١٨كانون الثاني ١٩٤٠ مقتل رستم حيدر..بين الدافع الشخصي والتحريض السياسي
فوجئ الشعب العراقي في 18 كانون الثاني 1940 ببيان للحكومة العراقية يعلن فيه عن محاولة لاغتيال وزير المالية رستم حيدر في مكتبه الرسمي. اذ دخل عليه احد مفوضي الشرطة المفصولون ويدعى حسين فوزي توفيق ورماه عددا من الطلقات النارية وأصابه بجرح بليغ. ونقل الوزير الى المستشفى، غير انه انتقل الى جوار الله في بعد ثلاثة أيام.
فشيع تشييعا مهيبا ودفن في المقبرة الملكية ببغداد، تقديرا لصلته الوطيدة بالملك فيصل الأول.
أدى الخلاف داخل مجلس الوزراء حول التحقيق مع القاتل الى استقالة الوزارة برئاسة نوري السعيد بعد أيام، ليكون ذلك فاتحة الأحداث المثيرة التي أدت في النهاية الى الحرب العراقية البريطانية في آيار 1941.
وقد تباينت الآراء حول سبب مقتل رستم حيدر، هل هو عمل شخصي، أم وراءه أغراض سياسية؟، فقد أقدمت السلطة بسرعة على اعتقال عدد من الشخصيات التي كانت تجاهر بالعداء لنوري السعيد، فرستم حيدر لبناني الأصل وعمل بمعية فيصل الأول قبل تأسيس الدولة العراقية وجاء مع فيصل الى العراق وتولى منصب رئيس الديوان الملكي لسنوات عديدة،وعرف بالحكمة والاعتدال والرصانة ، فكان اغتياله موضع دهشة الجميع. ويعتقد الكثيرون انها حادثة جنائية عادية، بينما اعتقد آخرون ان وراءها عوامل سياسية، وأراد نوري السعيد جعلها جريمة سياسية لضرب خصومه، مستندا الى انها جرت في موقع رسمي. وذكر حاكم التحقيق فيها جميل الأورفلي في مذكراته ان نوري السعيد قصد القاتل في سجنه واختلى به، وقيل ان القاتل هتف أثناء حكم الإعدام به بحياة هتلر وسقوط نوري السعيد. كما ان المحكمة برأت ساحة المتهمين كافة.
لم يتزوج رستم حيدر ، فكان يسكن بمفرده في دار صغيرة في منطقة”الصالحية” ببغداد. وفي 18 كانون الثاني 1940 وبينما كان في مكتبه بوزارة المال دخل عليه المدعو حسين فوزي توفيق وهو من مفوضي الشرطة المفصولين واطلق عليه النار فاصابه في خاصرته اليسرى، فنقل الى المستشفى ولكنه توفي متأثراً بجراحه في 22 كانون الثاني 1940.
القي القبض على الجاني الذي اعترف بانه هو الذي اطلق النار علي رستم حيدر لعدم حصوله على وظيفة كان الوزير يعده بها دون جدوى فاقدم على فعلته. ولكن من الدافع على ارتكاب هذه الجريمة النكراء؟
حامت الشبهات حول ان هناك من حرّض الجاني على ارتكاب جريمته وهما ابرهيم كمال وصبيح نجيب. وقد ادى اغتيال رستم حيدر الى استقالة نوري السعيد رئيس الوزراء إثر ما اثير من لغط حول اغتياله.
ولكن من الذي قتل الملك غازي؟ ومن الذي قتل رستم حيدر؟ اسئلة لن تجد الجواب الحقيقي وستبقى من الألغاز.
ذكر السيد عبد الرزاق الحسني انه فهم من صالح جبر نفسه انه كان يعتقد ان رستم حيدر ذهب ضحية لمؤامرة دبرها خصوم نوري السعيد لاضعاف وزارته، او ان الألمان هم الذين دبروا الجريمة. اما القاتل حسين فوزي توفيق فقد اصدرت المحكمة حكمها عليه بالاعدام، لثبوت ارتكابه الجريمة باعترافه. وتم تنفيذ الحكم فيه في 27 آذار 1940. وقيل ان حرس السجن الذين حضروا عملية تنفيذ الاعدام سمعوه يصيح جهاراً، وهو في طريقه الى المشنقة:”وَرَّطني.. وَرَّطني...”. وهناك من يرى ان الاغتيال دبره عملاء الالمان الذين حرّضوا القاتل على الاغتيال ليحدثوا شغباً بين الشيعة والسنة. وكان قد شاع ان القاتل كان في المانيا. وايّا ما كان، فان الحادثة بقيت مشوبة بكثير من الغموض، وان تصرفات نوري السعيد إثر اطلاق الرصاص على رستم حيدر، وما اظهره من ارتباك، ومقابلته الجاني في سجنه على انفراد، ثم تغيير الجاني افادته على إثر تلك المقابلة، زادت في تقوّلات الناس وشكوكهم، اذ انهم ربطوا تلك الزيارة بما قيل من ان الجاني كان يصرخ وهو في طريقه الى المشنقة”وَرَّطني..وَرَّطني...”.
ولكن البعض يرى انه ليس لنوري السعيد اية مصلحة في عملية الاغتيال فهو لم يكن على عداوة مع رستم حيدر بل انه ضمه في كل وزارة الّفها حتى مقتله. وفوق ذلك فإن نوري السعيد لم يكن يراقبه منافساً له في رئاسة الوزارة. ومهما يكن، فان مقتل رستم حيدر احدث رنة أسى في العراق وفي سائر الدول العربية.
مذكراته
غطي مذكرات رستم حيدر وهي اشبه ما تكون بيوميات كان يدونها في مفكرته لمجريات الامور – الفترة ما بين 1918 و1921. وهي تبدأ في 10/8/1918 وتنتهي في 25/3/1921. وهو يذكر تاريخ اليوم وحتى الساعة احياناً بعضها بضعة اسطر وبعضها بضع صفحات وبعضها مجرد برقيات. وهو يذكر الامير فيصل بالاسم او”سيدنا”او يختصره بـ (ج) جلالة او (ف) اي فيصل. وهو حريص على ذكر التفاصيل الدقيقة وحتى الصغيرة. والمذكرات، التي حققها وقدّم لها نجدة فتحي صفوة وهو عراقي، تضم 852 صفحة و12 ملحقاً منها قصيدة خليل مطران في رثاء رستم حيدر. نجد في المذكرات اشياء طريفة يسجلها رستم حيدر تدل على صحة حدسه. يقول الخميس 1 كانون الثاني 1920 (ص 534):”يوم رأس السنة الجديدة، علّها خير على الامة بين مطامع المستعمرين الاوروبيين التي تزداد كل يوم. ويل للشرق، لا حياة له الا بعد خمسين سنة بالسعي والتعاضد. اوروبا تمتصّه. شر كلها، وشرّ ما فيها انه لا بد منها”.
وهو يلخص رأيه في سياسة اوروبا فيقول الاثنين 12/7/1920 (ص 665):”لا يمكن الاتكال على اقوال حكومة اوروبية في المسائل السياسية لان سياستها ستتبدل حسب قوتها ومنافعها فلا عهد ولا ذمة. قديماً كان بيكو يتدخل على الملك فيصل لاجل إنهاء القضية حسبما يشاء مع طلب انتداب فرنسة، ولو اعطى ذلك في حينه لتمشّت فرنسة على سياسة ربما كانت أضعف من سياستها الآن لان عساكرها كانت قليلة واميركا وانكلترا وحالة العالم كانت مساعدة جداً، ثم مضت ايام فاصبحنا نفتش على الاتفاق لديهم وهم يتمنعون ويهددون وقد جاء زمن كانوا يرجوننا بالحضور الى اوروبا، والآن اصبحنا نرجوهم ولا يقبلون، وهكذا نسأل الله ان يرميهم بحرب ثانية في ديارهم رأفة بالعالم”.
لقد استجاب الله لطلب رستم حيدر وحقق له امنيته فنشبت الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) ودمّرت اوروبا نفسها واودت بحياة خمسين مليون نسمة.
رحم الله رستم حيدر لو كان اليوم حياً ماذا كان يقول عن الذي يجري في العراق؟
ايعازه بحجز اموال الملك فيصل الاول حينما كان وزيرا للمالية
وقصة ذلك ان رستم حيدر كان قد اصدر قانوناً جديداً لتحصيل الديون المتاخرة للحكومة،وكان معظم الذين تاخر تحصيل الديون منهم من ذوي النفوذ : من الخزينه(الملكية) الخاصة،الى الوزراء،وشيوخ العشائر، وغيرهم. وبدأ رستم أول ما بدأ رستم بتطبيق القانون على الخزينة الملكية الخاصة، فانذرها بدفع المتخلف عليها، وكان يبلغ حوالي (10 الاف روبيه). فاعترض ناظر الخزينه الخاصة، (صفوة باشــــــــــا العوا) مستنكراً أنذار الخزينه الملكية الخاصة بسداد دين متاخر. وعندها طلب رستم وضع الحجز على املاك الملك في الحارثية، وأنذر ناظر الخزينه الخاصة بالتنفيذ، فهرع الناظر الى الملك فيصل وشكى الامر أليه.
وكان عبدالله الحاج، من رجال الملك فيصل في العراق في ذلك الوقت، مساعداً لرئيس الديوان الملكي، ومدرساً في دارالمعلمين. وقد روى هذه الحادثة التي شهدها بنفسه في حديث أدلى به في بغداد الى صحيفة عراقية، مع طرف من ذكرياته عن فيصل والعراق، خلال زيارة قام بيها الى العراق بعد ذلك باكثر من (20 عاماً)، فقال أن ناظر الخزينة الخاصة ربما صور المسألة للملك بشكل مثير، مما أثر في نفس الملك، ولكنه فيما يبدو لم يرغب في مفاتحة رستم بالامر بنفسة، فكلف عبدالله الحاج بذلك. قال عبدالله الحاج :-
(قال رستم عندما كلمته بالامر: أنني أنفذ أرادة جلالته، فهو الذي وقع القانون بيده، وانا اعمل على تشريف توقيع جلالته بالحجز على الحارثية. فأذا سمح جلالته بذلك فأنه يكون قد وضع الحجر الاساسي لاحترام القانون في الدولة.
فعدت وعرضت ذلك حرفياً على جلالة الملك فيصل فأرتاح للامر وزال أكثر الاثر الذي تركه لديه الشكل الذي وضع به القضية ناظر الخزينه الخاصة. وعندها أصدر جلالته تعليماته للناظر بوجوب الدفع واحترام القانون).
هذا حديث للاستاذ عبدالله الحاج، النائب اللبناني السابق، وعضو الجبهة الاشتراكية في لبنان، الى جريدة (الشعب) بغداد، السنة 9،العدد 2515 الصادر في 2/مايس/1953.
اغتياله والتدخلات السياسية
روي السيد جميل الأورفلي حاكم تحقيق منطقة الرصافة آنذاك في مذكراته بأنه تلقى خبر الاعتداء على حياة وزير المالية وانتقل فوراً إلى المستشفى الملكي إلى أنه تعذر عليه استجوابه لكونه كان تحت تأثير المخدر وخطورة حالته الصحية فتوجه إلى بناية مديرية الشرطة العامة لكون الجاني كان موقوفاً في إحدى غرفها وقام باستجوابه بحضور المدعي العام السيد (معروف جيا ووك) ومدير الشرطة العام السيد (وجيه يونس) وقد اعترف الجاني اعترافاً صريحاً بمحاولته اغتيال الوزير المذكور لعدم إعادته إلى وظيفته التي كان قد أوعده بها ولكن بدون جدوى وأنه بعد أن يأس من وعوده أقدم على اغتياله دون أن يحرضه أو يعاونه أو يشترك معه أي شخص أخر...
عد انتهاء التحقيق واعتراف الجاني اعترافاً صريحاً بأنه القاتل , وأنه لا شريك له في هذه الجريمة وفي مساء نفس يوم الحادث وقبل مغادرة حاكم التحقيق حضر رئيس الوزراء وطلب منه أن يتركه يختلي بالمتهم وحيداً حيث تم له ما أراد واختلى بالمذكور نصف ساعة تقريباً وبعد منتصف الليل طلب الجاني قرطاساً وقلماً وسجل اعترافات جديدة بخط يده اتهم أشخاصاً بتحريضه على ارتكاب جريمة قتل وزير المالية وهم الوزيرين السابقين إبراهيم كمال وصبيح نجيب والمحاميين نجيب الراوي وشفيق نوري السعيدي والمتصرف (المحافظ) المفصول أحمد عارف قفطان , ومدير الشرطة العام السابق حسن فهمي. ب-بعد صدور قرار الحكم بإعدام القاتل هرع (نوري السعيد) إلى وزير الدفاع (طه الهاشمي) وألح عليه التعجيل في تنفيذ القرار وأن يجري ذلك عند الفجر وفي ساعة مبكرة وفسر طلبه هذا في رغبته أن لا يسمع أحد ما يكشفه المجرم في لحظاته الأخيرة من أسرار عند تنفيذ الحكم والذي لم يبلغ به إلا قبيل شنقه بدقائق وبحضور الجماهير التي احتشدت لتشاهد عملية الإعدام بخلاف رغبة (نوري السعيد) في تنفيذ الحكم بصورة سرية حيث صحت توقعاته إذ كان القاتل يصرخ بأعلى صوته وهو يقاد إلى المشنقة (إن نوري السعيد هو السبب... نوري السعيد هو اللي ورطني) واستمر في ترديد هذه العبارة حتى لحظة إعدامه.وكان الجاني قد كتب قبل إعدامه رسالة إلى (نوري السعيد) يعظمه فيها ويسبغ عليه أحسن الصفات ويلتمس منه تحرير رقبته ليكون عبداً مطيعاً وظهيراً قوياً له. وأخيراً يذكر (خلدون الحصري) في مذكراته : لقد هز هذا الحادث نوري السعيد من أعماقه وأصبح في وضع نفسي صعب عند مقتل رستم حيدر موجها ضده ويستهدف شخصه بالذات فتقدم باستقالته إلى البلاط في شباط 1940 إلا أن التحقيقات حول ملابسات القضية كشفت فيما بعد أن لنوري السعيد دوراً في مقتل رستم حيدر فهو من جهة تخلص من أبرز منافسيه على السلطة ومن جهة أخرى استطاع أن يوجه ضربة مؤلمة إلى خصومه من خلال تحريضه القاتل على توريطهم في الحادث.
قدم القاتل (حسين فوزي توفيق) والمتهمون بالتحريض على اغتيال (رستم حيدر) كل من صبيح نجيب وإبراهيم كمال وعارف قفطان ونجيب الراوي ومحمد صالح الجعفري إلى المجلس العرفي العسكري في معسكر الرشيد في 3/3/1940 , وبعد سلسلة طويلة من المرافعات المكثفة والسريعة وفي صباح يوم 20/3/1940 , أصدر المجلس المذكور قراره بالحكم على المجرم حسين فوزي توفيق بالإعدام شنقاً حتى الموت وفق المادة 214 من قانون العقوبات البغدادي وتبرأة المتهمين الموقوفين معه من تهمة التحريض على القتل.
وبعد أسبوع واحد من صدور قرار المحكمة وفي ساعة مبكرة من فجر يوم الأربعاء 27/3/1940 نفذ حكم الإعدام شنقاً بالقاتل على المشنقة التي نصبت في وسط ساحة باب المعظم في بغداد وبحضور حشد كبير من المواطنين الذين جاؤوا لمشاهدة عملية الإعدام حيث بقيت جثة القاتل معلقة على المشنقة وأنزلت في تمام الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم لتدفن ويدفن معها سر اغتيال هذا الرجل العصامي.
المصدر: ذاكرة عراقية
628 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع