سنوات صدام مذكرات بقلم المترجم الخاص سامان عبدالمجيد ـ الحلقة الرابعة عشر

    

       سنوات صدام ـ الحلقة الرابعة عشرة

    

  

عندما وقع صدام في الفخ، هكذا بدأ العراق رحلة الهبوط المروعة إلى الجحيم

 

ـ تعرفين جيداً أن العراق لو كانت الحياة فيه عادية لكانت باركته الآلهة. هذا ما كنت أردّده لزوجتي من دون اقتناع كبير، كلّما انهارتْ عصبياً، ورغبت في الهجرة، هروباً من هذا النظام الذي أصبح مستبدّاً لحد السخرية، وكنت أضيف: ـ عليك بمزيد من الصبر، فالوضع سائر نحو التحسن، ثم إن صدّام ليس خالداً بأي حال! غير أني أقرّ اليوم، بأن الشك في كل ذلك ما انفك يساورني، خلال السنوات الأخيرة.


فالآن، وقد شارفتُ على الستين من العمر، صار تفاؤلي الطبيعي يأفل يوماً بعد يوم أفولاً واضحاً. ولذلك أجدني وأنا أنتظر في الغرفة الخلفية بداية أيّ لقاء أستغرقُ أحياناً في الحلم، فأتخيلني وقد تركتُ منصبي في الرئاسة، واستعدتُ حريتي. كنت أعرف أنني، أنا المترجم، لن أجد صعوبة في العثور على وظيفة في أيّ مكان آخر، حتى في داخل العراق.


فكنت أتصورني على رأس معهدٍ لتعليم اللغات، لكن من أين لي المفر، وسرعان ما كان يتداركني الواقع المر. فالإبتعاد عن الرئاسة أمرٌ غير وارد على الإطلاق، فمن دخل إلى الرئاسة كمن دخل إلى الكهنوت، ولا أحد يعرف متى يخرج من ذلك المكان، ولا حتى إن كان سيخرج منه أصلاً.


ولأنني كنت إلى جانب الرئيس صدّام، فقد كانت نظرتي للنظام مختلفة عن نظرة أغلب العراقيين لهذا النظام، تُرى كيف كان يمكن لهذا الرجل الودود الكيّس أن يكون ذلك الغول المشنَّع عليه؟


لم أكن ساذجاً، وكنت أعرف أنّ هذا الرجل شرس وبلا رحمة تجاه كل الذين كانوا يهدّدون سلطته. فسجن أبو غريب، الذي كان التعذيب يُمارس فيه على أوسع نطاق، كان الجميع يرتاعون منه ويفزعون. فالسجناء القدماء، الذين أسعفهم الحظ في أن يخرجوا منه أحياء، كانوا يرددون قصصاً تتعدّى حدود الفظاعة والوحشية.


وأكثر من ذلك، فلم يعد النظام خلال السنوات الأخيرة في حاجة لأن يُشهر عصاه الغليظة لفرط ما استبطن السكان خوفهم الشديد منه. فقد صارت الدعاية، صحيحها وباطلها، التي كانت تروَّج حول الممارسات القمعية لمصالح الأمن، كافية لإخماد أيّ ميل للثورة ولشل حركة كل المرشحين للمعارضة. ولذلك صارت المكابدة والتصبّر في صمتٍ طبيعتنا الثانية.


كنت قد صرتُ، على غرار الألوف من العراقيين، دولاباً من دواليب النظام. وعلى الرغم من قربي الشديد من السلطة فلم تتلطخ يداي بالدم يوماً. فقد كنت أتصرف كرجلٍ مهنيّ لا همَّ له سوى خدمة بلاده ما وسعهُ الجهدُ، كنتُ رجلاً «تقنياً»، وكنا جميعاً قد تعلّمنا كيف نتآلف مع الحياة التي كانت تفرض علينا فرضاً. كنت أرى أنّ البلاد قد انحرفت منذ سنوات عديدة، وكنا كثيراً ما نتحدث فيما بيننا في ذلك الأمر داخل القصر.


الهبوط إلى الجحيم


لقد بدأ الهبوط إلي الجحيم مع انفجار الصراع مع ايران. فمنذ ذلك الوقت، لم نعرف سوى الحرب والحصار، وقد قضى الشباب البالغون من العمر ثمانية عشر عاماً في 1980 ما لا يقل عن عشرة أعوام من حياتهم في الجيش، وكأن ذلك لم يكن كافياً فكان النظام يغرف من صفوف الشعب ليعبّيء ثكناته.


وعلى هذا النحو نشأ جيش شعبي، فكان الناس يُجنَّدون بالقوة لستة أشهر. وما أن ينتهي التجنيد حتى يُعاد تطويعهم لفترة جديدة. ولم يتوقف ذلك بأي حال من الأحوال، حتى مع الذين كانوا قد أنهوا خدمتهم العسكرية الكاملة. وعلى التلفزيون كان صدّام باستمرار يلحّ في رغبته في أن يرى العراقيين مهيئين للحرب على الدوام!


وقد كانت هذه الأشهر الإجبارية في الجيش الشعبي، بالنسبة للذين كانوا يعملون، بلا أي طائل. فشيئاً فشيئاً بدأت الرشوة تنخر جسم الجيش، فإذا كنت كهربائياً وكنت ترغب في أن لا تغلق ورشتك، كان يكفيك أن تدفع بقشيشاً للضابط المسؤول عن التجنيد لكي يمحو اسمك من القائمة.


وما لبثت هذه الرشوة ابتداء من العام 1996 أن أصبحت »رسمية« مع نظام »البديل النقدي«. فبكل قانونية، صار في إمكان أي شخص أن يدفع مبلغاً من المال حتى لا يؤدي خدمته العسكرية. وقد دفعت شخصياً عن ابني مجيد مليوناً ونصف المليون من الدنانير (حوالي 600 دولار) مقابل إعفائه من الخدمة.


بعد نهاية الحرب مع إيران في أغسطس 1988، ظن العراقيون أنهم سيتنفسون الصعداء أخيراً، لكن صدام، على العكس من ذلك، ما لبث أن عاد لتجنيد شعبه حول إعادة بناء الفاو التي خربها الصراع. فقرّر أن يُعاد بناء هذه المدينة الحدودية في خلال ثلاثة أشهر على أن لا تزيد هذه المهلة يوماً واحداً.


وكان التلفزيون يخصص ساعة ونصف الساعة من البرامج لمتابعة تقدّم مختلف الورشات. ففي رأي صدّام، لا يمكن تصور السلطة من دون رفع للتحديات التي كان بعضها لا يقل طيشاً وجنوناً عن بعضها الآخر. وما إن خلص من الحرب ضد ايران، حتى انطلق في مغامرة الكويت، لكن غزو هذه البلاد لا يزال أمره عندي غامضاً حتى هذا اليوم.

        


في الخامس والعشرين من يوليو 1990 تلقت ابريل غلاسبي، السفيرة الأميركية في بغداد لتلك الفترة، الدعوة للحضور إلى القصر، على الرغم من أنها لم تلتمس أي مقابلة. فبشكلٍ عام، كان أي سفير إذا تلقى دعوة على هذا النحو فذلك حتى يتسلم رسالة موجهة لحكومته.


وفي حالة السفيرة الأميركية تحديداً، أبلغ صدام جورج بوش الأب بأن العراق ليس عدواً للولايات المتحدة، وأن بغداد ترغب في إقامة علاقات متوازنة معها، قائمة على الاحترام المتبادل وعلى المصالح المشتركة، كما كان الشأن في عهد رئاسة رونالد ريغان ما بين العامين 1980 و1988.


وقد ظل صدام يردّد قائلاً:


ـ إن العراق بلد مستقل، وموقفنا معروف جداً.


وأجابت إبريل غلاسبي بأن للولايات المتحدة أيضاً الرغبة والإرادة في إقامة علاقات طيبة مع العراق. وحول مسألة الكويت تحديداً قالت موضحة:


ـ بشكل عام نحن لم نتدخل قط في الخلافات الحدودية ما بين العراق والكويت منذ العام 1960.


بدأت ابريل غلاسبي مسارها الدبلوماسي في السفارة الأميركية بمدينة الكويت.


وأثناء حديثهما تلقى صدام حسين مكالمة هاتفية من الرئيس المصري حسني مبارك، وبعد أن استأذن السفيرة غاب بضع الدقائق، وحين عاد أخْبرها بمضمون تلك المكالمة:


ـ الرئيس مبارك قال لي للتو إنه قد نظم لقاء ما بين الوفدين العراقي والكويتي على مستوى عالٍ في مدينة جدّة في الأيام المقبلة.


فهتفت أبريل غلاسبيه قائلة:


ـ يا له من خبر طيب.


وانتهى اللقاء على هذه النغمة الإيجابية.


صدام في الفخ


صدّام، في الواقع، كان قد وقع في الفخ الذي نصبه له الأميركيون حين صدّق ادعاءهم الحياد. وعلى أي حال فذاك هو ما تأكدنا منه بعد مرور بضع سنوات حين نشرت السلطات العراقية فحوى ذلك الحديث. فبعد مرور بضعة أيام على ذلك اللقاء الانفرادي، قامت ابريل غلاسبي بزيارة لطارق عزيز لتحيّيه قبل سفرها في عطلة.


أما بقية القصة فهي معروفة من الجميع، ففي حين كان صدّام، على مدى سنوات، يلقّن شركاءه العرب ميثاقه الوطني الشهير، الدّاعي إلى تسوية الصراعات بالطرق السلمية، فإنه لم يتورع مع ذلك عن غزو الكويت.


وقد كنت، شأن أغلبية العراقيين، أشجب واستهجن ذلك الغزو. فقد كنا نرى أنه من الخزي والعار أن تتعرض الوزارات الكويتية للنهب والتخريب، لكن احداً لم ينبس ببنت شفة، لأن الخوف كان كبيراً. والشخص الوحيد الذي تجرأ، حسب علمي، على الاحتجاج، هو وزير الداخلية في الحكومة الانتقالية نوري البدران وهو شيعي من البصرة. في تلك الفترة كان يشغل منصب السكرتير الأول لسفارة العراق في موسكو، وقد روى لي أنه خلال زيارة لطارق عزيز لم يتردّد في أن يقول له:


ـ ما هذا الذي فعلتموه في الكويت؟ ما الذي جعلكم تغزون بلداً عربياً؟


لكن طارق عزيز، الذي استشاط غضباً، ما لبث أن أجابه بأن لا شأن له بذلك الأمر، وبأنه ليس سوى دبلوماسي.


وقد قال لي:


- كانت نظرات طارق عزيز مهدّدة، لدرجة أنني ما إن عدت إلى البيت حتى رحت أردّد لنفسي بأن لا مفر من أن أغادر البلاد بأسرع ما يمكن.


وقد حصل نوري بدران على اللجوء السياسي في بريطانيا، والتحق بصفوف المعارضة في الخارج.


ظني ان صدام كان يعاني من شعور الحرمان من أن يكون رجلاً عسكرياً، مثل خاله الذي ربّاه، وكان محارباً سابقاً في حرب فلسطين. لقد كان مفتوناً بالحرب، وكان يرغب في أن يجعلها في خدمة عظمة العراق. فقد جعلتنا برامجنا العسكرية نخاصم مجموع جيراننا والمجتمع الدولي أيضاً.


كيف يمكننا ان ندّعي السلام في الوقت الذي تلتهم النفقات في مجال التسلح مبالغ فاحشة؟ فبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية العام 2000، أنشأ صدّام جيش القدس، حيث سعى لتجنيد مليون متطوع لتحرير بيت المقدس، مثلما حدث في عصر صلاح الدين. تُرى لماذا انشأ جيشاً جديداً بينما نحن نملك جيشاً منظماً وحرساً جمهورياً وميليشيات الحزب وفدائيي صدام؟


لقد كان صدّام مهووساً بأمجاد الحضارة العراقية، التي كان يدّعي بعثها من جديد، ليس من أجل صالح البلاد ولكن خدمة لمجده الشخصي. لقد كان يعيش متقمصاً روح الأمة. ففي الثمانينات، حين أعلن علماء عراقيون عن اختراعهم لصاروخ قادر على وضع أقمار صناعية في المدار، ما فتئ النظام يمجّد الحدث على مدى شهور كاملة، فقد كانت الدعاية الرسمية تثبت للشعب على هذا النحو بأن عراق صدّام صار منافساً قادراً على تحدي القوى الغربية.


في تلك الفترة كنت وأصدقائي نتساءل عن معنى كل ذلك. إننا نبني الصواريخ بينما جنوب البلاد لم يزوّد بالكهرباء، وبينما مدينة البصرة لا تملك الماء الصالح للشرب. في خطبه كان الرئيس يلقننا القصة الخالدة لسومر وبابل. إن للعراقيين في الواقع أولويات أخرى غير أحلام العظمة التي كانت تشعل قائدهم. فلا همَّ لهم بفخامة الماضي وجلاله، ولا بإرسال صواريخ إلى الفضاء، فهم يريدون الكهرباء والماء والهاتف والطرقات.


لقد كانت أزمة السكن دوماً من المشكلات الموجعة، ففي السبعينات أطلق النظام برامج لبناء مساكن شعبية لذوي الدخل المحدود في بغداد، لقد كان صدّام يُدلّل عاصمته، لكن الحرب ضد إيران، باستنزافها للموارد المالية ما لبثت أن أوقفتْ ذلك المشروع برمته.


وهكذا تركت مدن المحافظات لتخلفها، ولم تشهد بنياتها التحتية أي تطور. لقد كانت البلاد القائمة على مركزية مفرطة تتقدم بسرعة بطيئة، وهو ما يفسر نزوح السكان نحو العاصمة. فبدلاً من أن يحلّ مشكلات المحافظات، أصدر نظام صدّام قوانين مقيّدة لإمكانيات الاستقبال في المدن. فحتى يحق لأيّ مواطنٍ أن يمتلك شقّة كان يجب أن يكون مقيماً منذ العام 1977.


وفيما بعد صار القانون يطبق بأثر رجعي وصل إلى العام 1957. هذه السياسة لم تقض على أية مشكلة بل أوجدت تزويراً معمّماً، فقد صارت العائلات تحتل المساكن بشكل غير قانوني تحت أسماء مستعارة، وتتكدس في أحياء غير صحية من أحياء محيط المدينة.


كان صدّام كثيراً ما يردّد أن البلاد، حين استلم حزب البعث السلطة العام 1968، لم يكن يملؤها سوى المتشردين والصعاليك، فبفضله صارت بغداد تؤوي العديد من المنشآت الفاخرة بعد أن لم يكن فيها سوى فندق فاخر واحد لاستقبال الضيوف الأجانب. غير أنه ممّا لا جدال فيه، أن البلاد قد سجلت بعض التقدم الاجتماعي والاقتصادي في السبعينات، ولا سيما في قطاعات التربية والتعليم والصحة.


لقد كانت بلدان الخليج مجرد صحاري قاحلة، لكن هبة البترول ما لبثت أن حقّقت نموّاً خيالياً. أما نحن في العراق، فقد كنا نملك الماء والبترول وماضياً مجيداً، فما الذي شيّدناه؟ مع صدّام وحروبه صرنا شعباً من المعدمين، الذين احتلت أرضهم. يا لها من ورطة هائلة!


«كل شيء ممنوع» فبعد أن استنفدت البلاد طاقاتها في مواجهاتها مع جيرانها، صارت القضايا الأمنية تطغى شيئاً فشيئاً على الاعتبارات الأخرى. فقد «تحصّن» النظام تحصّناً تاماً ضمن نطاق أمني منيع أحيط به الرئيس من كل جانب ليعزله داخل برجه العاجي. لكن الرئيس المعتصم في داخل قصره كإله حيّ، ما فتئ مع ذلك ينشغل بالحياة اليومية للعراقيين، وبشكل صار أشبه بالجنون في النهاية.


قرارات بلا روية


لقد كان صدام يتدخل في كل شيء، ويتخذ القرارات بلا روية. ذات يوم لم تعجبه حصة تلفزيونية، فهاتف المدير العام للقناة «المذنبة» لكي يقول له بأن «البرامج لم تكن في مستوى الحاجات الثقافية للشعب»وذات يوم أرسل إلى وزارة الإعلام رسالة نشرتها الصحافة، كتب فيها بخصوص تحقيق مخصص لحيوانات قارة افريقيا، يقول فيها: «من الطبيعي جداً أن يكتشف العراقيون الثروة الحيوانية في العالم، غير أنه ينبغي التفكير في أن نعرض عليه أيضاً أفلاماً وثائقية حول الحيوانات البرية في العراق».


هذه التدخلات كانت تُغضب العراقيين وتزعجهم. وكان صدّام قد حظر الواجهات الملونة وستائر السيارات. وبالطبع لم يكن المقربون من الرئيس وأصحاب النفوذ معنيين بهذا الإجراء. ومن سخرية التاريخ أن الجيش الأميركي قد احتفظ بهذا الإجراء لكي يُسهّل عملية التحقق من الهويات، وفي أيّ حالة من الحالتين، ومع محتلّين أو غير محتلين، لم يحترم العراقيون هذا القرار الأحمق.


لكنَّ صدام مع ذلك، كان يتخذ قرارات عاقلة في بعض الأحيان، لكنه لم يُطبّقها أبداً على نفسه! لقد كان العراقيون يُعبّرون عن فرحتهم أثناء حفلات الزفاف أو الأعياد بإطلاق العيارات النارية في الهواء، وما أكثر ما كان يترتب على ذلك من حوادث مُميتة.

               


وقد حظر صدّام هذه العادة التي كان يصفها بالعادة «غير الحضارية»، وقد أيّد الكثير منّا هذا الإجراء الحكيم، لكنّ الرئيس نفسه، وبعد أيام قليلة من إصدار هذا القانون، راح يُطلق النار في الهواء من بندقيته أمام حشدٍ من الناس كانوا يُهلّلون له. صدّام هذا الذي لا أحد يتوقع تصرفاته، التفت ذات مرة نحو عبد حمود أثناء حديث مع ضيف أجنبي وقال له:


- تذكرت يا عابد! فنحن من فترة طويلة لم نعط فلساً لعبد محسن (نائب سكرتيره الصحافي).


لم يكن نظام صدّام بعيداً عن هذه الحال، فقصة النّسخ المصورة للدولارات توضّح مستوى اللاواقعية الذي أدركته السلطة. فبمناسبة استعراضات جيش القدس العام 2001، سعى صدّام إلى إذلال الأميركيين إذلالاً رمزياً. كان العراق قد قرّر إحلال اليورُو محلّ الدولار في معاملاته البترولية الخاضعة لمراقبة منظمة الأمم المتحدة في إطار قرار «البترول مقابل الغذاء».

     

وقد شاء صدّام أن يفرش الأرض بالدولارات لكي يدوس عليها الجنود، وهم يستعرضون أمام المنصة الشرفية، لكن أحد مستشاريه ما لبث أن أبدى اعتراضاً غاية في الأهمية: كيف يمكن للأرجل أن تدوس اسم الله؟ فالورقة الخضراء تحمل بالفعل عبارة (إن في الله ثقتنا). فلم يجد صدّام بدّاً، بكل ما أوتي من جدّ، من أن يسأل علي عبدالله سكرتيره الصحافي:


- قل لي يا علي هل God و»الله« يعنيان الشيء نفسه؟


- بالطبع، سيدي الرئيس.

                                        


أما رئيس الديوان أحمد حسين فلم يقتنع بذلك، مدّعياً أن الأول يعني إله المسيحيين والثاني إله المسلمين. وحتى يطمئنّ قلبه، أمر صدّام بالتحقيق في الأمر، وقد استدعيت وسئلتُ بدوري في الأمر، حيث عرض عليّ أحمد حسين ورقة دولار وطلب مني أن أترجم الشعار. وبعد أن أجبته راح يلحّ:


- هل يعني ذلك إلهنا نحن أيضاً؟


- المدلول واحد!


- أريد أن تؤكد لي هذا كتابةً!


أريد أن يعطيني مترجم آخر رأيه.


قال لي ذلك والريبة لا تزال تملؤه.


وحين عدت إلى المكتب فتحت قاموساً عربياً انجليزياً، وبالطبع وجدت أن كلمة «God» تنطبق بالفعل على كلمة «الله». وصورتُ الصفحة وكذلك السورة الأولى من القرآن الكريم بطبعة من لغتين، حيث نقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» مترجمة إلى مقابلها بالانجليزية ثم أرسلت كل ذلك عن طريق البريد الرسمي. وفي النهاية قام المنظمون بنشر صور الدولارات مع توجيه عبارة «الإله» نحو الأرض.


هل كان صدّام يعي غرابة الوضعية؟ هل كان صدّام مخدوعاً بسلطته المطلقة؟ كثيراً ما كنت أشك في ذلك. ففي خلال الاستفتاء الرئاسي للخامس عشر من أكتوبر عام 2002، الذي حصل فيه على مئة بالمئة من التصويت ب«نعم»، وهو الرقم القياسي المطلق في التاريخ، سألت علي عبدالله إن كان الرئيس يُصدّق حقاً صدق هذا التصويت، فقال لي:


- بل إنه يشعر بالعجب والاعتزاز.


كان أعضاء مجلس قيادة الثورة قد أكدوا له بأن التصويت كان تصويتاً حرّاً، فلم يُسجلوا أي تزوير، وكانت النتائج تعكس المشاعر الحقيقية للشعب، وقد كان صدّام يصدق ذلك عن طيب خاطر، بل وكان يفتخر بذلك أمام ضيوفه الأجانب ويصف هذه النتائج ب«المعجزة»!


- لقد كان استفتاءً حرّاً. ولقد استطاعت الصحافة الدولية أن تشهد على ذلك في عين المكان، فقد كانت مكاتب التصويت مفتوحة لها.


غياب الخيار الآخر


في الحقيقة، إذا كان الناس قد أجابوا ب«نعم»، فإن ذلك لم يكن من أجل دعم صدام، ولكن لأننا لم نكن نملك أي خيار آخر، لدرجة أن الناخبين كانوا يفضلون عدم استعمال الغرف العازلة خوفاً من أن يُتَّهموا بالمعارضين للنظام. وقد كان أكثرهم نفاقاً يؤشرون بطريقة مسرحية على خانة «نعم» بقطرات من دمهم الخاص أمام كاميرات التلفزيون.


وحتى أنا نفسي صوّتُ ب«نعم»، لأنني لم أكن أرغب في أن أجلب لنفسي أي مشكلة مع مصالح المخابرات. بل ولقد سألت نفسي إن كانت الغرف المعزولة مزودة بكاميرات؟ وعلى أي حال فإن التصويت ب«لا» لم يكن ليغيّر شيئاً في النتائج النهائية. فقد قال أحد الأصدقاء ونحن نغادر مكاتب التصويت مازحاً:


- ما دام العراقيون يُساندون صدّام مئةً بالمئة فلسنا إذن في حاجة إلى مصالح الأمن.


والواقع أن النظام كان قد فقد كل الدعم الشعبي منذ زمن طويل. وجهاز الأمن كان قد أدرك من كمال الأداء ما جعل أي عصيان أمراً لا يخطر على أي بال. فالانقلاب وحده هو الذي كان قادراً على التخلص من صدّام. أحياناً كنتُ أناقش هذا الموضوع مع علي عبدالله وصديق آخر كنت أثق به كل الثقة. كنت أنتقد كون صدّام لم يكن يثق إلا في أعضاء عشيرته التكريتية، لكن من الغرابة بمكان أن كل المؤامرات كانت دائماً تحاك من قبل التكريتيين.


ففي الثمانينات مثلاً قام ضابط من ضباط الحرس الجمهوري، وهو عضو من عشيرة الجبوري القوية، بتعبئة سلاحه بعيارات حقيقية قبل أحد الاستعراضات العسكرية، بينما في العرف لا تعبّأ بنادق الجنود إلا بالعيارات غير المؤذية. والمحرّض على هذا الانقلاب الفاشل، ويُدعى سطام جبوري، حُكم عليه بالإعدام مع عدد من أعضاء عشيرته المتهمين بالتواطؤ.


وقد استشاط صدّام لذلك غيظاً وغضباً، حتى أنه أمر بطرد كل أعضاء عشيرة الجبوري الذين كانوا يقيمون على الضفة الشرقية لنهر دجلة على مقربة من قصره. ولما كانت العشيرة وفيرة العدد، فقد تراجع صدّام عن قراره في الأخير.


ترى هل كان في الإمكان إصلاح النظام؟ إني لا أعتقد ذلك، ولا أظنني أنفرد بهذا الرأي. فصدام لم يفلح يوماً في إعطاء شعبه القليل من الحرية التي كان في أمس الحاجة إليها. وبينما لم يكن الناس يطمحون إلاّ في أن يحيوا حياة طبيعية فلم يمنحهم النظام سوى الحملات العسكرية والإجراءات القمعية.


ففي ظل صدّام ما فتئنا ننتقل من حرب إلى أخرى من دون أن نستعيد أنفاسنا، لقد كان صدّام مأخوذاً في دوّامة، فقد كان يخشى على نظامه من أن يتعرض للاهتزاز، ولذلك كان يشدّد الخناق بكل ما ملك من قوة. ولذلك كان البديل الوحيد هو إما أن يظل في السلطة حتى الموت وإما أن يأتي من يزحزحه بالقوة. ومن كان يقدر على ذلك غير الأميركيين؟

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/17088-2015-06-07-19-41-35.html

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

642 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع