يهود العراق – ذكريات وشجون، الحلقة ٣٦ .. المقامة العراقية، في حديث رمل الجزرة البغدادية (٢)
نعم تحقق شطر من حلمي، بلمس تراب العراق الحبيب، اللي بيه ريحة أمي، بعد سنوات طويلة مرّة، بهذه الحفنة المباركة، من رمل الجزرة، التي كانت كل صيف، تطلع في وسط مياه دجلة ونروح إلها بالبلم بالكيف. ولكنك يا أمل، "كسرت قلبي" بالعجل، بقولك بان عرض نهر دجلة الذي كان والدي المرحوم يتباهى بعطر رائحة الشط، والتي كان يقسم بأنها من روائح انهار جنة عدن، وأنه لم يشم مثل عطرها في جميع الأنهار، التي تجري وسط المدن، ويفتخر بسعة نهر دجلة وعذوبة مائه، وطول أنهار العراق، التي كانت الأسماك من كثرتها تتقافز على سطحه، وإذا ألقينا كسرة خبز، ترى الأسماك الصغيرة حولها ملتمة، فيأتي أخي يعقوب بشبكة صغيرة، ويصطاد السمكات المغيرة، ونحن فرحين، لنضعها في حوض الشادروان، في حديقة بيتنا بالبتاويين، حيث تتقافز فيه الكرات الملونة على النافورة، وما يزال أخي مراد الرسام، حتى اليوم في باريس، يرسمها وهو يترنم: "فداء ليلى الليالي الخرد الغيد"،" وابداله الهذيك الإيام!" الراحت كالاحلام، ويصر على تعليم اولاده اللهجة العربية اليهودية، ويقول:
"أنا ارسم كل شين اتذكغو من بغداد"، وأولاده إلى اليوم لا يزالون يغنون عند رؤية قطة: "بزونتي البزونة واش عملت البزونة، يا يمه طقطق القدر، كشافتو البزونة"، أو هذه الأغنية التي تعبر عن موقف العراق من يهودها والتي تقول: "زعلانة ليش زعلانة / زعلانة ليش زعلانة // وانتي حبيتي غيري،/ وعندك ما اسوى عانه".
وها أنت تخبرينني بأسى، كيف تقاسم اليوم جيران العراق الأبرار، مياه دجلة والفرات، حتى غدا عرض دجلة اليوم، وقد تقلص إلى "شبر ونص"، وان الجزرة أصبحت أرضا تنبت فيها الحشائش البرية، وأن شوارع بغداد "تكرم، مسيسة بالسيانة" وأن اللصوص والحرامية، تعيث في شوارع البتاويين والسعدون والكهورية، فسادا وسطوا على الناس الأخيار، والخايفين ربهم الأبرار، الذين أنهكتهم ويلات الحكام السابقين والحروب الطائفية والدينية على المنشقين.
والآن أصبحت كلما أتأمل في حفنة الرمل وذراتها الذهبية، وأشمها، أتذكر "ريحة أمي، وريحة الحليب اللي رضعته منها"، وأسمع أصداء الحنين، وموسيقى جالغي بغداد و"نقر الدرابك من بعيد" واغاني العشاق والسكرانين، في ليل العراق الذي ينيره، قمر مشرق الجبين، والذي غدا اليوم، ويا للأسف الشديد، الليل الأظلم الطويل، وعويل المجروحين والمقتولين المظلومين بالسيارات المفخخة والمنتحرين، وأرى كيف "تغمز" لي ذرات الرمل ببريق الذكريات، ويا تراب الوطن ومراتع الصبا، حياك الحيا، "وابداله لذيك الايام الحلوة" كما يقول العراقيون هنا إلى هذا اليوم، هذه العبارة الشيقة المشتاقة استطيع أن اسمع صداها فقط، في قول أمير الشعراء أحمد شوقي، على لسان مجنون ليلى: "فداء ليلى الليالي الخرد الغيد". وليلى عندهم كما تعلمين، هي العراق، ولكن ويا للأسف، ما زالت ليلى مريضة في العراق، ويا ليتني كنت الطبيب المداويا، ولكن سبقني الى هذه المكرمة أطباء إسرائيليون من أصل عراقي، لمداواة أطفال ليلى المرضى في العراق. حفظهم الله.
ويا رمال جزر انهار العراق الذهبية، ويا ارض العراق الحبيبة، ابعد الله عنك شرور الماضي وآثام العدى. ها قد أصبحتُ منذ اليوم، أناغي فيك حفيف نسيم بغداد، وهو يوشوش لنخيلها، هذا الحفيف الذي اشتاقت إليه أمي وبكت شوقا إليه قبل رحيلها، وحلفتني بان ازور العراق واقبل الأحباب والأعتاب، ولكنها رحلت مثل عماتي وخالتي وأعمامي وأخوالي وفي قلبها حسرة لزيارة العراق. ولكنني لا أزال إلى اليوم أتذكر مراجيح الأبطال من وطنيين وشيوعيين وصهيونيين في باب الشرقي وباب المعظم وقرب عكد النصارى وأمام قصر المرحوم شفيق عدس في البصرة، وغيرها من المحلات، والرعشة تسري في كياني، ولا أزال أسمع إلى اليوم لعلعة رصاص معركة الجسر والوثبة، والمظاهرات الصاخبة تحيي فلسطين العربية، وصدي دوي "الفشك فشاشة القفالة، لبيوب اليهود، في الفرهود، وهوسة إشحلو الفرهود لو يعود يومية"، ووابل رصاص مصرع الملك الشاب، إللي بشبابه ما اتهنا، واللي بدل عرسه مات ابدمه متحنى، ممطرا العائلة المالكة برصاص الحقد والكراهية، و"أفوكها كملوا السبحة بالسحلة، في شوارع بغداد المتوحلة. وإلى اليوم اسمع صدى إطلاق النار في ستوديوهات إذاعة بغداد، ساعة إعدام الزعيم عبد الكريم، أبو الفقراء والمساكين، من المعدان الساكنين ورا السدة، وحشرجة ضحايا "الأنفال" وحلبجة، بغاز الخردل، من مختبرات الجنرال الكيماوي، ولم يدفع الردى، احتضان الآباء والأمهات لفـِلذات أكبادهم، ولم يحميهم من الموت الفظيع اختناقا، ويا ليل العويل في دجى العراق المدلهم المريع، كصرخة المستعصم بين يدي هولاكو وهو يسمل عينيه، وسنابكه التي هدمت بغداد وسبت العذارى وأغرقت كنوز مكتبات العراق في مياه الرافدين السوداء. سلسلة من المآسي والكوارث والويلات في سواد تاريخ العراق، وهل تصدقين يا أمل، بأني أجد تشابها بين مصائب الشيعة ومصائب اليهود، فكلاهما يؤمنان بحق إلهي اغتصب منهم ظلما وعدوانا، وكلاهما يؤمنان بالمهدي أو المسيح المنتظر، ليسود العدل هذا العالم المحتضر، ولكليهما يوم حزن ينوحون فيه على الضيم الذي لحق بهما، يوم عاشوراء عند الشيعة ويوم التاسع من شهر آب يوم خراب البيت المقدس، مرتين في نفس التاريخ. ولذلك تجديني استطيع سماع عويل معركة البطولات التي لا تصدق، واقعة كربلاء، وحفيدات الإمام علي، يحملن على ظهور النياق سبايا الشمر ويزيد، مختلطا بانين أسرى سبي بابل تحت سياط الغزاة في طريقهم إلى أنهار بابل ليعلقوا قيثاراتهم على صفصافها حزنا واسى، حاملين من تراب هيكلهم الذي جبلوا منه طين أول معبد بنوه لهم في ارض الأنهار والخيرات والنخيل.
وها أنا اطلب منك حفنة من تراب السبي الطويل لأبكي ذكرياتي وشجوني في ارض الميعاد، حيث بنينا هنا متحفا لماضينا وأمجادنا الغابرة، ولكن كل الرخاء هنا لا يستطيع أن ينسينا الحنين إليها، فشكرا، وألف شكر على الرمل والريش الأبيض، لحمائم بغداد دار السلام، الذي أرفقتيه بكيس الرمل، فقد ذكرني بحمامة السلام ألتي عادت إلى فلك النبي نوح، بغصن زيتون يفوح، أملا منك في أن يعود السلام، إلى مدينة السلام و بلاد الرافدين، معدومة السلام. وقد ذكـّرني الريش أيضا بحمامتي أم الكعكولة البيضاء في البتاويين بمكناسة الريش في رجليها، وحمائم العراق التي فرت من أعشاشها فوق النخل الهزيل في العراق، وأصدقائي العراقيون، يقولون لي إن نخيل العراق تموت اليوم بالآفات الزراعية والعطش، وما من مغيث، ولكنها تموت منتصبة بكبرياء تحاكي إباء العراقيين، ويقولون لي إن نخيل العراق تموت من العطش ومياه دجلة والفرات "تجري حدر حدر يمها، كما مات حفيد الرسول، "مات من العطش والجود يمه"، يا لظلم الإنسان لأخيه الإنسان ولنباتاته وحيواناته.
أطلت عليك يمه، يا بنت عمي، وأنا آسف لبث شجوني إليك، وإلى حفنة الرمل المباركة، التي وصلتني بالبريد الجوي منك، فكل العراقيين اليوم في الهوى سوى، واسلمي لنا، يا من كشفت القناع لنا، عن شغلة استعارة ساجدة بنت خير الله طلفاح وزوجة صدام حسين، للقلادة السومرية من المتحف العراقي، وهي تحفة من الفن الخالد الباقي، والله هو الحي الباقي، وهذا المتحف الذي ضم حضارات وادي الرافدين عبر التاريخ، والذي كمل فيه الجياع الغاضبون، الذين لا يمكن الصفح عن آثامهم، فرهدته قبل ان يهوى تمثال صدام في ساحة الفردوس بسنين، والعالم ساكت واجم مثل جبل حمرين وصنين، وأطفال بغداد يلاحقونه بنعالهم بعد أن سقط. وأنا أرجو منك فقط، أن تهمسي في أذن ساجدة، لكي لا يسمعكما أحد، لكي تكوني لها مساعدة، في تنقية ذمتها أمام التاريخ والمؤرخين، قولي لها أن استعارتها للقلادة، قد تكون من الله، اي من "أبو خيمة الزرقا"، إرادة ، فتتستعيرها، لكي لا تكون القلادة في متناول أيدي المفرهدين، بعد سقوط صدام المختبئ الحزين، الذين فرهدوا قصوره وقصور أبنائه وأقربائه ووزرائه وقصور غيرهم من المقربين، وسرقوا حتى الخيول العربية المطهمة، تعدوا جنبا إلى جنب مع سياراتهم البلشقا المحطمة. ترى مو عيب اتداعيها، طالبة أن تعيد قلادة الملكة السومرية إلى المتحف العراقي، لأن عدم إعادة ما يستعار يعد "بوكة" (سرقة)، في قوانين الدول الفوكة، وهل زوجها الذي وقف برباطة جأش وبكبرياء، وأنشوطة حبل المشنقة حول رقبته، بصورة أذهلت الأعداء قبل الأصدقاء، يقبل أن يقال عن زوجته، أنها لم تعد قلادة الملكة السومرية، وهي كردانة ملك التراث الإنساني والفنون العالمية، لا لشعب العراق وبس. فأعيديها بصمت إذا بقيت بحوزتك، وسيغفر الله زلتكك، وهو أرحم الراحمين، آمين.
ولو كان المرحوم ملا عبود الكرخي ما زال حيّا، لأضاف هذه البسته، لك تحيّه:
وغير هذا، يا ساجدة، أرد أكلج / يامْ القلادة، حلوة قلادتج /
واترجعيها للمتحف / ترى أحسنلج/ لان هيج شغلة، متلوق لج /
واسجدي الله / حمدا على سلامتج!
وأنت يا أمل، حطي ساجدة، هي وذاتها، وشوفي شلون راح اتـْرجّع القلادة!
وشكرا لك، مرة أخرى، على تعريفنا ابشغلة الكردانة السومرية، وان شاء الله، تفرحين بعودة كل ما ضاع من المتحف العراقي، من التحف البابلية والسومرية والأكدية والآشورية واليهودية والمسيحية والأيزيدية والكردية، والفيلية، والتركمانية، والصابئية، والاسلامية والعربية، وما ضاع من حقوق الشعب العراقي وطوائفه، وعند ذاك ستكون لنا عودة، في مقامة أخرى، نبارك فيها للعراق، حريته وعدالته واستقلاله باستحقاق.
ودمت يا أمل، لعراق الغد المشرق، حيث نعمت بدفئه أسابيع قليلة، وعدت وأنت، بمستقبل واعد للعراق، متفائلة. المخلص، سامي
في 20 أيار، 2008
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/42834-2020-01-09-22-11-32.html
805 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع