحكم المطلق كذلك، فلم تشهد البلاد أي نظام جمهوري ديمقراطي ولم تجر أي انتخابات دورية، وبالتالي شهدت البلاد العديد من الحركات والانقلابات الدموية التي لا تزال البلاد تعاني من تبعاتها حتى اللحظة.
648 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع