بين نوري السعيد وصالح جبر.. تقارب وصراع
ظهر الخلاف بين الوصي عبد الإله ونوري السعيد، في وزارة الأخير، التي تشكلت في التاسع عشر من كانون الأول 1943. وفي هذا الصدد أشار السفير البريطاني السابق في بغداد السر موريس بيترسنMaurice Peterson،في تقرير رفعه إلى وزير الخارجية البريطاني أيدن Eden، عن لقاء تم بينه وبين عبد الإله عندما زار الأخير لندن في العاشر من تشرين الثاني 1943،نوه فيه إلى الفتور الذي كان بين نوري السعيد وعبد الإله، فذكر أن عبد الإله فتح له صدره وصارحه بهمومه ومشاكله وأعرب عن اعتقاده بضرورة إفساح المجال أمام الشباب لتولي المسؤوليات. وربما كان صالح جبر واحدا من بين هؤلاء الشباب.
يؤكد الدكتور مجيد خدوري، بان نوري السعيد، يعد بعد أن اصبح رئيسا للوزراء منذ العام 1930، الرجل الذي رسم سياسة بلاده الداخلية والخارجية، وتولى رئاسة الوزراء أربع عشرة مرة، ثلاث عشرة مرة رئيس وزراء للعراق ومرة واحدة رئيسا للاتحاد العربي الهاشمي (بين العراق والأردن)، كما شغل مرات عديدة، منصب وزير الخارجية، في حكومات كان هو الشخصية الرئيسة فيها. أن العراق بلد عسير حكمه، وقد تباينت وجهات النظر وتباعدت بالنسبة للوسائل، التي يجب إتباعها للسيطرة على الشعب، فبعضها نادى باللين والمداهنة وبعضها الأخر بالعنف والشدة. ويقول في وصف صالح جبر بأنه اكبر مؤيدي نوري السعيد، إلا ان صالح جبر عاد فأنشأ فيما بعد (حزب الأمة الاشتراكي) لمعارضة نور السعيد، وذلك عندما اختلف الزعيمان حول قضية معاهدة بورتسموث سنة 1948.
لا نعتقد أن هذا السبب كان وراء خلاف الرجلين، فكلاهما كان مؤيدا لعقدها. يقول الدكتور فاضل حسين عن نوري السعيد، اثبت انه مثال الطغيان والجبروت والغرور، حتى انه لم يحتمل وجود أحد عشر نائبا معارضا من بين مائة وخمسة وثلاثين في مجلس النواب، فحل ذلك المجلس بعد أن عقد جلسة واحدة عام 1954، وان المعارضة اتهمته بأنه (صوت سيده) أي البريطانيين، وكان صاحب مدرسة سياسية ترى مصلحة العراق والامة العربية في التعاون التام معهم. كما دون الصحفي العربي البارز ناصر الدين النشاشيبي نقاشا جرى في مجلس النواب، بين صالح جبر، الذي يسميه زعيم المعارضة ونوري السعيد رئيس الحكومة، قال فيه صالح جبر”أيستطيع السيد السعيد أن يفسر لي نوع هذا الحكم الذي تداس به حرمة القانون، إنني اعتقد انه لا يستطيع أن يفسر ذلك بغير الحكم الدكتاتوري"، فرد عليه نوري السعيد قائلا لقد اتهمني السيد صالح جبر بالدكتاتورية، وأنا أود آن أُشهد الوزراء، الذين تعاونت معهم : هل كنت في يوم من الأيام ديكتاتورا؟ وعلى كل حال، أنا عضو في هذا المجلس الذي يضم رجالا اكثر مني خبرة وفي اليوم الذي أفكر فيه إنني أنا الزعيم الوحيد، يجب علي أن أتقاعد".
ويضيف النشاشيبي، الذي تربطه مع نوري السعيد وصالح جبر صداقة متينة، بأن الجدل بين الاثنين قد استمر، وكان صالح جبر قد تهكم على نوري السعيد، واصفا إياه بأنه كبير السن وحالته الصحية لا تساعده قائلا”ولكنني لا أوافق لو أن السيد السعيد أتى للحكم بالطرق الاعتيادية : فقاطعه السعيد قائلا: هل جئت بالزور.. او من السطح او بالإرهاب.."، وكان أبلى من صالح جبر بكثير على حد تعبير النشاشيبي. لكن صالح جبر استمر على حد وصف صاحب الرواية بالقول،”أرجو من المسؤولين أن يحافظوا على رحابة صدورهم، فرد عليه نوري السعيد، تكلم كلاما موزونا حتى ترحب صدورنا، فرد صالح جبر، الطريقة التي أتى بها السعيد، تخالف كل المخالفة أحكام القانون الأساسي”الدستور”وهذا هو اعتراضي".
ويبدو أن الاثنين معا من المحسوبين على الوصي عبد الإله، والمخلصين له وهم كانوا جميعا داخل اللعبة البرلمانية الهادفة إلى ابتزاز حقوق الآخرين في أن يحكم نفسه بنفسه.
ويرى مزاحم الباجه جي أن بين الاثنين علاقات قديمة لها طابعها الخاص وان نوري السعيد عربي النزعة، يؤمن بالوحدة وكان يعمل في السياسة بوحي من عقيدته، وان كانت أساليبه خاطئة، وكان مزاحم يحترمه اكثر من بعض الساسة الآخرين”مثل صالح جبر الذي كان يعتبره طائفيا خطرا وتوفيق السويدي الذي يرى فيه رجلا حاقدا حسودا لايهتم إلا بمصالحه الشخصية.”أن الوصي عبد الإله يكره نوري السعيد ويخشاه ويعتبره غريما ومنافسا له، فقد كان الرجلان يدينان بمركزهما لبريطانيا وبخاصة بعد الاحتلال البريطاني الثاني للعراق في أعقاب إخفاق انتفاضة مايس 1941. ولكن عبد الإله يدرك حق الإدراك بأن البريطانيين كانوا يعتبرون نوري رجلهم المفضل. يروي مزاحم الباجه جي انه في الحادي والعشرين من آذار 1951،”كان السفير الأمريكي يستقبل الزوار ويقدمهم إلى معاون وزير الخارجية الامريكية، ومدير شعبة الشرق الاوسط وافريقيا المستر جورج ماكي Maky، وحالما وصل صالح جبر احتضنه المستر ماكي، وانزوى وإياه في ركن بعيد في الغرفة، وجلسا يتحدثان وحدهما إلى أن طلب إلينا الذهاب إلى غرفة الطعام، وبعد الانتهاء من الطعام، احتضن المستر ماكي، صالح جبر للمرة الثانية وأخذه إلى نفس المكان وانزويا يتحدثان لمدة ساعة، كان خلالها نوري السعيد وتوفيق السويدي وشاكر الوادي في حالة يرثى لها للإغفال الذي أصابهم على يد ماكي وللاهتمام (الأرعن) الذي ابدأه نحو صالح جبر"، وتساءل الباجه جي فيما إذا كان اللقاء قد حقق ما أراده الأمريكي ماكي من صالح جبر، وذكر انه تألم من وضع نوري وهو رئيس وزراء والى زملائه من الوزراء واعتبرت تصرف ماكي تصرفا صبيانيا ينبغي إظهار الاشمئزاز منه. ومما جاء في مذكرات الباجه جي انه في الثامن والعشرين من آذار 1951 زاره علي حيدر سليمان وقص عليه ما دار بينه وبين السكرتير الأول في السفارة الأمريكية، المستر ألن Alin في الثاني والعشرين من آذار1951، وهو أن المستر ألن اخبر علي حيدر ان الأمريكان لايجدون أحدا بين رجالات العراق غير صالح جبر لمعالجة الموقف في العراق وانهم يعتقدون أن نوري السعيد قد انهار صحيا وسياسيا واصبح عاجزا.
في السياق نفسه يروي مزاحم الباجه جي في سيرته أيضا أن مستشار السفارة الأميركية المستر ايرلاند Ireland قد زاره في الثاني عشر من آذار 1952 قبل الظهر وكان مهتما بما قد تسفر عنه الاتصالات بشأن تأليف حكومة الانتخابات،”لمست من كلامه أن الأمريكان يريدون انتصار صالح جبر في الانتخابات وحصوله على أكثرية.. حذرته من تبعة هذه السياسة الأمريكية ولكن مع الأسف دون جدوى.”
أما أحمد مختار بابان فقد ذكر أنه حين جاء إلى رئاسة الديوان الملكي، وجد الوضع في عمله على غير ما كان عليه. وحينما أراد الملك فيصل الثاني تكليف أحد الأشخاص بالوزارة بعد استقالة ارشد العمري في الثالث عشر من آب 1954، اتفق مع صالح جبر وفاضل الجمالي على أن يؤلف نوري السعيد الوزارة الجديدة. وكان صالح جبر مستعدا للتعاون مع نوري السعيد ويدخل معه الوزارة، مما كان يعني تأييد أنصاره له، فضلا عن ذلك أن أكثرية أعضاء المجلس الجديد كانوا في الاصل من حزب نوري السعيد، الاتحاد الدستوري.
ولعل ما أشار اليه أحمد مختار بابان بأن سبب الخلاف بين نوري السعيد وصالح جبر، يعود إلى أن نوري السعيد قد ارتكب خطأ في تلك المرحلة حينما ورط رؤساء العشائر بالانتماء للأحزاب، الأمر الذي عمق من الحزازات القائمة بينهم وتحول إلى عداء بينهما، في الوقت الذي كان فيه صالح جبر مستعدا قبل ذلك لتأليف حزب مشترك مع نوري السعيد. ويضيف بابان بأن العديد من رؤساء العشائر تهافتوا على حزبى نوري السعيد وصالح جبر. وجاء في مذكراته”انزعج مني المرحوم نوري مرة أخرى بسبب الخلاف بينه وبين صالح جبر، وقد بلغ الخلاف بينهما إلى الحد الذي شكل كل منهما حزبه الخاص”.
كان نوري السعيد وصالح جبر قد اتفقا على تأسيس حزب واحد بأسم حزب الاتحاد الدستوري، تكون هيئته المؤسسة من ثمانية أعضاء يختار نوري نصفهم ويختار صالح نصفهم الآخر. ويرى احمد مختار بابان بأن نـوري السعيد يعتقد أنه صديقا لصالح جبر، وأنه يميل إلى صالح اكثر من السعيد. ومما جاء في مذكراته بهذا الشأن”كان صالح جبر من رجال الدولة المعروفين، كان أمرا طبيعيا أن يكون على اتصال مباشر بالعرش، وبصفتي رئيسا للديوان الملكي من واجبي أن استقبل العديد من الناس من شتى الطبقات والاتجاهات. ولم يكن نوري ليقتنع بحيادي. وأوضح أن هناك من سعى إلى توسيع شقة الخلاف بين نوري السعيد وصالح جبر لغايات شخصية”، وكان معظم هؤلاء في البداية من أصدقاء صالح جبر، ثم اصبحوا بعد مدة من أصدقاء نوري وربما استغلوا خلافات الاثنين من اجل التقرب من نوري السعيد بحكم دوره ومكانته البارزة من بين الساسة العراقيين آنذاك. وعلى الرغم من أن بابان لم يذكر هؤلاء لكنه أشار بوضوح تام بأن أمثال هؤلاء قد جعلوا منه محورا في الموضوع للتقرب من نوري السعيد الذي حملوه على الاعتقاد بأن إبعاده من البلاط يضعف موقف صالح جبر. وربما سعى للتقرب بين الشخصين بتشجيع من الوصي عبد الاله حتى أن الأخير طلب منه أن يجمع الاثنين في بيته وعاتب أحدهما الأخر بصراحة على كل شيء. وكان نوري السعيد يرى أن صالح جبر واقع تحت تأثير عبد المهدي المنتفكي. وكان صالح يرد على اتهام نوري له بهذه العبارة التي دونها بابان”ياباشا أني لست واقعا تحت تأثير أحد ولم أقع يوما ما تحت نفوذ أحد فأنت هو ذلك الشخص، انك في الأزمات ستعرف من هو صديقك. أني لازلت صديقك.”ويضيف بان الجو سادَه العتب والوئام لكنه لم يسفر عن نتيجة، لان قلب نوري كان مشحونا ضد صالح جبر، بسبب الأشخاص الذين يحومون حوله، ويعتقد احمد مختار أن خليل كنه يعرف هؤلاء جيدا وأن كنه كان يسعى للخلاف بين نوري السعيد وصالح جبر.
لم يكن مناصا إلا أن نقتبس مارواه بابان في هذا الشأن أيضا حينما قال”..قصة ارويها كما وقعت خدمة للتاريخ، فقد كان صالح جبر عندي في البيت ذات مرة كزائر، وإذا بنوري السعيد يصل إلى داري فجأة زائرا أيضا. وكنت آنذاك رئيسا للديوان الملكي، وعندما شاهد نوري صالح جالسا ارتبك، ولكن صالح قد نهض بمقدمه، أما نوري السعيد فقد عاد فورا إلى سيارته وفيما كنت في توديعه قام صالح مودعا إذ اثر الانسحاب حين ذاك، فقد دخل نوري الذي عاتبته كثيرا، وقلت له أن تصرفك اليوم مخالف لعاداتك وهو عمل فيه غلو كبير..". وقد رد عليه نوري بالقول،”أنت لاتعرف، فهل تقبل أن يمسني صالح حتى فـ (عرضي)، وقد استغربت الأمر لأن صالح جبر لا يبدر منه مثل هذا التصرف... قلت لنوري اعرف أدب صالح الجم ورصانته واكدت له أن صالح يكن له الاحترام والود. وقلت له أنتما لا تختلفان في السياسة الداخلية والخارجية، وانما تختلفان على أشخاص معينين ثم استأذنته أن أفاتح صالح بالموضوع فوافق". ويضيف بابان،”زرت صالح وقد وجدته متألما للغاية من موقف نوري،.. وحينما أخبرت نوري بأن صالح قد تعجب للأمر قال عندها نوري أنا اعرف صالحا واعرف انه لايمكن أن تصدر منه هذه الأقوال فهو ارفع من أن يتدنى إلى هذا المستوى ولكن ماذا افعل إذا كان الذي نقـل لي الكلام شخص أثق به وكان ذلك أثناء وجودي في لبنان وقاله في مجلس محترم”والواضح أن هناك من أراد الوقيعة بين الاثنين.
تقرر أن يجمع الوصي كلا من صالح ونوري في داره وجرى عتاب شديد، وكان صالح جبر في منتهى الغضب على حد وصف احمد مختار بابان، وأصر نوري على عدم ذكر اسم الشخص الذي وشى، لكنه في الأخير اقتنع بأنه على خطأ فقام وقبل صالح، الذي قابله بالمثل.
يتضح من كل ما تقدم أن هذه الخلافات قد أضرت بالاثنين وبمصلحة البلاد، وشجعت الآخرين للتدخل في شؤونهما، في وقت لا يختلف الاثنان عن رسم السياسة الخارجية وان اختلفا في السياسة الداخلية إلى حد ما، وعلى حد وصف الوصي عبد الاله، فأن”القطبين كانا في خندق واحد لو استطع لحبست كليهما لأنهما مختلفين على أمور تافهة ومتفقين على أمور أساسية”.
مع كل ما تقدم يبقى نوري السعيد رجل دولة من الطراز الأول بكل معنى الكلمة، وعلى حد وصف ولدمار غلمن”أن نوري السعيد في السنين الأخيرة من حياته يعمل وحده، ويضع ثقته في أشخاص قليلين ويستشير نفرا من خاصته. وكان كتوما ويعتمد اعتمادا كبيرا على ذاكرته العجيبة.. وعليه خطوط من أثار حياة شاقة حافلة بالمشكلات وعيناه غامقتان منتبهتان دائما وذكيتان، وكان محدثا ذا حيوية..". ويظل صالح جبر اصغر سنا واقرب إلى روحية الشباب، وهو الدقيق في مواعيده الحريص على هندامه، الذي يزن خطواته بميزان من ذهب، لا يعطي بقدر ما يستطيع هو.
فاطمة صادق السعدي
عن رسالة (صالح جبر ودوره السياسي)
783 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع