من ذكريات نائب في العهد الملكي..ماذا كان يفعل برلمان الثلاثينيات؟
سارت الحكومات منذ تأسيس الدولة العراقية سنة 1921 وإلى سنة 1930 في سياقات تنفيذ الانتخابات النيابية على طريق الترشيح الفردي دون اللجوء إلى اتباع نظام القائمة. وكان من المتعارف عليه في هذا العقد من الزمان فوز مرشحي الحكومة على الاطلاق، كون الأكثرية الساحقة كانت طوع أمر الموظفين الإداريين ولم يأت ذلك بالإكراه أو بالشدة... بل بحكم طبيعة الانقياد...!!
وأما سكان المدن، المتوغلون في معرفة أمور الانتخابات وطرقها فيشكلون أقلية ضئيلة، بسبب أن من يتحدى الحكومة (ومرشحيها) في الانتخابات لابد وأن يحصد الخذلان والفشل...!!
حتى أنني لما دخلتُ انتخابات سنة 1930 حاملاً شعار رفض المعاهدة، ومعارضاً الحكومة، كنتُ قد أحرزتُ المرتبة الأولى في انتخابات قضاء الموصل، فضلاً عن أصوات لا بأس بها من بعض الأقضية، لكني لم أغدو نائباً (في النتيجة) لأن هناك (ثمانية أقضية) غير قضاء الموصل، يحصل فيها من يضع الأوراق (الانتخابية) في صناديق الاقتراع حسبما تريده الحكومة ويتطلبه الحال والواقع...
وقد قال لي مرة (نوري السعيد) سنة 1930 وكان يومها رئيساً للوزارة،أنهم بصدد إجراء تعديلات في قانون الانتخابات... فقلتُ له : أي قانون من القانونين؟! فقال بصفة المندهش : أي قانونين؟!... فأجبته القانون الأول قانون الانتخاب المكتوب، الذي لا حكم له إلا تسجيل (خلاف الواقع)... أما القانون الثاني فهو قانون الترشيح (غير المكتوب)... فضحك الباشا... وقال : لا... لا... القانون الأول... الأول...!!
وتقريراً للواقع، نقول أن الوزارات كانت قد سارت في موضوع الانتخابات على وفق أسلوب واحد وهو الترشيح وضمان انتخاب المرشحين، غير أنه كان هناك بعض الشذوذ في الطرائق، كان لها أثر شديد في إذلال الحياة النيابية وجعلها عالة على البلاد.
فالضربة الأولى جاءت على يد نوري السعيد في وزارته الأولى سنة 1930.
وتفاصيلها كما يأتي : كانت الانتخابات سنة 1930 قد تقدمت وكادت أن تنتهي. وكنتُ عضواً في الهيأة التفتيشية ومنتخباً ثانوياً ومرشحاً للنيابة. وكان تحسين علي متصرفاً في الموصل، فذهب إلى بغداد لتلقي (الوحي النهائي) عن أسماء المرشحين. ولما عاد زرته في مكتبه الرسمي.وبعد السلام والسؤال أخرج من جيبه المفكرة السنوية الخاصة به وفتحها وقال: انظر هذه أسماء مرشحي الحكومة، ثم أن إسمك على رأس القائمة. فلما نظرتُ القائمة رأيتُ إسمي وشهرتي على رأس الأسماء، فقلتُ : نشكرهم ونشكركم، فقال : ولكن هناك شرط...!! فقلتُ : وما هو؟! قال : أن تعطي تعهداً خطياً بقبولك المعاهدة، ثم بدخولك حزب الحكومة وهو حزب العهد. فوجمتُ... ثم أردفتُ قائلاً : ولمَ كل هذا؟ قال : هذا هو أمر رئيس الوزراء. قلتُ : ولكنني رشحتُ للنيابة مرتين، وكانت هناك أمور جسام، وكان هناك رئيس، وكان هناك وزراء... وأحدهم هو نفسه نوري السعيد، لكنني لم أُكلّف بمثل هذا التكليف المهين فقد اعتمدوا على شرفنا وقولنا... حتى أنني قد بقيتُ نائباً مستقلاً أكثر من شهر ولم أدخل حزب التقدم إلاّ بعد أن طلب إليّ المرحوم عبد المحسن السعدون الاشتراك في حزبه، فاشتركتُ في حزب التقدم لقناعتي بإخلاص زعيم الحزب وإصابة أهدافه. والآن أرى نفسي أمام شيء جديد تَعافُه النفس الأبية، وإني لستُ مستعداً لقبول هذا الشرط المخطوط، لأن بهذا التعهد المخطوط يراد من المرشح أن يشتري كرسي النيابة بصك يدلّ على الذلّ والمسكنة... فأي خير في مثل هذا النائب المملوك...؟!
فالحكومة تريد أن تستند إلى المجلس وتبرم المواثيق والأحلاف مع الدول الأجنبية، لذا كان عليها أن تكون قوية بمجلسها النيابي..
ثم كان عليّ أن أودع المتصرف وأخرج... وكانت نتيجة هذه المكالمة بطبيعة الحال أن الحكومة أخرجت إسمي من بين مرشحيها، ولابد أنها وجدت من يعطي مثل هذه الصكوك...
ولأن الحكومة أرادت التشدّد في هذا الموضوع وعدم التسامح بأن يكون النصر القاطع لغير مرشحيها، فقد وجهتْ الإنذار إلى الموظفين المهدّدين بقطع الأرزاق وسوء المصير. وكان أن حصل في فترة قبل الانتخاب الثاني أن أذاعت الحكومة بشتى الوسائل أن (ذيلاً) لقانون انضباط موظفي الدولة سيصدر قريباً وفيه يحق فصل الموظف بقرار من مجلس الوزراء.
وأُفهم الموظفون من طرف خفي بأن سيرهم أثناء الانتخابات سيكون له أثر في مصاير وظائفهم. وقد حكى لي أحد أصدقائي أن (آمره) حضر إلى مقره الرسمي لإفهامه (بالذات) أسماء مرشحي الحكومة. وكان أن رأى الآمر أحد أولاد الموظف المذكور كان متواجداً في الدائرة حينذاك. فأشار إليه الآمر أن يتقدم نحوه، فلما فعل الطفل قال الآمر وهو يقدم نصائحه الى الوالد : أرجوك فكّر في مستقبل هذا الطفل فيما إذا خالفتَ أوامر الحكومة …!! في الحقيقة كان هذا إسفافاً ما بعده إسفاف … وسخافة تصل بالآمر إلى درك أسفل من
التفاهة...!!
وقد جرى قبل هذا الاستفتاء ثلاث انتخابات أحدها انتخاب المجلس التأسيسي، ولم يصل الأمر بالحكومة إلى هذا الحال الذي حطّ من كرامة الموظفين الذين هم عماد الدولة الأساس.
ثم جرت الانتخابات في مركز الموصل فكانت حفلة مضحكة كادت أن تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه … بحيث أن مؤيدي الحكومة لم يردّوا على أي واحد ندّد بالمعاهدة … فلم يدافعوا عنها ولم يذكروا حسناتها بل جاءوا بما استوجب السخرية …
وصرخ أحد المرشحين : (هل يعقل يا ناس بأنني وأبي جواسيس للإنكليز …؟!! مع العلم أن والدي كان قد توفي قبل الاحتلال بسنين). وقال المرشح الذي أصبح نائباً محترماً، أنه قد نام على التراب في ثورة الحجاز، فقلنا له انه يجهل التأريخ … وقال مرشح ثانٍ أن رجال الوزارة رجال أسود … فقلنا له : إننا لم نقل أنهم ثعالب …!! وفي هذا المقام توجب علينا أن نقدم إحصاءً طريفاً عن المجالس النيابية منذ أول يوم تأسيسي وكما يأتي :
لقد جرت في العراق تسع عمليات انتخاب، وتألفت تسعة مجالس نيابية. وكان عدد النواب (88) نائباً إلى سنة 1934 ثم أصبحوا في وزارة علي جودت (110 نائباً). وهنا ندرج قائمة بأعمار المجالس النيابية وأسماء رؤساء الوزارات الذين رشحوا النواب فيها.
المجلس من إلى عمر المجلس اسم رئيس الوزراء يوم شهر سنة
الأول 16 تموز 1925 19كانون ثاني 1928 عبد المحسن السعدون
الثاني 13 أيار 1928 1 تموز 1930 18 عبد المحسن السعدون
الثالث 1تشرين الثاني 1930 8تشرين ثاني1932 نوري السعيد
الرابع 8 آذار 1933 4 أيلول 1934 27 5 1 ناجي شوكت
الخامس 29 كانون أول 1934 9 نيسان 1935 11 علي جودت
السادس 8 آب 1935 31تشرين أول1936 حكمت سليمان
السابع 27 شباط 1937 30 آب 1939 جميل المدفعي
الثامن 23 كانون أول 1937 5 شباط 1939 نوري السعيد
التاسع 12 حزيران 1939 الله أعلــم الله أعلــم
وهكذا نجد أن أطول المجالس عمراً هو المجلس الأول الذي قام بترشيح نوابه السعدون إذا ما استثنينا المجلس القائم الآن. وأقصر المجالس عمراً هو المجلس الخامس الذي انضوى تحت لواء علي جودت رئيس الوزارة.
وأما آفة حلّ المجالس النيابية فقد عمّت على الجميع. ولولا آفة الحل، لما احتوت المدة من سنة 1925 وسنة 1941 أكثر من أربعة مجالس – على وفق الامتداد الزمني الشرعي لكل دورة مجلس.
لكن في المجلسين الأول والثاني، فقد كانا يسيران على وفق نظام حزبي منظّم، فضلاً عن تنظيم المعارضة نفسها. فالحكومة برئاسة عبد المحسن السعدون كانت تستند إلى حزب برلماني هو (حزب التقدم). أما المعارضة فكانت بزعامة ياسين الهاشمي المستندة إلى حزب الشعب.
وفي المجلس الثالث كان حزب العهد بزعامة نوري السعيد هو المسيطر على المجلس، في الوقت الذي كانت فيه المعارضة غائبة (غير موجودة) بسبب استقالة أقطابها.
أما المجلس النيابي الرابع، فقد أوجد فيه ناجي شوكت شيئاً جديداً يسمى (كتلة) … إلى أن استقال ناجي شوكت وترك الشقاء على من بقى … في الوقت الذي كان يمثل المعارضة ياسين الهاشمي.
وفي المجلس النيابي الخامس قام علي جودت الأيوبي بتشكيل حزب برلماني تحت أسم (حزب الوحدة). وفي الفترة عينها كان ياسين الهاشمي قد جمع شمل المعارضة ؛ إلا أن هذا المجلس لم يمكث تحت القبة أكثر من ثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً. وللطرفة نقول أن وزارة علي جودت قد حذت حذو وزارة نوري السعيد في أخذها (تعهدات خطية) من مرشحي النيابة يتعهدون فيها بأنهم داخلون في حزب الوحدة. وعلى الرغم من ذلك فإن مجلس علي جودت لم يقض العدة وهي ثلاثة أشهر وعشرة أيام إلاّ وأصبح في (خبر كان) ثم تبعثر، ثم دفن في مقبرة الأحزاب العراقية. وقد حاول البعض أن يبعثوا هذا الحزب من الموت بزعامة جميل المدفعي فلم يفلحوا.
وفي المجلس السادس الذي كان زعيمه ياسين الهاشمي، ألغى الهاشمي (حزب الأخاء) (حزبه وحزب رشيد عالي) واكتفى بكتلة برلمانية، وهي البدعة التي أصبحت سنّة شرعية.
وفي المجلس السابع تكتل بعض النواب تحت راية (حزب الاصلاح الشعبي) حتى قيل عن هذا الحزب أنه (حزب شيوعي بلشفي) … لكن بعد حين زال هذا العنوان وبقى المجلس يتخبط في دياجير النفاق والتزلّف، ابتداءً من مصادرة أموال الوزراء السابقين ومحاكمتهم، مروراً باقتراحات نصب تمثال المرحوم بكر صدقي وإهدائه داراً كونه المنقذ الأعظم لهذه الأمة...!! ثم رأينا فيما بعد كيف تبعثر المنافقون عند مقتل بكر صدقي وكيف انقلبوا على حكمت منقلباً، وأي منقلب …؟! وهكذا ذهب هذا المجلس بعد أن سجّل على نفسه الاعتراف بمشروعية (أم الكبائر رقم 2)، وهي زج الجيش في السياسة، الأمر الذي أثمر (زقومية).
وأما المجلس الثامن فقد جاء إلى القبة بترشيح المدفعي، إلاّ أن هذا المجلس لم يكن يسنده حزب ولم تكن تؤيده كتلة، رغم أن الكثيرين ممن أصبحوا (نواباً) قد كوفئوا (بالنيابة) بناءً على تأييدهم المدفعي بإرسالهم البرقيات خالعين عليه زعامة (حزب الوحدة) الذي مات وهو في مهده. وقد كانت من مثالب هذا المجلس تأييده سياسة اسدال الستار على الماضي، وهي (أم الكبائر رقم 3).
كان في يقين نوري السعيد عند تشكيله لحزب العهد ان يكون ذلك تيمناً بجمعية العهد التي تشكلت في العهد العثماني وكان السعيد من أبرز أعضائها.
ومما ثبت تاريخياً أن أساس اقدام السعيد على تشكيل الحزب هو الحاح الملك فيصل الأول عليه بعد الاتفاق مع المندوب السامي البريطاني (فرنسيس همفريز) على فكرة مفادها ان السعيد هو أبرز من يستطيع عقد معاهدة جديدة للعراق مع بريطانيا بناء على طلب وإلحاح من جانب الأخيرة. وفعلا حصل ذلك، حيث تم في عهد حزب (العهد) تصديق المعاهدة العراقية البريطانية المعروفة باسم (معاهدة سنة 1930) التي جوبهت في حينها بالرفض وقيام المظاهرات والاحتجاجات. فقد كانت الشعارات المرفوعة على اليافطات صدى لارادة المتظاهرين.. (يحيا العراق) و (ارادة الأمة فوق الجميع) و (لا معاهدة.. فليسقط الخونة). ومع ذلك تم عقد المعاهدة في الثلاثين من حزيران سنة 1930 فأضربت مدينة بغداد واستمر الاضراب دون انقطاع لمدة اربعة عشر يوماً.
وبعدها حدث خلاف داخل العهد حين قدم جميل المدفعي رئيس مجلس النواب مذكرة احتجاج على تصرفات مزاحم الباجه جي. وفي سنة 1935 شكّل المدفعي وزارته الثالثة مُدخلاً معه السعيد في تلك الوزارة وعيّن علي جودت الأيوبي رئيس حزب الوحدة الوطنية رئيساً لمجلس النواب.
وعلى أثر ذلك الخلاف قام المدفعي بالانفصال عن حزب السعيد وعمل لوحده على تأسيس حزب سياسي جديد يدعو اليه معارفه ويجمع تحت خيمته أنصاره وكل من يناصب الباشوات (الهاشمي والسعيد) العداء …!!
وقد تأملت الشخصيات التي تقدمت إلى المدفعي بمساعدتها في اسناد الحزب، ان يكون هذا العهد مفتاحاً جديداً للعمل السياسي الوطني وملاذاً خالصاً من تأثير النفوذ البريطاني لما عرف عن المدفعي مناوأته الانكليز وخاصة مواقفه العدائية منهم في ثورة تلعفر سنة 1920. الا ان طموح مؤيدي المدفعي في ذلك ذهب أدراج الرياح حين قام بكر صدقي بانقلابه المفاجئ سنة 1936 فانتهت بذلك حياة حزب العهد وحزب الوحدة (الذي لم ير النور) فتشتت السياسيون جميعاً شذر مذر في الآفاق. ومما يجدر ذكره ان حزب الوحدة الوطنية الذي أسسه في أيلول من سنة 1934 علي جودت الأيوبي كان على أثر الانشقاق الذي حصل داخل حزب الاخاء الوطني الهاشمي، وقيام الأيوبي بتشكيل الوزارة في 27 آب سنة 1934.
ومن أبرز قادته صالح باش أعيان وسالم قاسم أغا وبهاء الدين نوري ونجيب الراوي وحازم تحسين أغا والحاج رايح العطية وعبد الهادي الجلبي.
وقد ثبت لنا من خلال التدقيق والتمحيص ان حزب المدفعي (حزب الوحدة) كان مشروعاً لتأسيس الحزب ولم يثبت لنا انه أجيز تحت أي شكل من الأشكال ولم يمارس نشاطاته، ودليلنا على ذلك أن كتابين مهمين صدرا في العراق وناقشا بتفصيل مسهب تاريخ تأسيس الأحزاب هما كل من كتاب (الأحزاب السياسية في القطر العراقي للفترة من 1908-1958) المطبوع سنة 1977 لمؤلفه الفاضل عبد الجبار حسن الجبوري، وكتاب (الأحزاب السياسية في العراق 1921-1932) المطبوع سنة 1978 لمؤلفه الباحث الدكتور فاروق صالح العمر. ولم يذكر أي منهما شيئاً عن ذلك الحزب. الا انه يتحتم علينا ان ندون الحقائق التاريخية كما حدثت لا كما يراد لها ان تكون، حيث ان شخصيات موصلية مشهود لها بالوطنية والاخلاص والت الحزب وقت تأسيسه (بأمل وطنيته) حيث قامت جريدة العُقاب لصاحبها السائح العراقي يونس بحري بنشر البرقية الواردة من الموصل إلى الجريدة بعددها ذي الرقم 172 الصادر في 18 تشرين الثاني 1935. وقد أوردت الجريدة ذلك الخبر بترويسة تقول : (الموصل تؤيد حزب الوحدة وعلى رأسه الزعيم المدفعي). ثم أعقبت الجريدة تذكر في التفاصيل (هبطت على ادارة جريدة العقاب برقية من أعيان ووجهاء الموصل وقادة الرأي فيها يؤيدون جميل بك المدفعي وحزب الوحدة. ولاشك ان ذلك لدليل ساطع على ما للزعيم جميل بك وصحبه من المكان في قلوب الأمة).
عنهم : مصطفى الصابونجي، احمد بك الجليلي، عبد الله باشعالم، محمود خيري النائب، الدكتور داؤد الجلبي، محمد صدقي سليمان (الكهية) المحامي، المحامي ياسين أفندي العريبي، سعد الدين المحامي، سليم الجراح، حاج مصطفى سري.
وباختصار، يمكننا القول أن جميع المجالس النيابية، ومن ضمنها المجلس التأسيسي، تألفت كلها، بترشيح الوزارات القائمة في حينها، ولم يكن لأي وزارة أن تسير على غير هذه الطريقة، كون قانون الانتخاب لا يتفق وحالة البلاد الثقافية والاجتماعية، حتى بعد مضي عشرين سنة على تأسيس الحكم الوطني.
إذاً فلا مناص للوزارات من اتباع قانون الترشيح، أو تبديل الأصول الموضوعة لانتخاب النواب في القانون الأساس وقانون الانتخاب، تلك الأصول التي ظهر فشلها بصورة لا تقبل الجدل … إذاً لم تدهورت الحياة النيابية في العراق من سيئ إلى أسوأ …؟! سؤال يتوجب على كل من يتصدى لكتابة تأريخ العراق أن يضعه في صدر أولوياته … وفي يقيننا أن أحد أهم الأسباب هي احتضان الأقرباء والمحاسيب والمناسيب ولنا في موقف عبد المحسن السعدون من رفضه ترشيح ابن أخية توفيق السعدون لملء دائرة متصرفية العمارة الانتخابية، علماً ان الهيأة الإدارية لحزب التقدم (وكان عبد المحسن السعدون أمينه العام) كانت قد أوصت في غيابه بترشيح توفيق لقناعة الهيأة بكفاءة المرشح وثقافته ما يؤهله للنيابة.
وكان أن انطوى هذا الأسم من التداول وتم ترشيح سواه... وهكذا كان... ومما يجدر بنا ذكره أنه بعد انتحار عبد المحسن السعدون وانحلال النيابة في لواء المنتفك أعاد حزب التقدم ترشيح (توفيق السعدون) مكان المغفور له عمه ونجح بالطبع وأصبح نائباً ولكن بعد وفاة عمه وزوال نفوذه كرئيس للحكومة.
وهناك أسباب أخرى أدت إلى ضعف العملية النيابية. إذ من المعلوم أن القانون الأساس لا يجيز حل المجلس إلا لسبب وجيه، وإذا تم حل المجلس لذلك السبب، فلا يجوز حل المجلس الجديد لأجل ذلك السبب نفسه. وفي الغالب يكون سبب حل البرلمان هو اختلاف في وجهات النظر بين الحكومة والمجلس في مصالح يُدّعى أنها تخص المصلحة العامة للبلاد...
وبسبب مكوث أغلب المجالس النيابية فترات قصيرة، فقد غدت النيابة أمراً غير مستحباً عند العامة من الناس ومن غير النواب، إذ نتج عن ذلك أن غدا الإقبال على الانتخاب ضعيفاً في كثير من الدوائر، وقد شاب عملية الانتخابات - على مرّ تعاقبها – وقائع
مضحكة، كثيراً ما تندّر بها العامة قبل الخاصة، فوصلت إلى أبناء الشعب الاعتياديين يروونها لأولادهم وأهل بيوتهم...
ومنها القصة الآتية : سادت في فترة من الفترات فكرة إقناع الصحافيين بالعملية النيابية فتسابقوا إلى ترشيح أنفسهم، أو ترشيح الآخرين لهم – لا فرق – حيث تسابقت الوزارات إلى كسب ودّ أصحاب الصحف الكبيرة والمهمة وسحبهم إلى جهة النيابة فقد قام الأستاذ سليم حسون صاحب جريدة العالم العربي والأستاذ روفائيل بطي – كلاهما – بالترشيح تحت قائمة مرشحي الحكومة لنواب الموصل...
وعقيب الانتخاب بساعة دق جرس التلفون، وجاءت المكالمة بأسمي (بصفتي خير الدين العمري عضواً في هيأة المراقبة)، وكان المتحدث الأستاذ سليم حسون يسأل من بغداد عن نتائج الانتخابات، فذكرت له ان النتائج جاءت طبق الأصل، ثم تلوتُ عليه الأسماء الفائزة، فإذا به يصرخ على التلفون (وأنا..؟!) فقلتُ له (لا أسم لك مولانا) فسدّ التلفون دون إلقاء التحية أو تقديم الشكر...!!
وقد ظهر لنا فيما بعد أصل قصة الأخطاء الحاصلة والتي أدت إلى الصدام في المصالح، ثم عودة المصالح إلى ما كانت عليه... كل هذا يحدث والناخب المسكين، سواء كان ابن الموصل، أو أبن البصرة... ليس له من أمره سنداً...
فيحكي المفسّرون قائلين : ان الكاتب الذي كتب البرقيات السرية بترشيحات الحكومة كتب اسم روفائيل بطي في قائمة ترشيحات لواء البصرة، وبعد أن اكتشف الكاتب خطأه، وأن روفائيل بطي هو ابن الموصل وليس البصرة...!! عاد عن خطئه وكتبه مرة ثانية في قائمة ترشيحات لواء الموصل وأرسل بها برقية، وبقي سليم حسون (خارج الملاك)، مع العلم أن الكاتب لم يشطب اسم روفائيل من البصرة، وهكذا أصبح - بعد أن ظهرت النتائج – أن روفائيل بطي (فاز بالنيابتين) شمالاً وجنوباً... إلاّ أن ذوي الأمر تلافوا القضية، فقام روفائيل واستقال من نيابة البصرة... شاكراً البصريين الكرام على ثقتهم الثمينة التي وضعوها فيه...!! وفي البصرة (بعد أن شغر مقعد نيابي واحد) جمعوا الناس مرة أخرى من جميع أطراف اللواء (كما ينص القانون) وانتخب سليم حسون... أي ان هؤلاء المساكين الذين جمعوا عادوا ووضعوا (بالحسون) ما كانوا قد وضعوه (في البطي) من ثقة ثمينة... فجاء الآن دور الحسون، فقام وشكرهم بدوره على ما وضعوه فيه من ثمين الثقة...!!
ومن طريف ما ذكره السائح العراقي يونس بحري في جريدة العُقاب عن موضوع الصحافة والترشيح للانتخابات النيابية، قال البحري ساخراً من كلا الصحفيين السمعاني وبطي وتحت عنوان شارع الصحافة ايام زمان... الكراسي لا تنتزع العقائد..! :
كانت جريدة العقاب التي أسسها ورأس تحريرها السائح العراقي يونس بحري لا تألو جهداً في توجيه النقد اللاذع للسياسيين كما للصحفيين فضلاً عن الكتّاب والشعراء والعاملين في الحقول العامة الاجتماعية والاعلامية، وحسبما تتطلبه ظروف الصراع السياسي والصحافي للساحة العراقية يومذاك.
ففي العدد الثالث الصادر في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1933 نشر البحري انتقاداً في جريدته إلى بعض الصحافيين من زملاء المهنة قال فيه : (السمعاني وبطي) من بلدة واحدة، ويشتغلان في حرفة واحدة وهما من لحم ودم واحد الا انهما مع ذلك يختلفان في الرأي والمبدأ... وفضلاً عن ذلك فهما يختلفان عن بعضهما في الطول والعرض.
فالسمعاني (عهدي) إلى قلامة ظفره، وبطي (إخائي) إلى قمة رأسه ولأجل ذلك يقوم كل منهما والدعاية لحزبه. بطي يذهب إلى مصر فتحتفي به الأوساط والاعراض، ويزور النحاس باشا فيرد النحاس زيارته ويصرف المال مثل حاتم الطائي.
والسمعاني في بغداد يسير مع (ي) فرنكول المهاجر الموصلي فيشتغل بالقضية (التيارية) مدافعين عن حقوق العراق...!!
وحرام على الزملاء ان يقضيا الوقت بالمشاحنات في حين ان الواجب يدعو الجميع لمعالجة قضايا البلاد الحيوية... على الاقل راعوا حقوق المهنة يا أساتذة...!
وفي العدد الصادر في الثامن من كانون الأول من سنة 1934 كتب البحري بقلمه بوصفه رئيساً للتحرير مقالاً جعل له عنواناً في وسط الصفحة يقول :(الكراسي لا تنتزع العقائد) إلى الزملاء النواب سليم حسون – عبد الغفور البدري – روفائيل بطي. الحمد لله على سلامة الوصول – وصولكم إلى الكراسي الوثيرة التي تهواها قلوبكم الرقيقة. فقد كان طريقاً وعراً محفوفاً بالمخاطر.. وشكراً للظروف التي وضعت صاحبة الجلالة في مقام يليق بها...!
عن كتاب (مقدمات ونتائج، مذكرات خيري الدين العمري)
المدى/خيري الدين العمري
793 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع