حكمة سليمان والمؤامرة المزعومة على حياة الملك غازي

    

حكمة سليمان والمؤامرة المزعومة على حياة الملك غازي

               

د. عكاب يوسف الركابي
ألف جميل المدفعي وزارته الرابعة ، في 15 آب1937 بعد انتهاء عهد الانقلاب وحكومته ، انقلاب بكر صدقي ووزارة حكمت سليمان ، وبما عُرف عن ، المدفعي ، بأنه رجل التسويات وحل المشكلات بطريقة إسدال الستار على مسبباتها ..

فقد سارع ألي إعلان سياسة إسدال الستار على الماضي  ، والذي توخى معها  إرضاء الملك غازي  ، الذي كان مضطربا ً بسبب اعتقاده بأن الكتلة القومية في الجيش تقصده بشكل مباشر ، لعلاقة ، بكر صدقي ، السابقة به ، وأبقى المدفعي على عدد من أعوان ، بكر صدقي ، في مراكزهم السابقة ، ولم يتخذ آية إجراءات بحق ، حكمت سليمان ، واتباعه  .

                                       


كان ، الملك غازي ، يعرف ان الظرف الذي ظهرت فيه الوزارة المدفعية الرابعة ، كان ظرفا ً حساسا ً إذ كانت العناصر المحسوبة على ، بكر صدقي ، والعناصر المناوئة لها ، تحذر كل منهما الأخرى وتتوثب للهيمنة عليها ، كما كان يعرف بأنه العناصر التي أبعدتها الوزارة السليمانية ، وظلت بعيدة عن السلطة لن تقف مكتوفة الأيدي وبخاصة ، اخطر خصوم الوزارة المذكورة ( نوري السعيد ) الذي وصل الى بغداد ، في 25 تشرين الاول من عام 1937.

                  

كان ، الملك غازي ، ورئيس الوزراء ، جميل المدفعي ، وحكمت سليمان ، قلقين من عودة نوري السعيد ، الذي كان ما يُشك في انه ، يقف حجر عثرة ، أمام سياسة الوزارة التي هدفت الى إسدال الستار على الأحداث التي رافقت الانقلاب العسكري ، منذ بدايته وحتى الإطاحة به ، ولم يكن يشك أحد في أنه كان ،  متعطشا ً للانتقام من قتلة جعفر العسكري ، ومن الذين شردوه ، واضطروه الى  المنفى.
لقد ساعد الشعور بضعف الوزارة المدفعية الرابعة ، الذي أخذ يلوح ، منذ كانون الأول 1937 ، حين بدأت الوزارة عملية انتخاب مجلس نيابي جديد ،  فضلا ً عن زيادة التفاف كتلة الضباط القوميين حول خصوم الملك غازي ، وما ان انتهت ، انتخابات المجلس النيابي واجتماعه ، في شهري شباط وآذار 1938 ، حتى تفجرت الضغائن القديمة داخل المجلس عند مناقشة (( لأحة قانون العفو عن الأشخاص الذين قاموا بالحركة الوطنية في شهر آب 1937 )) ..

      

وذلك عندما طلب أنصار  وزارة ، ياسين الهاشمي ، الثانية ، وعلى رأسهم ، طه الهاشمي ، وعبد الوهاب محمود ( في مجلس النواب ) ، ورشيد عالي الكيلاني ( في مجلس الأعيان )   بمحاسبة ، أنصار عهد ، بكر صدقي  ، وسرى ذلك الآمر الى صفوف الجيش  مثيرا ً القلق ، لدى ضباط الكتلة القومية ، على اعتبار آن أنصار ، بكر صدقي ، لا يزالون يشغلون بعض المراكز الحساسة في الجيش ، وان وزارة ، جميل المدفعي ، بدأت تقرّب ، حكمت سليمان ، وبدأ رئيس الوزراء يجتمع به من حين لآخر ، ويعمل كل ما في إمكانه لتطمين رغباته وكسب رضاه ، فاستنتجت الكتلة ، بأن سياسة " إسدال الستار " ما جاءت آلا لتضفي  صفة المشروعية على الانقلاب العسكري  ، فسهّل هذا الشعور مهمة ، طه الهاشمي ، في تكتيل الضباط القوميين حوله ، فأصبحت اجتماعاته بالضباط تتوالى بشكل واضح ، منذ شهر نيسان سنة 1938 ، حيث أخذ الهاشمي يتدارس معهم تطورات الوضع السياسي وتحرك الخصوم والتشكيك في نزاهة سياسة، إسدال الستار ، التي يساندها الملك غازي.

لهذا فقد حاول الملك إيجاد ، تكتل ملكي خاص به ، لمناهضة التكتل الملتف حول ،  طه الهاشمي ، يتألف من ، مدنيين وعسكريين ، جُلّهم من الاتباع السابقين ، لبكر صدقي ، وكان على رأس الفريق المدني ، حكمت سليمان ، الذي قربّه أليه ، بعد ان كان رأيه فيه ، (( أنه شخص مندفع قاس ٍ ، يميل كثيرا ً الى استغلال مركزه من اجل منفعته الذاتية )) ، آما الفريق العسكري ، فوجد الملك غازي في العناصر العسكرية المحسوبة على عهد ، بكر صدقي ، استعدادا ً لدعمه ، لأنه دعمه ُ ، يعني بالنسبة إليهم القدرة على الوقوف في وجه كتلة طه الهاشمي  .

                                               

أخذ الملك يكرر اجتماعاته ، بحكمت سليمان ، بواسطة مرافقه ، فؤاد عارف ، حيث كانت دار خال الأخير قرب دار ، حكمت سليمان ، فكان فؤاد عارف يقله الى قصر الزهور بالسيارة المخصصة لشراء احتياجات القصر اليومية    ، وأخذ الملك يعتمد على الضباط المحسوبين على ، بكر صدقي ، ويقربهم منه مثل ( جواد حسين الذي كان أحد الذين اشتركوا في اغتيال جعفر العسكري ) حيث جعله ، طياره الخاص  والعقيد علي رشيد ( رئيس المرافقين ) الذي جعله ، سكرتيره العسكري ، الخاص ، والذي اصبحت له كلمة نافذة في القصر.
لقد أرسل رئيس الوزراء ، جميل المدفعي ، بطلب مرافق الملك، فؤاد عارف ، وأخبره بأنه على علم بما كان يجري من اتصالات سرية بين الملك ، وحكمت   سليمان ، بوساطته.
وكانت مسألة تقريب الملك ، لحكمت سليمان ،  والعناصر المحسوبة على ، بكر صدقي ، مثار قلق شديد لأوساط ضباط الكتلة القومية ، الذين كانوا يروون (( ان هناك خطر احتمال أن يعهد الملك غازي بالوزارة الى ، حكمت سليمان ، في حالة سقوط وزارة ، جميل المدفعي ، إذ أن يؤدي ذلك الى ظهور أزمة تدفع بالجيش الى التدخل في السياسة مرة آخرى )) ، وقد فسرت السفارة البريطانية في بغداد ،اسباب هذا التقارب – بين الملك وحكمت بـ (( ان الاثنين يحملان المشاعر نفسها تجاه نوري السعيد ، الذي يخشيان ظهوره على المسرح السياسي ، وان ، حكمت سليمان ، أنما استغل هذا الشعور فأخذ يجسد للملك ان نوري السعيد سوف يزيحه عن العرش  إذا تولى السلطة ، وبهذه الوسيلة استطاع ، حكمت سليمان ، ان يحافظ على علاقته  بالملك )) .

                  

كان من رأي رئيس الوزراء ، جميل المدفعي ، انه لا يستطيع اتخاذ أجراء ضد ، حكمت سليمان ، ما لم يعثر على شيء يستوجب ذلك  .
أخذت كتلة الضباط القوميين في الجيش تتوجس خيفة من التقارب بين خصومها والملك واصبح هذا التقارب مصدرا ً لقلقها ، فأخذت ترتاب ، كيف ان الملك اصبح وثيق الصلة ، بحكمت سليمان ، كما أخذت ترتاب من انتشار خبر مفاده ان ، حكمت سليمان ، سيكلف برئاسة الديوان الملكي  ، فأتجهت الكتلة القومية الى الضغط على رئيس الوزراء ، جميل المدفعي ، مطالبة ً اياه بأن يطهر الجيش والبلاط من (( العناصر الفاسدة من جماعة بكر )) وان يبعد ، حكمت سليمان ، الى خارج   العراق ، الا ان ، المدفعي ، لم يوافقهم على ذلك على اعتبار انه لا يستطيع ان يعمل شيئا ً ضد حكمت سليمان ، ما لم يعثر على دليل مادي يدينه  .
ومهما يكن ، فقد قامت الكتلة القومية بانقلابها ، في 24 كانون الأول 1938 ، وتقدم الجيش الى الملك غازي بطلب أقاله الوزارة المدفعية الرابعة ، معززا ً طلبه بتحركات عسكرية واقترح بإسناد الوزارة الى ، نوري السعيد ، أو طه الهاشمي ،  ومع ان الملك أجاب طلبهم آلا انه اتصل ، بحكمت سليمان ، وعرض عليه تشكيل الوزارة ، غير ان ، حكمت ، رفض طلب الملك وأعرب عن عدم قدرته على تأليف وزارة ، في مثل هذه الظروف ، التي بدأ ، لحكمت ، ان الجيش أي الكتلة القومية ، ونوري السعيد ، وطه الهاشمي ، ومن يقف معهم يتحينون الفرص للإيقاع به ومن هذا الباب جاء تقديره لرفض طلب الملك ، وهو على صواب في هذا التقدير .
كلّف الملك ، نوري السعيد ، بتأليف الوزارة ، فشكلها في 25 كانون الاول 1938  . وسرعان ما تحرك الاخير ، في اتجاه تصفية خصومه ، ففي 27 كانون الاول 1938 ، استحصل على ارادة ملكية تقضي بأحالة مجموعة من كبار الضباط ، على التقاعد كان منهم ، أمير اللواء نظيف الشاوي ، والزعيمان ابراهيم خلف ،وبهاء الدين نوري ، والعقيدان ، يوسف العزاوي ، وسعيد التكريتي ، وكان هؤلاء على العكس من كتلة الضباط القومية ، يؤيدون سياسة إسال الستار على الماضي التي تبنتها الوزارة المدفعية السابقة ، الامر الذي لم يرق ، لنوري السعيد ، الذي كان متعطشا ً لضرب انقلابيي عام 1936.

            


بعد نجاح ضربة ، نوري السعيد ، الاولى ، جاء دور ، حكمت سليمان ، وبقية  انصار بكر صدقي ، وبخاصة من كان له يدُ في مقتل جعفر العسكري ( صهر نوري السعيد ) ، وان موقفه من ، حكمت سليمان ، بالتحديد من شأنه ان يبين لنا نواياه الحقيقية ، واسلوب مناوراته ، فأغلب الظن أنه أراد ان يحتفظ ، بحكمت سليمان ، رهينة في الداخل ، فعندما احس الاخير ، باحتمال دنو الخطر منه ، بصورة مباشرة ...

                    

                           صباح نوري السعيد

واراد ترك العراق والذهاب الى تركيا ، اتصل به ، نوري ، بوساطة ابنه صباح ، والدكتور سامي شوكت ، الذي كان يشغل يومذاك منصب مدير المعارف العام ، وطمأناه بتأكيدات له ، على انه (( لا يضمر له شرا ً ، وانه لا خوف عليه ، ولا  على حياته اذ بقى في العراق )) ، كما ان ، نوري ، اعطى وعودا ً مشابهة للسفير البريطاني ، في بغداد ، حينما أكد له ، انه لا ينوي الانتقام من خصومه او نفيهم  ، الا انه تصرف ، في الواقع ، على العكس من تأكيداته ، فقد تم تلفيق تهمة غريبة للايقاع ، بحكمت سليمان ، وبعددٍ آخر من الانقلابين السابقين ، تلك التهمة التي غدت تعرف ، بقضية ، حلمي عبد الكريم .
ففي السادس من شهر آذار من عام 1939 ، أستمع الشعب العراقي الى    بيانٍ مفصل عن (( احباط السلطات المختصة ( لمؤامرة ) خطط لها واشترك فيه فئة من ، عبيد الشهوات ، والمطامع ، وعمال الفوضى ، الذين قاموا على قلتهم وضعف تقديرهم لمغبة اعمالهم ، بخداع نفر ٍ من الضباط ، من أجل تجديد المآسي السالفة ، وقد فاتهم ، ان الجيش الذي يشعر بمجموعه بواجب الاخلاص والتضحية نحو قائده الاعلى وسلامة الوطن لا بد أن يبرأ من المفسدين )).
لقد كان مضمون الاتهام ، في هذه المرة ، هو العمل على قلب نظام الحكم ، والمجيء بالامير عبد الاله وتنصيبه ملكا ً بدلاً عن الملك غازي ، والقيام بحملة اغتيالات يقصد بها عدد من السياسيين وبضمنهم رئيس واعضاء الوزارة الحالية وقادة الكتلة القومية للجيش.
وبحجة الحفاظ على سلامة امن الدولة ، سارعت الجهات المختصة الى اعتقال المتهمين في تلك القضية ، وفي مقدمتهم ، حكمت سليمان ، والذي يبدو ان هذه التهمة لفقت له من اجل الايقاع به بالذات ، كما اعتقل في تلك القضية كل من ، العقيد صالح صائب الجبوري ، والرئيس ( النقيب ) البيطري حلمي عبد الكريم ، والرئيس ( النقيب ) عبد الهادي كامل ، والرؤساء ( النقباء ) المتقاعدون جواد حسين ( الطيار ) وعلي غالب ( الاعرج ) وأسماعيل العباوي وأخيه يونس العباوي ،  وزجّ الجميع في السجن تمهيدا ً لمحاكمتهم ، أذ ألّف لهذا الغرض (( مجلس عرفي عسكري )) برئاسة ، العقيد عبد العزيز ياملكي  .

           

أستند المجلس العرفي العسكري في حكمه بالدرجة الاساس ، على اقوال ، الامير عبد الاله ، الذي أدلى بشهادته امامه ، والتي زعم فيها ، بأن ، حلمي عبد الكريم ، يعلم بأن ، هناك مؤامرة مدبرة لأغتيال الملك غازي ، قبل وقعها بما يقرب الشهرين وقد اتصل بالملك لتحذيره، الامر الذي أكده ، طه الهاشمي ، في   مذكراته  ، لكن الملك لم يكترث للامر ولم يوله ِ ما يستحقه من متابعة واهتمام لدرأ الخطر عن نفسه ، فلجأ حلمي عبد الكريم الى الامير عبد الاله يستعين به للمحافظة على حياة أبن عمه ، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار ، وقد تحدث الامير عن تفاصيل ذلك اللقاء قائلا ً: جاءني عبد الهادي كامل ، ذات يوم وطلب ان يكلمني ، فلما اختليت به قال :

ان ضابطا ًيريد مقابلتي، فأذا به حلمي عبد الكريم ، وقد  ذكر لي ان بعض الضباط يريدون القيام بمؤامرة ضد الوطن ، وان الواجب ساقه الى اخباري بذلك، فطلبت اليه ان يذكر لي اسماء هؤلاء الضباط ، فلم يذكر اسم أي احد، على الرغم من الحاحي عليه فسألته، وكيف استطيع الوثوق بأناس لا اعرف اسمــاءهم ؟
فجائني بعد مدة بقائمة تضم بعض الاسماء ، فذهبت بها الى عمي الامير زيد  ، في الوزيرية واطلعته عليها . وبعد ايام جاءني ، العقيد محمود سلمان ، مرسلاً من قبل وزير الدفاع، طه الهاشمي، وسألني عما قلت لعمي، فأدركت ان عمي قد افشى السر ، وما لبثت ان دعيت الى الحضور امام المجلس العرفي العسكري، فاستأذنت الملك غازي وحضرت امامه ، وقصصت على اعضائه القصة كما وقعت .
اما ، العقيد عبد العزيز ياملكي ، رئيس المجلس العرفي العسكري ، فقد ذكر  (( ان حلمي عبد الكريم اتصل بالامير عبد الاله بعد ان توسط عبد الهادي كامل بالتعارف بينهما ، وقد تكررت اجتماعاتهما عشر مرات ، بيّن خلالها حلمي للامير عبد الاله عدم مشروعية الحكومة الحاضرة ووجوب التخلص منها ، ويقترح لنجاح هذه المؤامرة ، تنفيذ الخطة التي وضعها ، والتي تنص على ان يقيم الامير مآدبة يدعو اليها اركان الوزارة القائمة مع بيقة الضباط حيث يتم الاجهاز عليهم جميعا ً هناك ، لكن ، الامير عبد الاله ، ذكر له بان داره الحالية  لا تساعد على مثل هذه الدعوة ، واقترح ان تكون الحفلة في داره الجديدة  ، وقد أخذ حلمي ، خارطة الدار الجديدة لدراستها مع اصحابه ، وقد بقيت معه يومين كاملين ، ولم يكتف بمطالعة المخطط بل ذهب بذاته وكشف على مشتملات القصر الجديد ، ثم بيّن حلمي للامير عبد الاله بأنه سيذهب الى كركوك والموصل لاستكمال الترتيبات المتعلقة بهذه المؤامرة ، فسرب الامير عبد الاله ، اتصال حلمي الى المراجع المختصة ، التي اوصت بأستمرار الامير عبد الاله على ادامة صلته بحلمي لمعرفة ماذا بجعبته  ، فاستمر الامير عبد الاله يخادع البيطري حلمي ، عشرين يوما ً ، على حد زعمه )) ، واستنادا ً الى الادلة والقرائن التي تجمعت لدى السلطات المختصة ، القي القبض على المتهمين وسيقوا الى المجلس لاجراء محاكمتهم عن التهمة الموجهة اليهم.

               

ادلى ، الامير عبد الاله ، بشهادته امام المجلس العرفي العسكري ، في اليوم السابع من شهر آذار سنة 1939 ، دون اداء اليمين القانونية ، وذكر صلاح الدين الصباغ ، ان الامير عبد الاله جاء في شهادته ، ان ، حلمي عبد الكريم ، عرض عليه الاشتراك في المؤامرة ، واطلعه على اسماء بعض المتآمرين ، لكنه اعتذر عن كتابة اسمائهم بخط يده ، فدّون الامير قائمة باسماء اكثر من عشرين ضابطا ً من رتب مختلفة  ، وسلّمها للسلطات المختصة . ثم استمع المجلس لبقية الشهود ومنهم ، العقيد محمود سلمان ، الذي جاءت شهادته مطابقة تماما ً لاقوال الامير عبد الاله  . ولدى التأمل بعد التحقيق والمذاكرة ، ثبت للمجلس انه دُبرت (( مؤامرة )) خفية ، مركزها بغداد ، من أكثرية المتهمين لقلب الحكومة الحاضرة ، واغتيال عدد من المسؤولين من مدنيين وعسكريين ، عن طريق أقامه وليمة في قصر الامير عبد الاله ، وعليه قررالمجلس العرفي العسكري ، في اليوم السادس عشر من شهر آذار ، الحكم بالاعدام على كل من ، حكمت سليمان ، وجواد حسين ، والشقيقين ، اسماعيل ، ويونس العباوي ، ومتهما ً خامسا ً في القضية هو الرئيس البيطري ، حلمي عبد الكريم ، الذي قيل انه هو الذي افشى سر المؤامرة للامير عبد الاله ، والذي تفوّه بالسجن بعبارات (( تفوح منها رائحة الطبخة )) ، بصورة واضحة.

                                        


اثار موضوع الاحكام برمته ردود فعل واسعة ، وعلى مختلف الصعد ، فقد اعترض وزيري الداخلية والعدلية في وزارة ، نوري السعيد ، ناجي شوكت ،  ومحمود صبحي الدفتري ، على قرارات المجلس العرفي ، مما أدى الى حدوث  تصدّع داخل الوزارة السعيدية نفسها ، واثر بدرجات متفاوتة ، على مواقف الوزراء الاخرين ، ومن خارج مجلس الوزراء طالب العديد من الساسة ، من امثال ،الشيخ محمد رضا الشبيبي، وجميل المدفعي ، وعلي جودت الايوبي ، وابراهيم كمال ، باعادة النظر في هذه القرارات ، التي لم تحظ ايضا ً بارتياح البريطانيين ، لا سيما ما كان يتصل منها ، بحكمت سليمان ، الذي ارتبط معهم بصداقة ، اذ كان البريطانيين يقدرون ذكاء الاخير ورصانته، وموقفه المعتدل ايام الانقلاب ، وبخاصة ما كان يتعلق بالعلاقات مع بريطانيا ، وبمصير معارضيه السياسيين، ومنه شخص، نوري السعيد ، نفسه  . مما دفع بالسفير البريطاني في بغداد ( موريس بترسون M . Peterson ) الى التدخل في الموضوع شخصيا ً، فضلا ً عن مساعي المستر  لويد ( Lioyed ) رئيس جمعية التمور العراقية في هذا الخصوص ، ونتيجة لهذه الضغوط  ، التي تعرضت لها الوزارة السعيدية ، صدرت ادارة ملكية بتبديل عقوبة الاعدام ، بالسجن لمدة خمس سنوات بحق ، حكمت سليمان ، والاشغال الشاقة بحق الاخرين  .

                                      

                                                      حكمت سليمان

ان تلك القضية ، كانت وما زالت مثار شك وجدل ، لدى دارسي تاريخ العراق المعاصر ، ويبدو ان دوافع ذلك الشك تعود الى :
أولا ً : فقدان ملف القضية ، حيث فقدت معه شهادات المتهمين ومنهم ، حكمت سليمان ، الامر الذي ادى الى اختفاء الكثير من ملابسات القضية موضوعة البحث ، وفي هذا الصدد ذكر ، عبد الرزاق الحسني : (( عندما اطلع الامير عبد الاله على الطبعة الاولى من كتاب تاريخ الوزارات العراقية ، استدعى مؤلف الكتاب الى البلاط الملكي ، في العشرين من شباط 1954 ، وعاتبه بحضور رئيس الديوان الملكي ، احمد مختار بابان ، على زج اسمه في موضوع المؤامرة المزعومة ، فلما اوضح المؤلف للامير عبد الاله ، ان ذلك مما جاء في قرار المجلس العرفي العسكري ، ذكر الامير للمؤلف معلوماته بهذا الخصوص ، ثم قال له : (( عليك ان تسأل رئيس المحكمة عن مصير اوراق القضية )) ..

وتابع الحسني قائلاً : (( وقد سألنا العقيد عبد العزيز ياملكي عما يقوله الامير عبد الاله فاجابنا قائلا ً : (( ان اوراق الدعوة تحوي ( 2053 ) صفحة وقد أخذها اسماعيل نامق الى نوري باشا ولم تعد الينا )) ، في حين ذكر محمود الدرة نقلا ً عن عبد العزيز ياملكي ايضا ً(( ان قرار الحكم وملف القضية قد فقد بالنظر للاختلاطات التي لازمت الموضوع برمته )) ، ويفهم من كتاب المشاور العدلي في وزارة الدفاع ، الموجّه الى المدعي العام بوزارة العدلية ،في اليوم الثامن عشر من شهر آذار 1939 ، ان ملف القضية كان قد سلّم الى الاميـر عبد الاله ، ولم يعثر عليه اثناء جرد ممتلكاته بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ، كما جاء في كتاب مديرية الاستخبارات الموجّه الى المستشار العدلي في وزارة الدفاع في الرابع عشر من آذار 1959  .
ثانيا ً : تعارض شهادات المعينين للقضية والمطلعين عليها ، ومرّد هذا التعارض ، نابع من انقسام هؤلاء الى فريقين ، الاول ينفي صحة وجود المؤامرة ، ومنهم العقيد عبد العزيز ياملكي رئيس المجلس العرفي العسكري ، الذي أكد (( عدم وجود مؤامرة في الحقيقة ، وان كل الامور كانت مدبّرة من قبل نوري السعيد وعبد الاله )) ، وذكر الفريق الاول الركن المتقاعد صالح صائب الجبوري ، وهو احد المتهمين بالقضية (( حصلت لدي قناعة بأن بعض رجال الحكم والجيش قائمون  بتدبير مؤامرة وهمية للايقاع بخصومهم بطريقة دنيئة في حقيقتها ، قانونية في  مظهرها )) وينضم الى هذا الفريق اللواء المتقاعد فؤاد عارف ، الذي ينفي صحة تلك القضية ، وكذلك ، عبد الرزاق الحسني الذي اعتبرها (( مؤامرة مزعومة )) ، اما الفريق الثاني ، فيؤكد على ان القضية ليست ملفقه او مفتعلة بمجملها ، ومنهم المدان الاول حلمي عبد الكريم الذي تفوه في السجن بعبارات توحي بوجود مؤامرة هدفها اغتيال الملك غازي.
كما انه بعث في نهاية ، شهر اذار من 1952 ، برسالة الى محمود الدرة  ، (( نفى فيها كونه مخرج رواية المؤامرة ، وذكر انه اخبر الامير عبد الاله بأن نوري السعيد سوف يقتل الملك غازي )) ، وأكد للباحث السيد فيصل فهمي سعيد ، في لقاء معه ، على صحة وجود المؤامرة بدليل القاء القبض على الشخص المكلف بأغتيال والده ، ولكن القضية في رأيه ، ليست بتلك السعة التي اثيرت بها  ، ويميل الباحث عبد الجبار العمر الى هذا الرأي ايضا ً  .
ثالثا ً : ان اقحام تهمة محاولة اغتيال قادة الكتلة القومية في الجيش ، ضمن التهم التي الى حكمت سليمان وعدد من الضباط من انصار بكر صدقي ، أريد به تأليب قادة الكتلة ضدهم ويظهر ذلك بشكل واضح من موافقة القادة على اعلان الاحكام العرفية في معسكر الرشيد  .
رابعا ً : ان ما قيل عن موقف ضباط الكتلة القومية على مدخل باب المجلس العرفي العسكري ليغتالوا كل من يقرر المجلس اطلاق سراحه  ، امر يتنافى مع الواقع والمنطق حسب ما نعتقد ، فأن رئيس المجلس كان يخضع عادة للرأي السياسي الذي كان يفرض عليه ، من الوزارة القائمة ، وكان نوري السعيد رئيسا ً لها ، ويعرف القاصي والداني ، ان غاية الغايات لديه ، كان الانتقام من انقلابيي عام 1936 وبالذات ، حكمت سليمان ،  لاسباب مر ذكرها ، ويستبعد محمود الدرة وقوع الحادثة ،  مؤكداً انه كان بأمكان ضباط الكتلة القومية ، ان يفرضوا ارائهم من دون اللجوء الى التهديد المباشر ، ولا سيما وان رئيس واعضاء المجلس العرفي كانوا من انصار  القادة  ، الا ان ، حازم المفتي ، يشير الى ان الضباط القوميين ، أصروا على ادانة، حكمت سليمان ، وربما صمموا على قتله ، ويعزو سبب اصرار القادة على موقفهم هذا الى انه (( حسما ً للنزاع الذي نشأ بسبب ( قرار ) اعدامه )) ، ويذهب صلاح الدين الصباغ الى ان قادة الكتلة القومية ، وضعوا في موقف صعب ، وارغموا من نوري السعيد وعبد الاله ، على التشدد تجاه ، حكمت سليمان ، وانقلابيي  عام 1936.

          

يبدو مما تقدم ان هذه المؤامرة المزعومة هي من بناة افكار نوري السعيد ، دبّرها وحاكها واراد بها تصفية، حكمت سليمان جسديا ً، انتقاما ً من قتلة صهره جعفر العسكري ، وجزاءا ً لما لحق به من ذل ومهانة وهو خارج العراق ، وتحايلا ً على قانون العفو العام عن المشتركين بحوادث 1936، الذي مرره، حكمت ، في البرلمان ، والذي حال بينه وبين محاكمة الفاعلين ، ولئن فشل نوري في تحقيق مبتغاه هذا ، الا انه نجح عمليا ً في عزل ، حكمت سليمان ، واخراجه من الحلبة السياسية طيلة ما تبقى من العهد الملكي ، فغادرها وفي نفسه شهوة الى السلطة .
وفي 17 آذار 1939 ، زجّ ، بحكمت سليمان ، في السجن ، ويبدو انه كان يعاني من ظروف قاسية داخل السجن ، حيث لم تمض سوى فترة ثلاثة اشهر ، حتى اصيب بمرض التدرن الرئوي  ، الامر الذي دفع وزير العدلية في حكومة نوري السعيد ، محمود صبحي الدفتري ، الى ان يتقدم بطلب الى رئيس الحكومة ، راجيا ً فيه اطلاق سراحه  من السجن ، شأنه في ذلك شأن أي سجين مصاب بهذا المرض  ومراعاة ً لظروفه الصحية  ، ولكن ، يبدو ، ان طلب الوزير لم يجد أذنا ً صاغية ، رغم تهديده بالاستقالة ، ان لم تأخذ العدالة مجراها  ، فاستحسنت الحكومة نقل ، حكمت سليمان ( منفيا ) الى مدينة السليمانية في آواخر عام 1939  ، استجابة ً لالحاح ، الدفتري وتوصية ، سندرسن باشا .

    

  وفي مدينة السليمانية ، حيث بقي هناك تحت الاقامة الجبرية ، شأنه في ذلك ، شأن أي منفي سياسي ، واصبح تحت مراقبة الشرطة ، التي خصصت الضابط  مظهر احمد  لهذه المهمة ، التي استمرت الى عام 1941 ، عندما افرجت عنه ، حكومة الدفاع الوطني برئاسة ، رشيد عالي الكيلاني وكان ذلك في نيسان من العام المذكور  ، وبهذا يكون حكمت سليمان قد امضى سنتان بين السجن والنفي 

                               

                                                            شاه إيران

وقد سمحت الحكومة له بالسفر ، حسب رغبته ، فقصد طهران التي وصلها  في نهاية شهر نيسان من العام نفسه ، عن طريق خانقين ، مرحبا ً به من قبل شاه  ايران ، ويبدو ان سفره هذا ، الذي عاد منه الى العراق بعد شهرين فقط ، كان لاغراض الراحة والاستجمام ، بعد المعاناة التي لحقت به من جراء المرض والسجن والنفي ، او لربما انه فضّل الابتعاد عن العراق ، بسبب الاحوال السياسية المضطربة والتي رافقت حركة رشيد عالي الكيلاني وما صاحبها من حرب ٍ مع البريطانيين..

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

655 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع