شهادة صالح البصام وعصمت السعيد عن هروب نوري السعيد ومصرعه
تعقيبا على ما ذكره السيد علي غالب مرتضى البصام عن هروب نوري السعيد فجر يوم 14 تموز 1958 ومصرعه في اليوم التالي ادرج هنا شهادة عيان للدكتور صالح البصام الذي يروي قصة الهروب والنهاية المأساة للباشا نوري السعيد.
وعن هرب نوري السعيد ثم مقتله يتحدث الدكتور صالح البصام في كتابه" فيقول" عند الفجر لعلعت أصوات الرصاص فبعثت أحد الخدم ليستفسر عن أسباب إطلاق الرصاص بهذا الشكل الكثيف فرجع وهو يرتجف وأخبرني بحدوث ثورة وإحاطة الجيش لدار نوري السعيد باشا بقيادة وصفي طاهر وقد أمر باطلاق الرصاص على القصر، ومن المفارقات المؤسفة أن وصفي طاهر كان مرافقا عسكريا لنوري السعيد سابقا وكانت له معرفة بمداخل القصر ومخارجه.
وقد طلب من الجنود والمراتب عدم الدخول الى القصر وترك هذا الأمر له لمعرفته بمداخل القصر وأنه سيقوم بالقاء القبض على نوري السعيد بنفسه، ودخل وصفي طاهر القصر فوجد الدار الأرضية فارغة إلا من الخبازة التي إعتادت أن تحضّر خبز التنور الساخن لنوري السعيد والذي يفضله عند تناول الفطور، وإضافة الى الخبازة وجد سائق نوري السعيد حاضرا وقد طلب منه السعيد البقاء تلك الليلة في بيته لينقله صباحا الى المطار ليصاحب الملك فيصل الثاني في سفره الى لندن- الصحيح الى تركيا- لحضور إجتماعات مجلس حلف بغداد، وأمر وصفي طاهر الخبازة أن تسرع لايقاظ نوري السعيد من النوم وأن تخبره أن إنقلابا عسكريا حدث في البلاد، وكان وصفي طاهر يقصد من ذلك حفظ خط الرجعة مع نوري السعيد منه إذا فشل الانقلاب إذ سيدافع عن نفسه إذا تم إتهامه بمشاركة الانقلابيين مشروعهم، وأنه قام باعلام نوري السعيد بخبر الانقلاب لتمكينه من الهرب ولينقذه من المتآمرين .
وكان نوري السعيد غارقا في نوم ثقيل بسبب كبر السن والجهود التي بذلها في العمل أثناء النهار السابق عند تأديته واجباته الرسمية في مكتبه وعندما إستيقظ وعرف من الخبازة بخبر الانقلاب العسكري أخرج مسدسين كانا مخبأين في درج الى جانب سرير نومه ولم يخرج من القصر عن طريق الباب الخارجي المؤدي الى الشارع العام بل سلك الطريق الى جهة النهر بلباس نومه( البيجاما) وفي قدميه النعال ونسي أن يلبس في دوامة أرتباكه طقم أسنانه وبعد أن إنحدر من المسناة الى جهة النهر رأى زورق أحد الصيادين راسيا قريبا من مسناة داره فركب الزورق وطلب منه أن ينقله الى جانب الرصافة،
ولكن عندما إقترب من الضفة الأخرى للنهر وَجَدَ جمعا غفيرا من الناس يستمعون للمذياع وهو يذيع بيان الانقلاب بصوت عبد السلام عارف ويدعو الناس الى نصرة الثورة والخروج الى الشوارع فتوجس نوري السعيد خيفة من جموع الناس وتحديقهم باتجاه الزورق القادم صوبهم من جهة قصر نوري السعيد فطلب من الصياد الرجوع والعودة به الى جانب الكرخ وإيصاله الى دار الدكتور صالح البصام صاحب المسناة المميزة وأشار له الى داري فعاد به الصياد الى الجهة الأخرى من النهر.( د. صالح البصام، مذكرات واسرار هروب نوري السعيد،دار الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2003، ص 119 –121 ).
وكان نوري السعيد قد تخفى في قعر الزورق ووضع عليه الصياد شبكة الصيد وعند وصول الزورق الى مسناة داري تسلّق السلم ودخل حديقة داري فاستقبله أخي المحامي مرتضى البصام الذي كان يومها يزورنا وأدخلته زوجتي الى غرفة الاستقبال وقدمت له طعام الافطار، وفي هذه الأثناء كنا نراقب الشارع فوجدناه بعد قليل وقد إمتلأ بالناس والجنود الباحثين عن نوري السعيد . وكانت الدقائق تمر بثقل شديد وكانت القلوب ترتعش لهول ما سيقع علينا جميعا لو عرف الجنود والناس بوجود نوري في دارنا، وقد كان الخوف يعم الجميع والرغبة العميقة بانهاء هذا الأمر بسرعة، وكانت كل المؤشرات تدلل على أنهم عما قريب سيدخلون داري للتفتيش عنه فارتأيت أن يتم نقله الى إحدى دورنا في مدينة الكاظمية حفاظا على حياته ومن محاسن المصادفات وصول إبن عمي المحامي صادق البصام الى دارنا قادما من الكاظمية ليطمئن على سلامتنا خاصة بعد سماعه أخبار إحاطة الجيش لدار نوري السعيد القريب من داري، فطلبت إحضار سائق سيارتي حسن الذي كان يسكن قريبا من داري، وأوضحت لابن عمي خطورة الموقف ووجود نوري السعيد في دارنا وإحتمالات تعرض دارنا في كل لحظة الى التفتيش وطلبت منه أن يصحبه مع سائقي وسيارتي لغرض نقله الى داره في الكاظمية حالا فشاركنا مشاعرنا في الخوف من الخطر المحدق بحياة نوري السعيد خصوصا وأن الوضع الأمني في بغداد يزداد سوءا كل لحظة والغوغاء يسيطرون على الشوارع ويطالبون بإعدام رجال الحكم الملكي ومفارز التفتيش يزداد عددها كلما تقدم الوقت باحثين عن نوري السعيد ففكرنا بضرورة أن يلبس ( نوري) عباءة نسائية كالتي تلبسها مربية أطفالي ( فهيمة) وتجلس المربية الى جواره في المقعد الخلفي من السيارة ويجلس إبن عمي صادق البصام الى جانب السائق ونفذنا الفكرة بسرعة وإنطلقت السيارة بهم صوب مدينة الكاظمية ومن المصادفات السيئة أن إنطلاقهم جاء بعد أن أذيع بيان منع التجول وعندما وصلت السيارة قريبا من دار الاذاعة أسرع السائق من إنطلاقها ومن دون أن يقف عند مفارز التفتيش التي كانت ملأى بالجنود وكانوا منهمكين بتفتيش السيارات التي تمر في الشارع وبهذه المجازفة من السائق وصلوا سالمين الى دار صادق البصام دون أن يعلم أحد بهوية الذي تحمله السيارة .
وإستضافه إبن عمي في غرفة خاصة مزودة بما يلزم لراحته وأحضر له جهاز راديو ليتابع الأخبار وكان كثير السؤال عن حياة الملك فيصل الثاني وكثير التطلع الى السماء منتظرا وصول الطائرات الحربية من جانب دول ميثاق بغداد لمساعدة النظام الملكي ونجدته من الأوضاع غير الطبيعية التي خلقها الانقلاب العسكري حسب بنود الميثاق وبقي ليلته في دار صادق البصام وكانت تلك الليلة هي ليلة 14 تموز وبقيت سيارتي والمربية والسائق في معيته خوفا من تفشي سر إنتقاله الى الكاظمية عن طريق السائق والمربية الى أسرتيهما لو تركناهما يعودان الى بيتيهما وكان هذا أجراء إحترازيا ضروريا وعمدت كذلك بعد أن إطمأننت على نجاة نوري السعيد وأنتقاله الى الكاظمية بأمان الى إبقاء أولادي والخدم والحارس في داري وأخذت معي بستاني حديقتي الايراني الجنسية وقد كان الوحيد الذي كنت أخشى من إفشائه سر وصول نوري السعيد باشا الى داري ومغادرته الى الكاظمية من دون باقي العاملين في داري وهم خادم وطباخ ومربية أولاد وخادمة وحارس وسائق لذلك لأن الحكومة الانقلابية أعلنت في المذياع عن جائزة قدرها عشرة آلاف دينار لمن يخبر عن مكان نوري السعيد حيا أو ميتا وكان هذا المبلغ مغريا جدا لعامة الناس ولمن هم من أمثال العاملين في داري ولكن أولئك الناس الذين كنت أستخدمهم في داري لم يغرهم مبلغ الجائزة الكبير ولم يخبر أحد منهم عن مكان نوري السعيد باشا وبينما كنت مع زوجتي في دار أخي وإذا بثلّة من الجند لا يقل عددهم عن عشرين جنديا وأربعة ضباط من المكلفين بالبحث عن نوري السعيد باشا تداهم الدار عند الغروب وعرفنا أنهم فتشوا داري قبل أن يأتوا الينا وعبثوا بالدار وكسروا رخام غرفة الاستقبال مفتشين عن ممر سري يوصل داري بدار نوري السعيد باشا وإنتشر بعد ذلك الجنود وضباط الصف في الحديقة باحثين عن أثر يقودهم الى ما يبحثون عنه . "(د.صالح البصام المصدر السابق، ص 121-124 ).
قبل الغروب بقليل طرق الباب في دار الدكتور صالح البصام، فدخل منها عدد من الشرطة ومعهم الصياد المسن وولده، ثم بدأ المحقق في إستجواب الحاضرين. لقد وصف الدكتور صالح إرتباكه وحيرته عندما لمح الصياد، وإعتقد بأنه فضح الأمر حتما لقبض الجائزة الموعودة، فظل واقفا الى جوار أخيه مرتضى متكئا على الحائط الخلفي، وفوض أمره لله، نظر المحقق اليه قبل أن نجلس على مقعد مقابل ثم نظر الى الصياد وسأله مبتسما: هل تعرف هؤلاء يابوي؟ وعند سماع السؤال إرتعدت فرائص الدكتور وظن أن الأمر إنتهى ، وإذا بالرجل المسن يهز رأسه بالنفي قائلا: لم أرهما في حياتي.
وأضاف يقول لقد سبق لك ياسيدي أن سألتني ونحن في الخارج عن نوري السعيد فأجبتك بأنني لم أسمع عنه فقط ولكنني لم اره . أما هؤلاء فإنني لم أسمع عنهم ولم أرهم من قبل.
وهنا أعاد المحقق السؤال وأضاف يقول: أنك يابوي تجوب دجلة كل يوم منذ الفجر فلا بد أن تكون رأيت شيئا جديدا اليوم في الصباح، ثم أخرج صكا من جيبه ولوح به قائلا: أمامك صك بعشرة آلاف دينار يابوي، فإعترف بما تعلم. وهنا أطرق الرجل المسن برأسه الى الارض ، فإضطرب الدكتور البصام وظن أن إغراء المال أثرّ في نفس الرجل، وإذا بالصياد يشير الى لحيته البيضاء قائلا: أنظر اليّ يا سيدي أترى لحيتي وشيب رأسي؟ إن إحدى قدمي في القبر ياولدي، كيف يمكنني أن أواجه ربي إذا إفتريت في سبيل قبض مال حرام؟ بالله عليك، إعفيني عن الجواب ياسيدي. لقد سبق أن قلت لك بأنني لا أعلم شيئا قط. ولم أر أحدا ممن ذكرتهم قبل الآن في حياتي وكفى. ياسيدي، وعند سماع قول الصياد بهذه اللهجة الحاسمة تنفس الدكتور البصام الصعداء، ولكنه ظلّ مرتبكا إذ كان يخشى أن يعترف أحد الخدم بما جرى عندما إتجه إستجواب المحققين الى الخدم.
كان هؤلاء من الطبقات الفقيرة التي يمكن أن يغريها المال ومع ذلك لم يعترف أحد منهم قط بما يمكن أن يثير أقل الشبهات على ولي نعمتهم صاحب الدار الذي لجأ إليه نوري السعيد في محنته، وذلك رغم التحقيق الصارم والتهديد القاسي. إن غنى النفس لا يقدر بمال صاحبه ولا شك أن في موقف الصياد والخدم في تلك الظروف العصيبة بطولة وكرامة وإيمانا.(د.عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 300 – 301 ).
النصيحة القاتلة
وحدث خطأ من بستاني حديقة دار أخي الايراني الذي أخذ يوصي قريبه بستاني حديقتي إذ قال له بالايرانية: إذا سألوك عن نوري السعيد شيئا أخبرهم بأنك حديث عهد بالاشتغال عند الدكتور صالح البصام وأنك لا تعرف نوري السعيد حتى لو رأيته كأنك لم تره من قبل.
وكان أحد الجنود كرديا ويعرف اللغة الايرانية فأمسك بيد البستاني وأدخله على الضباط الذين يحققون معنا في غرفة الاستقبال، وأخبرهم الجندي الكردي وهو يقدم اليهم البستاني الايراني : أن البستاني يعرف مكان نوري السعيد
فأرسلوه بعد تحقيق قصير مخفورا بإحدى سيارات الجيش الى مخفر شرطة الأعظمية لاستكمال التحقيق معه. وأثناء ذلك تداول الضباط فيما بينهم ما يفعلونه فقرّ قرارهم أن يداهموا بيوت آل البصام في الكاظمية قبل فجر اليوم التالي مفتشين عن نوري السعيد. وكنت عندما قرروا ذلك قريبا منهم في غرفة الاستقبال مساء 14 تموز وسمعتهم . فشعرت بالخطورة الكبيرة من بقاء نوري السعيد في بيت إبن عمي في الكاظمية فصممت على إبلاغ نوري السعيد قبل فوات الفرصة ليتخذ ما يمكن من التدابير ليضمن سلامته أولا بانتقاله الى مكان ثانٍ ومن ثم يدبّر أمر خروجه من البلاد. وللأسف كانت كافة سبل الاتصال مقطوعة ،وكنا خائفين من إستخدام جهاز الهاتف لشعورنا بكونه مراقبا وكانت جميع وسائل النقل خاضعة للتفتيش والتدقيق .
ولم أجد أمامي غير أختي ( زكية) فطلبت منها أن تقوم بمهمة نقل هذه المعلومة الى نوري السعيد باشا لأنني كنت أعتمد عليها كثيرا، وهي سيدة محجبة والسيدات المحجبات كُنّ أقل عرضة للتفتيش، وفي حقيقة الأمر كانت هذه المهمة مجازفة خطيرة، ولكن لا مفر منها لانقاذ نوري السعيد باشا في محنته وإنقاذه من مداهمة الجيش له في الساعات القادمة .
ونفذّت أختي زكية ما طلبت منها وذهبت ما شية من الكرادة الى الكاظمية قبل الغروب لتصل الى هناك قبل الفجر، حيث وصلت الدار التي لم يزل فيها نوري السعيد وأخبرته بعزم ضباط الجيش مداهمة البيت عند الفجر وأن سلامته تقتضي بأن ينتقل بسيارتي التي كنت قد وضعتها مع السائق تحت تصرفه الى مزرعتنا في هور عكركوف وهي على مقربة من الكاظمية لوجود دار مريحة فيها، كما سيجد هناك وكيل المزرعة وهو من أبناء الدليم ويمكن الاعتماد عليه لأمانته ويعرف الطريق المؤدي الى الاردن، ويمكنه تهريب نوري السعيد الى هناك حيث بإمكانه وهو لا يزال بمنصب رئيس وزراء حكومة الاتحاد العربي أن يعمل على تغيير الموقف.
وقد أوصينا أختي إذا إعترض أحد طريقها تقول أنها قاصدة زيارة مرقد الإمامين في الكاظمية وإستطاعت أن تصل قبل الفجر الى الكاظمية وأبلغت نوري السعيد برسالتي، فإقتنع بها وطلب إخراج السيارة ليتوجهوا الى المزرعة غير أنهم عند منعطف الطريق الموصل الى دورنا وجدوا جمعا من الناس بصحبة عدد من الضباط وهم يرشدونهم الى دور آل البصام فأصاب نوري السعيد الإرتباك وطلب من أختي التي كانت معه أن يغيّروا إتجاههم وبدلا من الذهاب الى المزرعة عليها أن توصله الى بيت الحاج محمود الاستربادي القريب من دار آل البصام، فذهبت معه أختي وأوصلته الى دار الاستربادي وطرقت الباب ففتحت لها الباب أم عبد الأمير الأستربادي فأخبرتها بوجود نوري السعيد معها ويريد الالتجاء الى بيتهم، ففتحت الباب لهم ورحبت بهم وبدخوله عند بيت الاستربادي إنتهت مهمة أختي وإنصرفت من عندهم ورجعت مع السيارة الى دارنا في كرادة مريم.( د. صالح البصام ، المصدر السابق، ص 124- 127 ).
في بيت آل البصام
وعندما زكية البصام طرقت الباب فَزَعَ أهل الدار في البداية ولكنهم إطمأنوا عندما سمعوا صوتها وفتحوا الأبواب المغلقة بإحكمام، كانت المسكينة بادية الإعياء منهوكة القوى، ولكنها أخبرتهم بسرعة ودون إبطاء بأن المنزل عرضة للتفتيش، وأن من الأفضل بل من الضروري إخلاءه في الصباح المبكر وإيجاد ملجأ آخر لنوري السعيد.
لم يذق نوري السعيد طعم النوم قط في تلك الليلة المشؤومة بل كان يتتبع الأخبار من كافة محطات الاذاعة، ولما تجاوز منتصف الليل دون أن يسمع ما يشير الى تحرك دول ميثاق بغداد لنجدة الحكم في العراق ، ملأ قلبه اليأس فظل يتمتم بمرارة عندما دخل عليه أهل البيت عند الفجر ، ويقول لقد خانوا العراق مرة أخرى، مشيرا بذلك الى الدول الغربية التي عاهدت العراق ودول الميثاق بمساندتهم إذا أصابهم أي إعتداء ضد الحكم القائم، وعندما أخبروه بأن المنزل مهدد بالتفتيش طلب نوري من أهل البيت الذهاب الى دار أخرى في الكاظمية تخص عائلة تربطها بأهل السعيد روابط وثيقة، وهي دار الحاج محمود الاستربادي، ولما ذهب الرسول للاطمئنان لم يجد في البيت غير السيدة زوجة الحاج محمود وخادمتها، إذ كان الرجال يؤدون صلاة الفجر في الكاظمين، فرّحبت بقدومه ولكنها طلبت أن يحطاط القادم في ملبسه حتى لا يثير أي الشبهات . وبناءا على ذلك ترك أهل البصام جميعا البيت مع نوري للاتجاه أيضا الى الحضرة ، فلم يسفر التفتيش بعد ذلك عن شيء إذ كان البيت خاليا- وهكذا غاب نوري عن الأنظار مرة أخرى.( د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 302 ).
كان بود نوري السعيد أن تأخذه السيارة رأسا من الكاظمية الى حيث ترابط الفرقة الرابعة وقائدها وفيق عارف شقيق رفيق عارف رئيس أركان الجيش في الشمال، ولكن خطورة الموقف لم تشجّع السائق على المجازفة. والى جانب ذلك كانت مشقة الظروف التي مرّت على نوري في تلك المرحلة وأحواله الصحية وسنه وقسوة شهر تموز، قد أنهكت قواه . فنصحوه بالراحة والاسترخاء الى أن يهديهم التفكير الى حل آخر. وبناءا على ذلك ظل نوري في تلك الليلة في دار عميد آل البصام.( د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 299 )
لقد أخفى صادق البصام عند وصولهم للكاظمية شخصية الضيف الذي كان يصاحبه ولم يعلم بوجود نوري السعيد في المنزل سوى السيدة (إحترام) زوجة السيد صادق البصام وهي التي أخبرتنا بالتفاصيل التالية:
كان نوري السعيد عند وصوله مرهقا ومحموما وكان العرق يتصبب من جبينه بغزارة. نظرا لشدة حرارة الجو في شهر تموز وقلقه الظاهر، ورغم ذلك كان أول ما طلبه نوري عند دخوله حجرة النوم التي إختارها له صاحب الدار هو المذياع- الراديو- لمتابعة الأخبار الجارية، إضافة الى بعض المناشف وكوب من الشاي .
لقد زاد قلقه عند سماع مصرع سمو الأمير عبد الاله الى جانب ما كانت تنشره الاذاعة من تفاصيل مريعة وتحريض سافر ضد رجال الحكم الهاشمي. كان الألم والأسى ظاهرين على أساريره، ولكن بريق أمل كان يذكره بالنصوص الواردة في إتفاقية الميثاق التي كانت تنص بأن على أعضاء الميثاق الإسراع في رد الأمور الى نصابها إذا تعرّض العراق الى أي إعتداء خارجي. فقد ظلّ يطمئن أهل المنزل مؤكدا لهم بأن طائرات أعضاء الميثاق ومن يساندهم ستأتي حتما لرد الامور الى نصابها قبل بزوغ الفجر. أما همه الأكبر فكان الاطمئنان على مصير الملك فيصل. إذ كان يكرر دون إنقطاع السؤال عنه كلما دخل عليه أهل المنزل فيقول : هل سمعتم شيئا عن فيصل؟ هل هو بخير ياترى؟ بالله عليكم أخطروني فورا إذا سمعتم عنه شيئا.(د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 300 ).
في بيت الإستربادي
فقد ترك نوري دار البصام ملتفا بعباءة سوداء وكوفيه بين سيدتين متحجبتين وإتجه معهما وباقي أفراد العائلة الى الطريق المؤدية الى حضرة الكاظمين، وعند مرورهم بدار الإستربادي وقف نوري أمام الباب الخلفية وسار الآخرون في طريقهم للقيام بصلاة الفجر. ولما طرق نوري الباب فتحت له السيدة الوقورة أم عبد الأمير زوجة الحاج محمود التي كانت بمثابة أخت لزوجة نوري السعيد، وأكرمت وفادته، ولم يكن في المنزل سوى ولدها مظفر والخادمة، إذ كان الرجال أيضا في الحضرة كعادتهم في كل صباح، فدخل نوري البيت مطمئنا ، وبعد أن إستراح قليلا بدأ التشاور معها في إيجاد طريقة لإنقاذه من شر المعتدين.
إقترحت السيدة أم عبد الأمير على نوري أن تصحبه متخفيا مع خادمتها بالسيارة عند رفع قيود منع التجول في الصباح، إذ يمكن بعد ذلك إيصاله الى مكان أمين في البتاوين هو بيت السيد هاشم جعفر زوج إبنة السيد محمود الإستربادي من زوجته السابقة، وهاشم جعفر شقيق ضياء جعفر النائب والوزير في عهد نوري السعيد- فالنسب الموجود يحتمّ الثقة بأهل البيت، ومن المؤكد أن تستبعد السلطات القائمة رجوع نوري الى بغداد ثانية، بعد أن إتجه الى الكاظمية لعيبر الحدود بعد ذلك الى الخارج، وعند سماع الاقتراح رَحَبَ نوري بهذه الفكرة، إذ كان يعلم أيضا بأن صديقه الشيخ محمد العريبي يسكن في البتاوين، فربما يمكنه الوصول اليه متخفيا مشيا على الأقدام فيندمج مع رجال القبيلة، ويذهب معهم الى الحدود للوصول الى إيران وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. إذ كانت الأخبار الصادرة من العراق تخفي مقتل فيصل الثاني عند هجوم المعتدين على قصر الرحاب خوفا من إثارة الشعب الذي كان يحمل للعاهل الشاب المحبة والولاء فظل بعض الأمل عند نوري في إمكان إنقاذ الحكم الهاشمي في العراق إذا كان الملك حيا يرزق.
وعند رجوع الحاج محمود الإستربادي وأنجاله من الصلاة، أخبرتهم أم عبد الأمير بالنية المعقودة ووجوب كتمان الأمر بصورة قاطعة حتى لا تتعرض العائلة بأسرها لمكروه، فذهب كل منهم رأسا الى حجرته ولم يطلّع حتى الخدم على شخصية نوري ووجوده داخل الدار. ولما إنتهت فترة منع التجول جلس نوري متخفيا بين السيدة أم عبد الأمير وخادمتها في سيارة أهل البيت ،فإتجهت بهم بصورة طبيعية الى دار السيد هاشم جعفر في البتاوين.(د. عصمت السعيد ، المصدر نفسه، ص 302- 303 )
يقول محمود الإستربادي أن نوري السعيد كان يحمل راديو ترانسستور بيده وعينه تراقب السماء باستمرار ويتمتم بصوت مسموع" لقد تأخروا ، لقد تأخروا" ولما سألته عن ذلك أجاب" قطعات الإنزال الإنكليزية التي نزلت في الأردن والقطعات الأمريكية التي نزلت في لبنان . وكان هذا مساءا " وهنا أعلن عن هرب نوري السعيد وبدأ الشعب يفتش عنه. ومن المصادفات أن التفتيش إقترب من الشارع الذي تقع فيه دار محمود الإستربادي، وهنا إرتبك نوري السعيد وطلب نقله حالا، فتم نقله بسيارة عائلة الإستربادي، حيث كان محمود الإستربادي يجلس بجوار السائق وفي الخلف توسط نوري السعيد وهو يلبس العباءة النسائية العراقية المعروفة ويغطي وجهه بـ( البوشية) والسيدة بيبية زوج محمود الإستربادي وخادمتها الإيرانية الجنسية.( جاسم كاظم العزاوي ، المصدر نفسه، ص 127 ).
وقد مكث نوري السعيد في تلك الدار لفترة قصيرة وطلب من أم عبد الأمير الإستربادي أن توصله الى دار الشيخ محمد العريبي التي كانت تقع في محلة البتاوين جنوبي بغداد ولم تكن أم عبد الأمير تعرف مكانها وقد كان الشيخ محمد العريبي أحد كبار شيوخ ألبو محمد بالعمارة وتقع أراضيه الزراعية بجوار الحدود العراقية الإيرانية ومنها يمكن لنوري السعيد عندما يصل الى هناك أن يعبر الحدود الى إيران وفي إيران يمكنه البحث مع الأعضاء في ميثاق بغداد وهناك يفعل ما يرتأيه لانقاذ الموقف في العراق.( د. صالح البصام، المصدر نفسه، ص 127 ).
نوري السعيد... النهاية المأساة
خرج نوري السعيد من دار أم عبد الأمير الإستربادي في يوم 15 تموز وقبل الظهر بقليل متخفيا بعباءة نسائية وبسيارة عائلة الإستربادي وكان يقودها ( عبد الرسول) أحد أولادها متوجهين الى بغداد للبحث عن دار الشيخ محمد العريبي، ولمّا كانت السيدة أم عبد الأمير الإستربادي لا تعرف موقع البيت كما مرّ ذكره، فقد لإرتأت إدخال ( نوري السعيد) الى بيت أمين الى أن تهتدي الى معرفة موقع بيت العريبي فأخذته الى دار أحد أقاربها وهي دار السيد هاشم جعفر زوج إبنة محمود الإستربادي من إمرأة أخرى غير أم عبد الأميرالتي ترتبط مع عائلة الإستربادي بمصاهرة وعلاقات وثيقة ويسكنون في محلة البتاوين أيضا، وقررت أم عبد الأمير الإستربادي أن تتركه هناك وتخرج وحدها للتفتيش عن مسكن شيخ ألبو محمد ثم ترجع لتأخذه الى هناك، وأوصت أم البيت أن تهيء لضيفها الشاي لحين عودتها لكن الأقدار شاءت غير ذلك ، فقد صادف أثناء دخول نوري السعيد باشا وأم عبد الأمير الإستربادي الدار وجود أحد أبناء السيد هاشم جعفر( عمر) في الدار وكان قد سمع من الإذاعة عن مبلغ الجائزة الضخمة المعلنة من السلطات لرأس نوري السعيد أو من يدل عليه حيا أو ميتا، فخرج عمر هاشم جعفر حالا من البيت وقد بدا عليه الإرتباك مع أخته وإتصلوا هاتفيا من أقرب محل تلفونيا بوزارة الدفاع مخبرين عن وجود نوري السعيد في دارهم بمنطقة البتاوين، وقد إنتبه نوري السعيد لخروج عمر المسرع من البيت بشكل دال على الارتباك، فقرر مغادرة البيت قبل خروج أم عبد الأمير الإستربادي للبحث عن موقع بيت العريبي وعند خروجه من دار السيد هاشم جعفر عثرت قدمه بعتبة الباب المرتفعة فسقطت عن رأسه العباءة النسائية فشاهده الناس في الطريق وعرفوه وفي هذه الأثناء وصلت سيارة عسكرية تقل عددا من الضباط والجنود وعلى رأس المجموعة وصفي طاهر مرافق نوري السعيد السابق ولمّا شاهد نوري السعيد باشا تلك السيارة قادمة بإتجاهه أخرج أحد مسدسيه اللذين كانا معه وأتذكر أنه قال لي عندما كان في داري بكرادة مريم أنه سينتحر ولن يسلم نفسه للانقلابيين. وعندما إقتربت منه السيارة العسكرية وشعر أن لا خلاص من المأزق الذي وقع فيه، أطلق رصاصة من مسدسه على نفسه قتلته على الفور، ولكن وصفي طاهر لم يكتف بموت الرجل فأطلق النار عليه من رشاشه على جثمان نوري السعيد باشا فأصابت إحدى رصاصاته الطائشة السيدة الوفية أم عبد الأمير الإستربادي التي كانت قريبة من جثمان نوري السعيد فتوفيت في الحال. أما الشاب الواشي ( عمر هاشم جعفر ) صاحب البلاغ عن مكان نوري السعيد باشا فقد حصل على الجائزة المقررة عشرة آلاف دينار مكفأة على فعلته الشنيعة وسافر بثمنها الى بريطانيا للدراسة ،وأتذكر هنا فعلة هذا الشاب الشائنة وأقارن بينه وبين ستة أشخاص فقراء كانوا يعملون في بيتنا ( مربية وحارس وسائق وأربعة من الخدم) وكانوا بأمس الحاجة لمبلغ كبير كهذا المبلغ وكلهم شاهدوا نوري السعيد في داري ولم يجرؤ أحد منهم أن يفشي بهذا السر .( د. صالح البصام، المصدر نفسه، ص 127 –130)
وهكذا هم الناس الأوفياء ، الحقيقة من المؤلم جدا أن أسرد في السطور السابقة نهاية حياة رجل كنوري السعيد باشا بهذا الشكل المأساوي ، وقد حاولنا بكل ما أوتينا من جرأة وإقدام أن ننقذ حياة هذا الرجل الهمام الذي قدّم الكثير لبلدنا ولمنطقة الشرق الأوسط ،ولكن للأسف لم تنجح جهودنا ومجازفاتنا فبقيت المرارة في أفواهنا طيلة السنوات الماضية، ونحن نستذكر بألم تلك الأيام التي فجعنا فيها برموز نهضة بلادنا ( الملك فيصل الثاني والأمير عبد الاله وعدد من أفراد الأسرة المالكة ونوري السعيد باشا) وغيرهم رحمهم الله جميعا.( .د.صالح البصام ، المصدر نفسه ،ص 127- 130)
وعن وصول نوري السعيد الى دار هاشم جعفر في البتاوين تتحدث عصمت السعيد فتقول" وعند وصولهم طرقت السيدة أم عبد الأمير الباب بتحفظ ثم أسرت لإبنة زوجها عندما فتحته بما يفيد بأن نوري السعيد هارب من الشرطة ويستأذن في الدخول، ثم قادته رأسا الى حجرة الاستقبال، كما ذهبت صاحبة الدار لاحضار كوب من الشاي للوافدين .
يبدو أن السيد هاشم وعائلته إمتعضوا لوجود نوري في الدار فإمتنعوا عن إستقبال الضيف ،ولكن صاحبة الدار ظلت تلح وتصر على تقديم القهوة رغم إمتناعه ، كما إهتمت أم عبد الأمير بالسؤال عن منزل محمد العريبي ليتسنى له الوصول اليه مشيا على الأقدام بعد الإستراحة.
وبعد مدة وجيزة أحس نوري فجأة بأن باب الدار فتحت ثم أقفلت بسرعة فإنتابته الهواجس، وسأل صاحبة الدار من الداخل أو من الذي خرج من الدار مسرعا الان؟ فتلعثمت أم عمر ثم أجابت بتردد ظاهر : لا أحد . لا أحد. وربما أراد إبني عمر شراء شيء من السوق.
إرتعد نوري عند سماع كلامها فأسرع رأسا الى باب المدخل فوجدها مقفلة، ثم صرخ بها قائلا إفتحي الباب.. إفتحي الباب حالا وإلا حطمتها.وعندما لم تستطع أم عمر فتح باب الدار الأصلية قادته الى باب خلفية فهرع نوري السعيد مسرعا الى الخارج ولحقت به أم عبد الأمير وخادمتها مرددة بلهفة الى أين يا باشا. الى أين؟ ورغم إضطرابه الظاهر أصلح نوري السعيد هندامه على قدر الإمكان ومشت المرأتان بجواره حتى لا ينكشف أمره وذهب الثلاثة للبحث عن دار العريبي في أطراف الحي دون دليل.(د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 303 –304 )
ويبدو أن السبب الذي جعل عمر وأخته يتركان الدار في هذه الساعات المحرجة هو حث الإذاعة المحلية للجماهير على البحث عن مقر نوري السعيد وتلويحها لهم بالمكافأة الثمينة لمن يرشد الى مكانه ، والنفوس الضعيفة تميل الى إنتهاز الفرص حتى لو لم تكن في حاجة للمال. وفي هذا ما يفسر سبب ذهاب عمر بن هاشم وأخته الى بقال قريب لإخطار السلطات بأن نوري في دارهم، وأن من الممكن القبض عليه في المنطقة.
لقد سمع عدد من الذين دخلوا دكان البقال هذا الخبر فحثهم الفضول على التجمع ونشر الخبر وسرعان ما إمتلأت شوارع الحي وعلمت شرطة المنطقة بوجود نوري في البتاوين ، بعثت السلطات عند سماع الخبر عن طريق الهاتف شاحنة تحمل عددا من رجال الجيش، إذ كان من الصعب الاهتداء الى نوري السعيد شخصيا بين الجموع وهو متنكر وبناءا على ذلك أرسل عبد الكريم قاسم وصفي طاهر المرافق السابق لنوري على رأس المجموعة العسكرية حتى لا يلتبس الأمر على الآخرين، وفجأة لمح نوري سيارة عسكرية في آخر الطريق وعندما نزل منها وصفي طاهر شخصيا للبحث عنه إتضح جليا بأنه جاء للقبض عليه، وحينئذ الح نوري على النساء بتركه فإسرعت الخادمة بالفرار، ولكن أم عبد الأمير ظلّت ثابتة في مكانها بأمل أن وصفي ربما يحمي الباشا الذي قضى في خدمته عمرا كمرافق ، ولكن هيهات ويبدو أن نوري تذكّر في تلك اللحظة ما حدث لسمو الأمير عبد الاله والتمثيل والتشنيع الذي أصاب جثته كما روتها الأخبار وبناءا على ذلك رفضت نفسه الأبية للتعرض والتنكيل والإهانات حيا، فأخرج مسدسه من جعبته وأفرغ ما فيه في صدره المكلوم، ولما وصل وصفي الى مكان الحادث، كان نوري على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة فصاحت له أم عبد الأمير مستنجدة بصوتها الجهوري : هذا باشتنا ياو صفي ، هذا أبوك وأبو الكل إنقذوه، وكان صوتها خشنا يشبه صوت الرجال ، فظنّ وصفي أنها رجل متنكر في ثياب إمرأة فقضى عليها رسا وكانت هذه هي نهاية أم عبد الأمير
ولما أحس وصفي بأن أنفاس نوري السعيد لم تتوقف تماما رغم غيبوبته أخرج الرشاش الذي كان يحمله وأخذ يدك الرصاص في جثة كانت على آخر رمق من الحياة بوحشية بالغة.
لقد إدعى وصفي بفخر في الصحف والاذاعات فيما بعد بأنه الرجل الذي قبض على نوري وصرعه . ولكن الأهازيج الشعبية التي سجلها التاريخ لقبت وصفي بإستهزاء ( قاتل السبع الميت)
وأخت تردد لعنة عليك سبع لعنة جتال السبع الميت
ويقال أن وصفي أخذ الجثة الى وزارة الدفاع وأن عبد الكريم قاسم أمر بدفنها وبالفعل دفنت في المقبرة القريبة من السجن بالمركزي المواجهة لدائرة الطب العدلي ولكن بعض العناصر المأجورة نبشت القبر في اليوم الثاني وأخذت تسحل الجثة في مختلف شوارع بغداد الى أن أوصلتها الى منطقة الوزيرية بجوار السفارة المصرية، ومقابل السفارة المصرية سابقا وأكاديمية الفنون الآن وقبلها كان مسكن نوري السعيد كان عدد من سيارات الشرطة وبعض الدبابات تحوم حول تلك الأحياء للسيطرة على الأمن نظرا للهياج العام في كافة أطراف العاصمة.
أحمد صالح العبدي
عن مصرع نوري السعيد قدم حاكم التحقيق آنذاك يحيى الدراجي تقريرا كلفته به مديرية الإسخبارات العسكرية بوزارة الدفاع للتحقيق في مصرع نوري السعيد في مبنى الإسخبارات العسكرية وفي غرفة معاون مدير الإستخبارات العسكرية المؤرخ العميد خليل ابراهيم حسين وبأمر من الحاكم العسكري آنذاك أحمد صالح العبدي فيقول الدراجي:
" أبلغني المرحوم رفعت الحاج سري مدير الإسخبارات العسكرية حيث كنت القاضي المنتدب للتحقيق في مديرية الإسخبارات العسكرية مع رجلين لهما معلومات عن مصرع نوري السعيد جلبهما حامد قاسم الذي قدمه لي ماجد محمد أمين على أنه أخ الزعيم عبد الكريم قاسم وبدأت بتدوين أقوال حامد قاسم الذي كان يرتدي عباءة سوداء وعقال ويشماغ وأدلى بما يلي" أن إثنين من جيرانه في كرادة مريم من صيادي السمك إسمه حسن وأخوه حسين جلبهما معه وقال هما اللذان أركبا نوري السعيد عند المسناية العائدة للدكتور صالح البصام القريبة من دار نوري السعيد. وقد شهدا بأنهما فجر يوم الثورة 14 تموز 1958 كانا يقومان بلملمة شباك الصيد في زورقهما قرب مسناية الدكتور البصام. وبعد سماعهما طلقات نارية كثيفة في محل قريب منهما فوجئنا برجل يرتدي بجامة زرقاء وبيده مسدسين وقد نادى عليهما وهما قرب الجرف طالبا الركوب بزورقهما تحت التهديد ولم يعرفاه وكان في محل الحادث رجل طاعن في السن يسبح في النهر وآخر يرتدي سدارة واقفا قرب سيارة تنتظر السابح الذي ترك السباحة في النهر للسبب نفسه ، وقد ظهر أن الشخص الذي كان يسبح هو داوود سمرة رئيس محكمة التمييز وهو يهودي كليل البصر ومعه سائقه الحاج إبراهيم يعينه في الولوج بالماء والخروج منه فقررنا إستدعاءهما لضبط شهادتيهما.
وإستمر حسن وحسين في إفادتيهما أنهما وجدا صاحب البيجاما الزرقاء حامل المسدسين داخل زورقهما وطلب منهما أن يجدفا شمالا ليوصلاه الى مركز الشرطة فأطاعاه خوفا. وقبل وصولهما الى مخفر الشرطة طلب منهما أن يعودا الى قصر البصام بعد أن أخذ صوت لعلعة الرصاص يشتد وهو يدمدم " ماكو فايدة.. شيسوي سعيد قزاز" وزير الداخلية آنذاك.
وفعلا عند وصوله الى مسناية الدكتور البصام صعدها ووجد هناك مرتضى البصام أخ الدكتور صالح البصام الموظف في السكك الحديد والذي أسرع الى أخيه لنقله ومن معه من داره . ولما شاهد نوري السعيد يصعد المسناية قال له " بعد كلشي خلص"
ودخل نوري السعيد حديقة الدار وخلفه مرتضى البصام وشاهد الدكتور صالح البصام وأهله على أهبة ترك الدار وطلب منهم أن يوصلوه الى دار الإستربادي في الكاظمية. وفعلا أخذ مرتضى البصام سيارة أخيه الدكتور صالح التي كانت في الكراج وهي أمريكية سوداء ليدخل بدلها سيارة المرسيدس الحمراء . وبعد إتمامه هذه العملية أدخل نوري السعيد في صندوق سيارته المرسيدس الحمراء وبعد إنطلاق الدكتور البصام وعائلته بسيارته السوداء فتح مرتضى باب الكراج وخرج بها وفي صندوقها نوري السعيد متوجها الى الكاظمية الى بيت محمود الإستربادي الواقع في محلة " القطانة" حيث قضى ليلة هناك وهو صديق للعائلة وكان مرتبكا خصوصا بعد أن صدر بيان القيادة العامة للقوات المسلحة وأذيع من محطة إذاعة بغداد بأن من يلقي القبض على الخائن نوري السعيد حيا أو ميتا فله جائزة قدرها عشرة آلاف دينار.
أما بالنسبة للقوة المهاجمة لدار نوري السعيد فقد جاء في التقرير " لقد كان دليل القوة المهاجمة لدار نوري السعيد على الضفة الغربية لنهر دجلة – الكرخ – المقدم وصفي طاهر لكونه مرافقا سابقا لنوري السعيد يعرف الدار مدخلا ومخرجا. فلمّا وصلت القوة المكلفة وإنتشرت حول الدار والدور المجاورة بما فيها دار الدكتور البصام وصل وصفي طاهر الى الدار وفتش عن نوري السعيد وكان وحيدا في داره ليلتئذ فلم يجده فظن وصفي أنه هرب من الممر المؤدي الى النهر حيث يوجد زورق بخاري لنوري السعيد . في تلك اللحظة كان نوري السعيد في الزورق مع صيادي الأسماك حسن وحسين ناويا التوجه الى مركز الشرطة للإتصال تلفونيا بسعيد قزاز وزير الداخلية لمعرفة ما يجري.
وظهر في الأقوال المدونة في الإضبارة التحقيقية أن نوري السعيد ترك دار محمود الإستربادي بصحبة زوجة الإستربادي " بيبية سيد علي" وخادمتها الايرانية" زهرة حيدر" بعد ظهر 15 تموز 1958 في سيارة تعود لآل الإستربادي بملابس العباءة والبوشي ليكون نوري السعيد مختفيا عن الأنظار وقصدوا دار هاشم جعفر أخ ضياء جعفر في منطقة البتاوين وكان نوري السعيد قد طلب التوجه الى دار الشيخ الإقطاعي " محمد العريبي" شيخ ألبو محمد في العمارة ويقيم في بغداد لأنه عضو في البرلمان"
ولدى خروج نوري السعيد ماشيا للتأكد من الدارسقط الرداء الأسود أي العباءة من على رأسه فظهر شعر رأسه وبجامته الزرقاء فصاح الأطفال "هذا رجل يلبس لبس نسوان" وخرج رجال المحلة ونساؤها يطاردونه وهو يقاوم بإطلاق النار من مسدسه. فأصيب نوري بطلق ناري وأصيبت زوجة الأستربادي بطلقة قاتلة كما أصيبت الخادمة الايرانية.
وبعد حوالي الربع ساعة حضر وصفي طاهر ومعه عدد من الجنود فوجد نوري السعيد مطروحا مصابا بطلق ناري في رأسه ولا يعرف الذي قتله لذلك جاء الشك بأنه إنتحر ولم يصل التحقيق بنتيجة واضحة تماما هل قتل أم إنتحر؟ لكن من الواضح أن وصفي طاهر أفرغ عتاد رشاشته في جسد نوري السعيد حيث جرى سحب الجثة بأمر من وصفي طاهر الى ساحة النصر القريبة ومن هناك وضعت الجثة في سيارته العسكرية الستيشن وإتجهت الى وزارة الدفاع حيث تلاقفها غضب الجماهير وسحلوها وأحرقت قرب محلة الفضل .
ولم يبق من شهد الحادث حيا سوى الخادمة زهرة حيدر.
إنتهى التقرير
وعن علاقة نوري السعيد بعبد الكريم قاسم أنه كان يسميه كرومي . ويقول العميد اسماعيل العارف في كتابه أنه حينما فكر في ضم عبد الكريم قاسم الى خلية الضباط الأحرارلما يتمتع به من أخلاق عالية وحميدة وسمعة ممتازة وشجاعة نادرة. فقد كان شهما نظيفا مخلصا ذكيا ذا شعور وطني فياض وفي نظر الكثيرين من أبرز ضباط الجيش كفاءة وقيادة.
ويضيف العارف" الا أن الشيء الوحيد الذي يؤخذ عليه- أي قاسم- هو تقدير وإحترام نوري السعيد له الذي كان يزوره في المنصورية حيث معسكر لوائه الدائم. وسبق لنوري أن عينّه معاونا لمدير العينة عندما كان نوري وزيرا للدفاع فقام قاسم بإصلاحها ونجح في إعادة تنظيمها نجاحا ممتازا بعدما كانت دائرة عاطلة خاوية مرتبكة".(ص 101 ).
ولما وصلت الجثة الى الميدان أراد قائد القوة العسكرية أن تسحق الجثة قبل أشتعالها فأمر سائق الدبابة بشراسة أن يسحقها، ولما تردد الرجل في التنفيذ هدده بالمسدس فرضخ للأمر وحرك الدبابة ولكن عندما ضغطت العجلات على القسم الأسفل من الجثة إنتصب القسم الأعلى فجأة بشكل مرعب ففزع السائق ووقع مغشيا عليه من فوق الدبابة.أما الجثة فقد تم إشعالها فيما بعد وعندما تفتت وخمدت النار جمع أحد المارين ما تبقى من أشلاء بالية في كيس وحملها الى الكاظمية حيث دفنها الى جانب مقبرة السيد حسين السيد يونس حسبما ذكره عبد الهدي الجلبي فيما بعد حينما التقى بهذا الرجل الأصيل.(د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 305- 306 ).
حدثني أحد الأصدقاء وهو الصحفي فلاح العماري وقال بالصدفة أنا كنت بالقرب من دائرة الطب العدلي والمقبرة شاهدت جموع الناس تتجه نحو المقبرة فالتحقت بهم و قمنا نبحث عن القبر الذي دفن فيه نوري السعيد فوجدنا ثلاثة قبور ما يزال التراب عليها طريا وقمنا بنبش القبر الأول فلم نجده بل وجدنا سيدة يبدو أجنبية بملابسها وآخر أجنبي أشقر الشعر وأبيض البشرة .ونبشنا الثاني فوجدنا نوري السعيد ومعه عدد من العسكريين بملابسهم العسكرية وقيل هؤلاء أردنيون . ثم قام المتظاهرون بإخراج جثة السعيد وتم ربط رجليه بحبل وأخذوا يسلحون بها. وقد شاهدت أحدهم يطعنه بسكين قائلا هذا قتل إبني.
كما حدثني الدكتور يوسف عز الدين أنه كان يسير بسيارته في شارع الرشيد وشاهد جثة الجماهير تسحل بجثته في الشارع ، وشعرت بالبشاعة والعنف وطلب منه أحد الغوغاء أن يمر بسيارته على جتة نوري السعيد. يقول أردت أن أتخلص من هذا الموقف ، فإعتذرت له وقلت له أن إطارات السيارة سوف تتلوث .
2973 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع