فنجان قهوة مع حضرة الأب نوئيل فرمان السناطي

   

    فنجان قهوة مع حضرة الأب نوئيل فرمان السناطي
 
    

   

                         إيمان البستاني

                                

ضيفنا يا سادة يا كرام....لو تصفه بصفة واحدة تكون قد ظلمته قطعاً ، هو كاهن لأكثر من كنيسة ، له قلب من نور يخشع للأيمان أينما وجد ، تتشنف أذناه بتجويد الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد ، خصوصا في سورة ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) ، باحث ومؤرخ وكاتب يخرج علينا ببحث عن رابعة العدوية والمتصوفة  في الدين ، منفتح على كل الاديان ويتطلع ان تلتقي على كلمة واحدة هي (الله)..

مترجم ضليع بعدة لغات مبتدئاً من الآرامية لغة السيد المسيح ومتقناً للفرنسية اتقاناً مدهشاً حتى صار راعياً  للكنيسة الفرنسية ، قدّاسهُ وتراتيلهُ وأحاديثهُ منها ، والالمانية والانكليزية ، وللعربية يتجه عشقه فتكاد تلمس بمراسلاته وكتاباته اسلوب جبران خليل جبران ، رقياً وحبكة  ندر ان قرأت مثيله لأحد غيره ، وقد مارس الصحافة زمناً ،فكان أخرها نائب رئيس تحرير مجلة الفكر المسيحي ، عمل في السياحة، مسؤولا للدراسات والاحصاء، مديرا للعلاقات العامة في الحبانية، منظما ومرافقا لمجاميع سياحية وثقافية، داخل العراق وخارجه الى مدن وعواصم عالمية عديدة، عارف للمقام العراقي من الطراز الاول ، فاهم وعالم للمقامات وسلالمها ودرجاتها
حين غنى لنا قصيدة جبران - اغنية فيروز ( اعطني الناي وغني ) اعطيناه الناي ليغني فأبكانا ، يسحرك بحديثه ويسحرك بصمته المزدان بحلاوة ابتسامة لامثيل لحلاوتها حتى اطلق عليه الكنديون لقب (القس ذو الابتسامة الجميلة)
ضيفنا بكل شرف وترحاب هو حضرة الأب نوئيل فرمان السناطي راعٍ لخورنة الكنديين الفرنسيين الكاثوليك وقس لرعية مريم العذراء الكاثوليكية للكلدان والاشوريين ، من مواليد الموصل ١٩٥٢ ، متزوج وله ابنتان وولد

     

الگاردينيا - بكل شرف وتقدير واحترام نرحب بكم حضرة الأب بفقرة فنجان قهوة بمجلة الكاردينيا الثقافية فأهلاً وسهلاً
شكرا جزيلا للاديبة والفنانة التشكيلية إيمان البستاني، لمبادرة الاستضافة، ولا اخفيك أني في البدء تساءلت: ما عساها ان تكتب عني ، لاني "ها الموجود" منفردا في الساحة، في هذه المنطقة النائية، من دون الكثيرين الذين كانوا سيستحقون الكتابة عنهم اكثر مني. فلو قيض لك ان تلتقي من عاصرناهم كلانا، من الراحلين، ويوجد عنهم الكثير من المراجع من أمثال: الاب حبي، الاب فيليب، الاب بطرس حداد، ومن المعاصرين، الأب ألبير أبونا، الاب يوسف توما، وابن قريتي افرام عيسى، لوجدت فيهم الكثير الكثير مما يفتقده حالي.
على ان ما  نحن بصدده، مع هذا الفنجان، يسجل أيضًا لصالحكِ ، فأقولها لك دون التظاهر بالتواضع ، وهو انه لو طلع من كل هذا شيئ يذكر، فأنت التي، يا إيمان، تكونين قد اخرجت شيئا من لا شيء. وهذا ما أتوسمه في ما بحثتِ عنه، حضرتكِ، وما استخرجتِه من اسئلة ذكية. إلى جانب هذا فإن ما يشجع على القول، هو ان في كل امرء مكنونات حباه بها الخالق، فإذا ما تمكن غواص ماهر وعارف، الغور فيها، لاستطاع ان يخرج بالنفائس.
بعد هذا التقديم في الاجابة، ومع الطموح إلى ان في مسيرة العمر، لم يزل المزيد مما ينتظر المرء حتى آخر مطاف العمر عندما يشاء الباري، استسلم لاسئلتك فقد الهمتني الفكرة بأن العودة الى الماضي من عقود العمر، من شأنها أن تدع الكثيرين، يستخرجون من ماضيهم، من محطات نيرة، ما  تجعلهم ممتنين لنعم الخالق وشاكرين.

 

س١ الگاردينيا - من قرية سناط في قضاء زاخو، قرب الحدود العراقية التركية تبدأ الحكاية ، ثم بعمر سنتين انتقلت لمدينة الموصل ، كيف تروي لنا البدايات ، ولماذا كنت تهرب اذا ما بدأت والدتك (رحمها الله) الدندنة بالغناء ؟
لنبدأ بسناط
من هذه القرية، انتبهت مع مرور الزمن ومع الملاحظة البحثية هنا وهناك، في معرض ما دُعيت الى تقديمه عن أصولنا المشرقية لمحافل في المحيط الغربي الذي نحن فيه، انتبهت الى ان هذه القرية تحمل اشارة الى جذورنا النهرينية المشتركة وهي:
نحن ابناء وادي الرافدين، سليلو أولئك الذين سطروا ملحمة كلكامش، التي على ضوئها، وعلى ضوء شواهد تاريخية عديدة أُخـَر، كتب الكتاب الملهمون، صفحات خالدة في الكتاب المقدس، بضمنها سفر نوح وطوفانه، الى جانب سفر يونان (يونس) المرسل الى مدينة من مدننا في بلاد ما بين النهرين، جاء ذكرها في الكتاب المقدس، وهي ، لمفارقة التدبير الرباني، تحمل بالارامية اسم يونان معكوسا حرفيا: نينوي، إذا قرأناها بنحو معاكس، متعاملين مع أحرف العلة الارامية، وجدنا اسم يونان!
وعن سناط باسمها العربي، وسناحت باسمها الكردي وهي (إسنخ) بالارامية، فقد ذكر المؤرخ الاب حنا فييه الدومنيكي، في كتابه اشور المسيحية، ان ثمة قرى في شمال العراق، تحمل اسماؤها في تركيبها، قسما من اسم نوح، نُخ، مثل قرى: اسنُخ، زرنُخ، دشتـتُخ، ابرُخ وسواها. وأبناء هذه القرى كما يحلل ذلك جان فييه، يعربون بهذه الاسماء عن كونهم ابناء لابي البشرية الجديد، شخصية نوح لما بعد الطوفان.
هذه القرية التي غادرتها بصحبة والديّ، بعمر السنتين، كانت حتى في الخمسينيات ولما بعدها، لم تزل تمارس عادات حياتية موغلة في القدم، عادات لم تعد تعاش في المنطقة. وبتعبير آخر، لو كنت بقيت من العمر في القرية، لبضع سنوات أخرى، بدل السنتين، كانت ستعلق بالذاكرة، بدائيات العيش في سناط بفصولها الاربعة، عند ذاك، كان عمري، سيحسب في الذاكرة الجَمعية او الجماعية لبني سناط، بدل الستين عاما، ستمائة عام والف عام واكثر.
لماذا؟
نعم لاني عرفت الذين عاشوا فيها اكثر مني، فرأيتهم يحملون تاريخًا يرتقي الى الف عام وعام، فتلك السنوات لقرية بلا شبكة مياه ولا مجاري ولا كهرباء ولا طرق للسيارات، وظلت كذلك حتى ترحيلها في مطلع السبعينات. وجاءت تباعا، بعض الوسائل الحديثة، الكرامافون اليدوي البدائي (القوانة)، وعندما جاءهم الراديو، كان البعض في البدء، اذا احب اغنية، قال للمشغل: ارجوك ان تعيد هذه "القوانة"، ثم وصلت انواع متطورة من الفوانيس بدل السراج الزيتي، وعرفوا مصباح اللوكس الذي كان من امتياز المختار أو نفرا آخر من الوجهاء، بحيث عندما كانوا يذهبون الى ذويهم في الموصل، لزيارة، كانوا قبل النوم يهمون بنفخ المصباح الكهربائي لاطفائه.
 كانت سناط إذن تنتمي الى ذلك العالم المتفاعل مع أقدم التاريخ والميثولوجيا، والصناعة اليدوية البدائية وما ورثوه من الميثولوجيا: ذبح القرابين كفارة، التهيب والورع لحد الهلع أحيانا من القمر الجديد، والاستنجاد بشفاعته، التعوذ من اصوات الغراب، والتعزيم عند العجوز الخالة كهاره، لازالة رعشة الخوف من أمر او حيوان مفاجئ...
سمعت ذلك، عن أبي وشيوخ القرية، فلا اتذكر بالطبع شيئا من تلك السنتين عن تفاصيل العيش ومن ثم انقطع عن مخيلتي، ما كان عند اقاربي من خيط التواصل مع تلك البداءة الطبيعية التي بقيت افتقدها. ذلك أننا كنا كل صيف، ومنذ سن السادسة من العمر، أو بين صيف وآخر، نذهب الى تلك القرية كالسياح، في موسم الاصطياف وحسب.
لا بد ان في ذلك عناية ربانية، فان جسمي النحيل آنذاك لعله، لم يكن له أن يقاوم البقاء، في قرية ذات معدل مرتفع من وفيات الاطفال. فقد حصلت حتى من تلك السنتين الاثنتين، على أماكن من جسدي، من مواضع الكي بالأدوات الحارة، ومن خطوط تشريح الطب الشعبي، ما جعل من الجسد خارطة تحمل اكثر من نهر جف من الدم الفاسد، كما كانوا يعتقدون. وحتى من زمن الاصطياف العائلي في سن السادسة (1958)، أحمل من موسم الاصطياف، طرة على منتصف ساقي الايسر، من اثر دمّلة مسمومة خطيرة ، خلصني منها في الموصل، بعملية تكوير جراحية الطبيب الراحل د. عبد الله سرسم، أبو الوزير السابق معن سرسم.
ومن تلك السنتين، جاءتني امي، وجدتي لامي، بذكرى وجدا فيها التفاتة رحمانية وهي:
عندما كنت على السطح يوما برعاية الجدة. كنت على مقربة منها، وأنا أدفع حجلة اطفال خشبية، بينما كانت الجدة تهز مشك الحليب لتخرج منه الزبد (المشك وعاء من جلد كامل لخروف من الماعز يحرك كالمرجوحة والحليب في داخله). خلال ذلك الانشغال، غفلت عني توتو (الجدة) مريم للحظات عندما انطلقت بالحجلة على ذلك السطح غير المسيج... لأصل قرب حافة السطح حيث ارتطمت العجلة الخشبية الصغيرة لتلك الحجلة بحصوة سائبة... فتوقفت وانا اتلفت الى جدتي كمن يطلب منها المساعدة لرفع الحصوة فأمضي في طريقي الى الهاوية... خطر لأمي أن تحكي لي تلك الذكرى، وانا في الرابعة عشرة من عمري، عندما وجدتني وقد خرجت من موقف صعب وجدت الخروج منه بمثابة المعجزة.
واحتفظ من تلك القرية، برائحة ذكية بقيت تلازم أنفي، من جدول بساتين سناط الممتدة الى الينبوع الرئيس(نابوعا)، تنبعث من اختلاط التربة والحصو واوراق الاشجار وعروقها المغمورة في الماء. ولم اجد حتى اليوم مثيلا لنكهة ذلك العبير، مهما مررت بجدول من جداول الدنيا.
هذا شيء عن البداية، اما عن السؤال بشأن الهروب أمام دندنة الوالدة في الغناء، فهذا يحيلني الى مقابلة صحافية كنت أجريتها مع النحات الراحل محمد غني حكمت، الذي كان في التسعينيات قد نحت مراحل درب الصليب لكنيسة الصعود في بغداد. أذكر قوله: جذورنا نحن العراقيين، معجونة بالحزن ودموع الافتقاد. فأجدادنا ، كانوا يبكون على الاله دموز، ليأتي ابناؤهم، فيتميزون عن شعوب الارض بغناء يحاكي هديل الحمام والنوح الحزين، وهكذا قد نجدهم يبحثون في أي من مذاهبهم، عن سبب لحزن موسمي وبكاء قد يكون بين العلاج وبين الحاجة الى شحذ الذاكرة فلا تنسى .
بعد وفاة شقيقي الرضيع عارف عن عمر سنة ونيف، كان غناء امي، في كل مرة، كسمفونية حزينة تطرقها لاستدرار الدموع إذا جفت لحين. فحسبت يوم ذاك الغناء، كغذاء مقبّل للبكاء. وبقي ذلك انطباعي الطفولي، حتى اكتشفت ان الغناء لا يقتصر على أنغام حزينة من تفرعات الحجاز والسيكاه والعريبوني. جاء الاكتشاف عندما أخذنا في الدراسة المتوسطة للسمنير (المعهد الاكليريكي الكهنوتي) نتعلم المقامات للتعامل بها مع التراتيل الكنسية والطقوس المنغمة للقداس. فوجدت المفرحة منها، من تفرعات الراست، النوى – النهاوند، الصبا والبيات وسواها.
على ان الغناء الحزين، كان ايضا عند الأم بمثابة، اجازة راحة بين عمل شاق وآخر أشق منه؛ كما كان ، في عرفها، كما فهمته على مر السنين أشارة كي تحنن بها، المحيط القاسي المتجبر، وسعيا منها لتلين ما تعاملت معه في عمرها مع عناصر كانت من حجر اكثر من كونها من بشر.

    
   
                   مدرسة شمعون الصفا 1962-1964  
س٢ الگاردينيا - من مدرسة شمعون الصفا بمدينة الموصل بدأت مشوار العلم ، هل تذكر تلك الايام وما حكاية الاستاذ اسحق عيسكو الاستاذ الباحث والكاتب في مجلة التراث الشعبي وكتابات جبران خليل جبران ؟
درست في المدرسة التوماوية للاحداث، التي كان يسمح للذكور فيها، ان يكونوا في المحيط المختلط حتى الصف الرابع الابتدائي. فكانت المدرسة الذكورية القريبة، مدرسة شمعون الصفا. واذا بوالدي يأخذني وانا في سن العاشرة، الى بيت مدير المدرسة، في نهاية العطلة، بدون موعد او معرفة مسبقة، ونحن كنا في مطلع ستينيات الموصل ومخاوفها. فأتذكر مما لحظته من شباكهم، علامات الانذار البادية على تلفتات اهل الدار وعيونهم، وتحسبهم عمن يكون هذا الغريب. وسرعان ما اطمأنوا، فجاءنا الاستاذ عيسكو، وقدم لنا وريقة قبول بخطه الجميل وبتوقيعه.
بعد أن اخذني أبي الى بيته، لاخذ ورقة بنقلي، يبدو انه من تلك الساعة، تفهم حرص الوالد تجاهي، وتلقاني كأب روحي، سيما وأني في كل صباح، ولصغري ولقصر القامة، كنت اقف الاول في طابور الصف الخامس، ليربت على ذراعي بأبوة وهو يرتب نسق الاصطفاف.
علمني، المدير، فيما علمني، درسا انسانيا لست أنساه، عندما تلقيت يوما خلال الفرصة الترفيهية، ضربة قوية من احد الطلاب، فقصدت الى الادارة، كمن يحتمي بشيخ العشيرة متعشما في فصل او عطوة... وإذا به بابتسامة يقول لي: انا اريد منك ان تسامحه، وان شاء الله لن يعيدها ثانية. هذا الدرس قابله درس آخر في البيت.
ففي درس الدين، كان معلمنا الشماس القادم من كنيسة مسكنتة (المطران حاليا، رئيس تحرير مجلة نجم المشرق). شرح لنا الشماس جاك اسحق  يوما سيرة آلام يسوع المسيح، والجلد، واكليل الشوك على الرأس، وأنه بعد الجلد البسوه الارجوان على جسمه الممزق، وفي كل حركة من الارجوان، لا بد وانه كان يتألم شديد الالم. فعدت الى البيت فرأيتها فرصة أن اشكو بغضب وحنق الى أمي من عذبوا المسيح، فقالت: ولكن يا بني المسيح ذاته غفر لهم، بقوله: يا أبت اغفر لهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.
في تلك المدرسة، كان مديرنا الاستاذ اسحق عيسكو، يخط على سبورة الساحة، حكمة اليوم مذيلة باسم مرسلها من الطلاب. في أحد الصباحات، وجدت اسمي مخطوطا، على لوحة حكمة اليوم، وقد عشت ذلك الحبور الطفولي، بما يشبه أول مقال لصحفي ناشيء! كما كان الشأن مع مقال (الانسان ذلك الكائن العجيب في مجلة الفكر المسحي 1971) ومقالا عن الفنان الفرنسي (فيليب نواريه – مجلة ألف باء شباط 1984)... وزاد المدير، رحمه الله، بأن اشاد بالحكمة وبمن اختارها. والحال كانت قد وقعت عيني على تلك الجملة، ضمن أمثلة كتاب القواعد العربية، على ما أذكر، ولعلها رافقت فيما بعد تطلعاتي الحياتية بأن يحقق شخص بصغري، شيئا ما معتبرا في مجتمع كان يراه يعج بالعمالقة، تلك الحكمة كانت: (الدارس يغلب الفارس).

ومن تلك الايام اذكر اني في الشتاء القارس كنت في الصف السادس أذهب مشيا في الغبش، من بيتنا بسوق الشعارين الذي تحولنا اليه في السنة التالية،  وعبورا بشارع الفاروق، الى قبيل محلة المياسة، وأنا أنظر الى الماء المتجمد في ساقية الزقاق، فخورا بالكفوف الشتائية المنسوجة بأنامل الام، وبما تدثرت به من ملابس دافئة.

                                
 
                            الاب البير ابونا

أما التواصل مع مدير الابتدائية، عبر السنين اللاحقة، فيعود الى كونه صديق مدرسنا في السمنير، المؤرخ وخبير الادب السرياني، الاب البير ابونا، وكنت في الرابعة عشرة عندما تلقيت منه، معايدة مقتضبة في عيد الميلاد، فأجبتها بأخرى ملأت جانبيها بالكتابة، وكانت منطلقا لمراسلة ادبية  بنوية أبوية بيننا  دامت أكثر من عشر سنوات، وما انقطعت سوى بظروف الجندية والحرب وتغير العنوان. ومع ان تلميذ المدرسة الكهنوتية، مهما كان صغير العمر، يتحول في نظر مديره الى مرتبة تكريمية رفيعة في نظر المجتمع ومنهم الاستاذ عيسكو، إلى أني بقيت منبهرا، بأن هذا الكاتب في مجلة التراث الشعبي، ومحقق الكتب العديدة، ومترجم كتاب: المجوسي الرابع، كيف كان يصرف من وقته الثمين ليكتب لي. الشكر لله الذي وضعه في طريقي، فتحسن خطي وحسن لغتي العربية إذ كان في ذيل الرسالة ينبهني الى عدد من الملاحظات اللغوية والانشائية، وهو الذي عرفني على شعراء مثل إيليا بي ماضي، إذ أورد لي بيوتا من قصيدة له، محفورة في الذاكرة:
إن ىشر الجناة في الارض نفس، تتوقى قبل الرحيل الرحيلا،
وترى الشوك على الورود فتعمى أن ترى فوقها الندى اكليلا
هو عبء على الحياة ثقيل، من يظن الحياة عبءًا ثقيلا،
والذي نفسه بغير جمال، لا يرى في الحياة شيئا جميلا،
فتمتع بالصبح ما دمت فيه، لا تخف أن يزول حتى يزولا
وفي يوم آخر بعد ان كتبت له معتذرا عن التأخير، بسبب الانشغال، اجابني، كما اذكر:
حسنا انك كنت منشغلا، فقد قال، جبران خليل جبران، مع أني لا أوافق قوله بكل حذافيره، لكنه تشبيه للاشادة بالعمل، قال: الايدي التي تصنع الشوك خير من الايدي العاطلة. وأردف: بالمناسبة ما رأيك بجبران. فكتبت له بتسرع على خلفية انطباعات متزمتة تلقيتها عن جبران وعن فكره: سمعت انه ملحد، ليجيبني بشدة: من اين لك هذا الكلام، هل قرأت لجبران، هل قرأت كتابه النبي، إقرأ له، بعدئذ تحكم عليه، فكان ذلك بداية مشواري مع هذا الكاتب العظيم.

                                                                               السمنير السنة اللأولى 1965
 صورة للجنسية العراقية في ستوديو النيل بشارع حلب

المصور الذي انتهى به الحال ان يكون مصوراً شمسيا هامشيا

س ٣ الگاردينيا - ثم انتقلت لمدرسة السمنير برعاية الأباء الدومنيكان الفرنسيين في الموصل محلة الساعة، هل تحكي لنا عن نظام تلك المدرسة ودروسها وهيئة التدريس واجوائها الأيمانية ؟
منذ الجيرة مع الكنيسة، والتتلمذ على يد خوري كنيستنا (مار يوسف) القس توما حنونا في تعلم اللغة الارامية، والتعامل معها طقسيا، كنت أعجب بالاكلريكيين الذين كانوا يأتون الى العطلة الصيفية، وكان احدهم يمضي الصيف مع اسرته الساكنة معنا في نفس الحوش، بقرب محلة الخزرج، وكانت حصته في الضرب من أخيه الاكبر عنتر الدار، أندر من حصص سائر إخوته. في تلك الغضون، ارتسم الاب جميل نيسان كاهنا، وهو ابن عم والدي، مما عد حدثا كبير للاسرة وابناء القرية وابناء الحي. وما انفك ابي يتحدث عنه بالاطراء والافتخار.

   
 
المطران عمانوئيل ددي متوسطا ثلة من الاساقفة الكهنة والتلاميذ في مطلع السبعينيات
باختصار، وجدت شيئا يميز هؤلاء التلاميذ، بهندامهم الخاص وباطلالتهم، عن سواد صبيان المحلة. فطلبت ان انضم الى السمنير، راغبا في عشرة أولئك التلاميذ وهدفهم الكهنوتي، وليس بالضرورة تحاشيا لسورات غضب الوالد وعقوباته؛ وبقي رافضا الطلب، حتى زارنا المطران عمانوئيل ددي، رئيس اساقفة الموصل مع الخوري توما حنونا. فطلبني منه، وازاء تحفظه بسبب كوني الابن البكر، وليس له غيري سوى ابنًا اخر، فاقنعه بمثال قربان ابينا ابراهيم لابنه الوحيد، وقد اصبح فيما بعد ابا لشعوب المؤمنين.
في السمنير كانت الحياة داخلية، ولا نزور الاهل الا بعد كل من العيدين وفي الصيف. منذ السنة الاولى كانت الدراسة مركزة على تعلم الفرنسية، التي بها درسنا فيما بعد الفلسفة واللاهوت وعلم النفس وسائر علوم المنهج، وكنا نلتزم بالتحدث بها في ايام الاسبوع عدا عطلة نهاية الاسبوع. وفي العطلة الصيفية، غالبا ما كانت تفلت من لساننا تعليقات بالفرنسية، سواءًا سهوًا، او تبجحا...
كان النظام شبه عسكري: النهوض في الخامسة والنصف صباحا، غسل الرأس كاملا بالصابون وبماء الحنفية، صيفا وشتاءًا... كانت صلاة الصبح تنطلق بأصوات سماوية شبابية منسقة منسجمة تأخذ باللباب. ولكن كانت تلي صلاة الصبح، نصف ساعة تأمل فردي للكبار، أما تلاميذ السنتين الاوليين، فكان ذلك بإرشاد أحد الكبار، اتذكر تلك السويعة الصباحية بما كانت تتسم من هدوء الاصغاء ولكن ايضا مع صعوبة مقاومة النعاس. وكان على مر السنوات يتغربل التلاميذ، ممن لم تكن الادارة تتوسم فيهم الاستعداد للكهنوت او انهم يعزفون عنه وعن الحياة شبه الديرية.
وفر لنا السمنير، مجال التفاعل الواعي مع الايمان، والاطلاع على الفكر الفلسفي القديم والحديث والايديولوجيات المعاصرة. لم نكن نتخذ الاتجاه الايماني كتحصيل حاصل، بل كان يخضع للتمحيص العقلي والفكري، والاطلاع على تجارب مهتدين كبار، كانوا في السابق غير مؤمنين، او ملحدين، ثم اكتشفوا الايمان بالله، منهم جاك لوف البلجيكي، شارل دي فوكو الفرنسي، والثنائي جاك وزوجته رايسا ماريتان. كما اطلعنا على خبرة الثائر المتصوف والشهيد حسن بن منصور الحلاج. وتعرفنا على سير شخصيات اتسمت بموهبة كاريسما فطبعت ذاكرة العصر، مثل غاندي، وباسكال، وشارل بيكي، وبول كلوديل.
كانت بناية السمنير، مترامية الاطراف، فصالة تحضير الدروس، كانت مطلة على جانب شرقي يجعلنا نسمع من الجامع القريب، انغام التراويح، وفي الجانب الغربي، قاعات اخرى للدراسة، حيث كنا نسمع عبر شباك الجيران، تجويد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ولم يكن نادرا، ان صديقي بهنام نيسان (دكتور وخبير آشوريات في فرنسا) كان صوته في الفرصة، يصدح بقطعة من تجويداته.
وعندما وصلنا الى مرحلة الفلسفة واللاهوتي، كان المعهد يستقدم لنا، كبار الاساتذة، لمحاضرات فصلية، او دراسات بعيدة المدى منهم: الأب جورج شحاتة قنواتي (1905- 1993) دكتوراه فلسفة ودكتوراه لاهوت في تخصص في الدرسات الاستشراقية، وكان مؤسسا ومدير لمعهد الدراسات الاستشراقية في القاهرة. وكان ينشئنا على خطاب الحوار المسيحي الاسلامي، منطلقا من التأكيد: وإلهنا وإلهكم واحد. كما حاضر لنا من فرنسا عالم الاسلاميات الاب جاك جوميير (توفي في 8 كانون الاول 2008) فبهرنا بعلمه وتبحره في هذا المضمار.
وقد حاضر لنا ايضا في بعض المناسبات، الاستاذ الاكاديمي د. عمر الطالب.

             
     
س ٤ الگاردينيا - في السمنير ١٩٧١ عندما كُلفت لغناء اغنية كردية عن الراعي الطيب، اهداءً لعيد ميلاد رئيس السمنير للمعهد الكهنوتي ، هل تذكرها ؟ هل كانت تلك  بدايات الغناء والتراتيل؟
استذكر معظم كلمات الاغنية، ولكني اتصلت بكاتبها المستقر في فرنسا، الزميل نمرود كوسو، ويظهر في الصورة عازفا للعود، فأجابني أنه نسيها كليا، وعندما قرأتها له كان الموضوع مؤثرا لكلينا، فأرسلتها له، لمراجعة الترجمة، وفي هذه المناسبة، اعلمني بوفاة عازف الكمان الاستاذ بنيامين مطلوب الذي جاء المدرسة مساهما في العزف، أما الاخرون فكلهم من تلاميذ السمنير، والان يشقون طريقهم في خدمة المجتمع والكنيسة، كشمامسة ومسهمين في المجال الاجتماعي والثقافي.
كلمات اغنية الراعي الكردية
وره وره آي شيفانو، وره وره دليه جوانو (هلم هلم يا الراعي، هلم هلم يا ذا القلب الجميل)
ولات بردا بخمو وخيالا، ورا لدفما لرخي راما  (تركت الوطن بهم وحزن، تعال الى عندي قرب البيت)
ولات بردا، ولات بردا  (تركت الوطن، تركت الوطن)
كلي لاوا لاوي دكوندي، ايفارا لمي بي دركني (ايها الشباب، شباب القرية، النهار مغرب، وقد تأخرت)
وأز خودانيم برفي بازي وأز شيفانم برفي بازي (ها انا خادم لهؤلاء الخراف، وانا راعي لهذه الخراف)
بزي بكرا بزي بكرا (ارع الخراف، ارع الخراف)
شيفان نينا كاري من بي، بلي شخاطري جافي وا بي (الرعي ليس من كاري، ولكن لخاطر عيونكم)
واز خودانم برفي بازي واز شيفانم برفي بازي (فأنا خادم لهذه الخراف، وانا راعي لهذه الخراف)
بزي بكرا بزي بكرا (ارع الخراف، ارع الخراف)

                                      
 
                              الفنان شيفان

كانت تلك المناسبة تعد تطورا منفتحا في الحياة الاكليريكية، بمشاركة زوار خارجيين في مناسبة المدرسة، بضمنهم الاستاذ الراحل بنيامين، والفنان الكردي المعروف سمير الزاخولي، وكان في انطلاق تألقه. والاغنية مأخوذة وبنغمات مستوحاة من اغنية للفنان شيفان، فنان الاغنية الوطنية الثورية الكوردية.
ترتقي الصورة بشأن هذه الاغنية الى حوالي عام 1971. وكان ذلك بالفعل اول التفاتة لإسناد هذه المهمة لي. على ان تنسيب القراءات والصلوات المرتلة ضمن قائمة المرتلين، فكانت منذ السنة المتوسطة الثانية في المدرسة الكهنوتية، بمعزل عن موهبتهم الخاصة، وكان ذلك منذ السنة المتوسطة الثانية، اي منذ 1965. فكان الامر شبه طبيعي للجميع.
على اني في العطلة الصيفية، توفرت لي فرص الاداء المنفرد، وخصوصا في خدمة قداس المرتل الموصلي الشهير المونسنيور أفرام رسام. وبقيت في داخلي اترقب الحكم الحقيقي الذي بقي صامتا، وهو والدي، الذي كان معروفا في القرية في الغناء الكردي. وكنت اتساءل لماذا لم يلتفت الى ذلك؛ ومع الوقت عرفت انه لكيما يشيد بشيء عليه ان يتفاعل مع مضمونه، فكيف به اذا لم يكن متدينا، ولا مرتادا للكنيسة الا في المناسبات. وسرني انه في وقت متأخر لاحقا، حضر ترتيلا لي، فلاحظ لي كمن يؤيد أدائي كتحصيل حاصل، أني بدأت الترتيلة الفلانية، يابسة، وشرح ذلك بأنها جاءت بطبقة عالية لا تسمح بالتطوير والتلوين. كما كنت اتابع تعليقه على قراءة انجيل لهذا الكاهن او ذاك، أو  أداء شمامسة في القرية على من كان افضل المرتلين لترتيلة شعبية.

وفي التعليق على قراءة انجيل او ترتيلة معروفة، لم يكن هذا يلزمه بأن يظهر بمظهر المتدين المتأثر بمضمون هذه الصلاة المرتلة أو تلك؛ ذلك أنه كان بالاحرى يتأثر بالأغاني الكردية في مجال الوجد الغزل او في مجال البطولات الدون كيخوتية. كما كنت افيد من تعليقات الوالد على هذا المغني أو ذاك، مبينا اذا كان يمتلك او يفتقد، ما يصفه بالكردي والسورت (السليقة الجيدة)، أي من له طور محدد في الغناء ويتبعه بمنهجية مع ابداع في التصرف والتنويع.
الوالدة من جانبها، ومن شدة ما كنت استمع اليها بعد ان دخلت المدرسة الكهنوتية، كانت تضفي على الترتيلة صوتا جبليا.  بحيث تدريجيا، حوّل كلانا، ترتيلة ما تتميز بايقاع تحركه نغمة البيات الى ترتيلة من نوع الميلودي المتأثر بالموالات الحجازية. كما الحال في ترتيلة تعليميه (بشما دبابا) تمتد الى عشرات البيوت الشعرية، وترتبط آخر قافية البيت الشعري، بمطلع البيت اللاحق.
لدى زيارتنا للقرى كتلاميذ اكليريكيين كانت الترتيلة تأخذ منحى شعبيا مع الناس، عندما يلامسهم صوت من يرتلها، مهما كان مضمونها: فأتذكر صبية كانوا يرددون بانتشاء، ترتيلة تتضمن التحذير من الدينونة الاخير، وتتحدث عن نهاية العمر والموت والكفن وعزلة القبر، وكأنهم يدندنون لدبكة شعبية....
وبشأن التفاعل ما بين الترتيلة والغناء الشعبي، بات من المعروف ان الكثير من الغناء الشعبي بين تركيا وايران وشمال العراق، هو متلاقح مع الترتيل الكنسي والمزامير. على ان ذلك محفوف بخشية المرتل ان يتلقى بعد القداس التعليقات الساخرة، بأنه كان يرتل على طريقة غناء محمد عارف جزراوي أو عيسى برواري.
                                  

            يقتنص اللقطات بكاميرته كما في صورة بائعة الخبز - المزة سوريا ٢٠٠٥
س ٥ الگاردينيا - أمتهنت السياحة وعشق التصوير وبعدها بدأت مشوار الصحافة قبل اتخاذ قرار بالدخول في عالم الكهنوت ، كيف تروي لنا تلك التجارب وكيف انتهت بتحولك الى قس ؟
هذا السؤال بشقيه عن الصحافة والكهنوت، ساحدثك عن الاول ثم سأتناول الشق الثاني، وهذا السؤال هو واحد من اعذب الاسئلة على قلبي، فهو أثار عندي الحنين، حنين الطفل الى قريته، لذا رأيت ان اجيب عنه في مسك الختام! أجل إنها قرية أكاد اسميها قرية الروح، احتضنتني عندما بادرت بالسعي إليها، بمحبة وشوق ومثابرة، وكان الامر في البدء على رؤوس الاصابع، لتصبح انتمائي الثاني بعد القرية الام.


     

طرقت باب الف باء وهي كما أذكر في حوش بالاعظمية في عام 1984. تقدمت بوجل الى نائب رئيس التحرير، رشيد الرماحي، في الطابق الارضي، وعرضت استعدادي للترجمة عن الفرنسية وعن المامي ببعض اللغات، فأرسلني صعودا الى سمير علي، رئيس القسم، وهاتفه على مسمع مني وهو يحولني بقفشة بادية اذ قال له، ارسل لك شخصا يتكلم اللغات حتى اليابانية، وكأنه بذلك، يستجيب لحاجة سابقة الى مترجمين. قال لي سمير، يذكره الله بخير حيث ما كان، وهو يرمقني من علياء قامته جالسا، وبوقار محبب: خذ هذه المجلة، واختر منها ما تترجم، بدون ان يحدد لي شيئا. فذهبت كمن يعد اطروحة، لأترجم مقابلة مع زوجة ليش فاليسا المعارض البولوني، وآخر عن مصمم ازياء، وبعد اسبوع عدت: وبدون ان يرى ما ترجمت، قلب الصفحات وقال: هذا فيليب نواريه، كيف لم تترجم له؟ قلت سأفعل ذلك، فخرجت ومعي المصدر  وانكببت على المقال فترجمته في حوالي الساعة، وعدت به بتاكسي من ساحة الجندي المجهول حتى المجلة. ووضعته على طاولة سمير. ورجعت في حال سبيلي، ومع الايام نسيت الموضوع، حتى وجدته بعد بضع أسابيع، منشورا بالالوان. فاتصلت بوالدي مهنئا على اسمه الذي طبع ربع مليون مرة.
وتوالت بضع مقالات... ألبير كامو بلا رتوش، مارشيلو ماستروياني...حتى دعاني سمير علي يوما، وقال نحن نريدك اكثر من مترجم، بل تكتب مقالات صحافية، لغتك فيها ثراء معجون بلغات أخرى. قلت ماذا اكتب؟ قل اكتب ما شئت، فكتبت اول مقال موقع لي في ألف باء،  وفاء للمدينة التي طوقتني أزقتها المتحلزنة مذ تربيت فيها مع السنتين من العمر، شربت من مائها وتنسمت هواء ربيعيها، مدينة الموصل، وجاء المقال بعنوان: ساعة الاباء تعانق مآذن الحدباء. وتوالت مع السنوات، مقالات تجمع بين الطابعين الرومانسي والاجتماعي الانثروبولوجي: كراجات العلاوي والكرخ- ليل مسافر وأرصفة لا تنام. رحلة الى حي المربعة. رؤيا من فوق بغداد. إلى جانب أعمدة في صفحة للناس حكايات.
  كمحرر خارجي كنت أعمل بألفة مع الذين على الملاك، للصفحات الثقافية والفنية والتحقيقات عن البلدان وتقاليد الشعوب. وهي مجالات تجتذب الذائقة العامة ولا تدعي اصطفافا سياسيا. وما يعجبني ان العاملين في ألف باء، ومن توالى على رئاسة تحريرها، ممن عرفتهم على مدى عقد ونيف: كامل الشرقي، أمير الحلو، كانوا في هذا الاتجاه، يلتقون على المهنية الاعلامية والمناقبية الصحافية، ضمن الحدود المرسومة لهم، وهي متنوعة وممتدة الى آفاق تحرك واسع.
على ان كل هذا لم يخل من شؤون وشجون، كانت العناية الربانية تخرجنا منها كالشعرة من العجين. فكتبت مرة عن الممثلة سيغورني ويفر، فاستحسن المصمم الموضوع، ليفرش وجه الفنانة وشعرها على افق الصفحتين الملونتين، فجاء التنبيه: لا يمكن ان تنشر على صفحات المجلة صورة تأتي أكبر من صورة رئيس الجمهورية. وعن بول- لو سوليتزر، الذي أفرد له المصمم صفحات بالالوان والاسود والابيض مع صور متنوعة، وقع عنصر من عناصر امن الاعلام، على صورة لسوليتزر، عندما كان عاملا لبيع قمصان الـ (تي شرت) في أحد المحلات، فقامت تلك السيدة بالتركيز (المسؤول) على الصورة، لتستخرج منها قميص تي شيرت مطبوعة عليه عبارة تتضمن دعوة الى الحب وليس الحرب، بعد ان ترجمت في التقرير الترجمة الحرفية لفكرة الدعوة الى الحب.

                        
 
                            إيزابيل ياسمين ادجاني

وكان موضوع عن حيازة النجمة ادجاني على جائزة السيزار، رأيت التغني بأصولها الجزائرية واسمها الاصلي في مسقط رأسها الجزائر واسم ابنها العربي ليأتي عنوان المقال:إيزابيل ياسمين ادجاني ام سعيد الحائزة على السيزار. فانتفض كاتب في جريدة الشعب الجزائرية، ليعترض على المقال، عندما وقع على عدد المجلة في الجزائر، معبرا انه غير مفتخر بأصول ادجاني الجزائرية، فأصبح الموضوع مادة لتقرير مراسل وكالة الانباء العراقية.
وعلى العموم فإن تلك العشر سنوات ونيف، فتحت أمامي في زمن الحرب والحصار، نافذة على ما يحدث في العالم، وجعلتني بتماس مع شؤون الاسرة الثقافية في العالم، الاسرة التي لا تفصلها حدود ولا مشاكل سياسية، وتتداول سفارات الكلمة فيما بينها عبر العالم بلا جواز سفر. فكانت الكتابة عن الفيلسوف مارتن هايديغر، وادباء امريكا اللاتينية بعد نوبل ماركيز، وبول لو سوليتزر رجل الاعمال الذي اصبح روائيا، وفرانسوا رو رائد الباراسايكولوجي، كما قدمت الوجه الاخر لعدد واسع من نجوم الفن: تحقيق عن نهاية داليدا المأساوية، بعد نجاحات باهرة، وأخر عن ذكرى اديث بياف، التي قرنتها على المستوى الفرنسي بكوكب الشرق، لتكون فرصة للحديث عن طفولتها، وشفائها من العمى، بزيارة قبر، راهبة اصبحت، كما ذكرت شهيرة في الوسط السينمائي، بعد فوز فلم عن حياتها بجائزة لجنة التحكيم: تريز، من إخراج الن كافالييه وبطولة كاترين موشيه. في هذا سعيت ان ابين الحضور المسيحي الشفاف، على صفحات المجلة.
وكما القرية بذكرياتها المحفورة، تركت عندي الصحافة هذه قرية الروح، محطات بارزة في الذاكرة


                  
    داود الفرحان                  البطريرك الراحل مار روفائيل بيداويد                                                      
من تلك المحطات يوم انتخب الاساقفة الكلدان في بغداد، البطريرك الراحل مار روفائيل بيداويد، سعيت ان ابرز هذا الحدث لما لذلك البطريرك من اثر في العراق وفي لبنان حيث كان مطرانا لسنوات عديدة، فقيل لي ان أصعد الى وكالة الانباء العراقية، وكان مديرها بالوكالة، الكاتب داود الفرحان، فقلت له لدي خبر مهم، وهو انتخاب المطران روفائيل بيداويد بطريركا على الكلدان. وبتلقائية طيبة قال لي: معلوماتي رجيجة (ركيكة) عن الصفة هذه، ماذا تعني؟ قلت له: البطريرك هو كبير اساقفة الكلدان في العراق والعالم، فنشر الخبر، وكان عنوانا لمقابلة مع البطريرك بيداويد،واظنها تلك اول مرة يطلق فيها لقب بطريرك الكلدان في العراق والعالم، بعد أن كان يكتفى بالقول: بطريرك بابل على الكلدان.
          


                               جميل حمودي

وفي محطة أخرى تعرفي بصداقة متواصلة مع الفنان التشكيلي (الراحل) جميل حمودي، بواسطة صديقي هاوي اللوحات النادرة، عنان جميل، فكان المكان ملتقى الوسط الفني والثقافي، وفيها عرضت زميلتي منى سعيد لوحات لابنتها يمام. وفيه عرفت ابنتي سوزان، تلميذة الابتدائية بما كان لها من اهتمام بالرسم، على الاستاذ حمودي الذي كتب لها اهداءًا جميلا؛ ومثله اهداء من الفنان التشكيلي الموصلي صبحي نعامة. وفي هذه السنة في كالكري، عندما بحثت معي سوزان عن اسم لشركتها الهندسية في كالكري، وقع اختيارها على اسم إينانا، من رموز بين النهرين، وهو اسم قاعة الراحل جميل حمودي.

             
 
                               ليلى العطار

وسبق ذلك اني كنت أخذتها ايضا وهي في مطلع الابتدائية، الى قاعة كبيرة للفنون، مديرتها الفنانة الكبيرة ليلى العطار ، ويوم استشهدت، كتبت في دفتر لخواطري: تعال يا سعد. مخاطبا كاتب قصيدة العلم، الصديق سعد البزاز، لتمر الايام، ويأتي سعد معي على مأدبة الاباء الدومنيكان وكنت نائب رئيس تحرير مجلة الفكر المسيحي بإدارتهم ورئاسة الاب د. يوسف توما، فقرأت له تلك الخاطرة، التي استمع اليها بدمعة حبيسة.

                   
 
                                د. علاء بشير

ومحطة أخرى أعتز بها، لقاء مع الفنان التشكيلي وطبيب الكسور، د. علاء بشير، وفي تلك المقابلة، ابرزت تمنياته ان يجد رجال الدين بتواضع يسوع المسيح. ولعل البابا فرنسيس الرائد في التواضع والبساطة، هو بحياته، افضل  اجابة عن تطلعات علاء بشير.
                    
   

حسين على محفوظ وعلي الوردي
هناك اناس يمرون في حياة المرء، كنجم يسطع بلمح بصر، ولكنهم يبقون اثرهم الطيب.
من خلال برنامج قطار العمر عرفت الدكتور والعلامة الراحل حسين على محفوظ. كنا اتابع عموده في مجلة الجمهورية، وأعجبتي صفحات التطويبات التي اوردها عن لسان يسوع المسيح باسلوب بليغ. وكان الامر سيمر بمجرد الاعجاب والمتابعة. ولكن ذات صباح، وكان الاول من السنة، وقعت على الصفحة الاخيرة من الجمهورية وقد نشرت له، ليس عمودًا ولا مقالا، بل مجرد مساحة من الصفحة على شكل تقويم، باعمدته ومربعاته واشهره وأيامه، ويحمل اسم د. حسين على محفوظ، فانبهرت من ذلك، ورأيت فيه اشارة رمزية تبين تقديسه للزمن وكل وقت يمر، وعلى ضوء هذا الانطباع كتبت عمودا شكرته فيه وأشدت بهذه البادرة، وبالمقال عن التطويبات. وعندما سمعت في تلك الايام، ان له محاضرة عن تاريخ مدينة الكاظمية في مجلس الكاظمية، ذهبت للاستماع اليه، مع نسيبي رياض توما جودو. وكانت فرحة نسيبي انه وجد بين الحضور الدكتور علي الوردي، وكان من مريديه المعجبين بتحليلاته الاجتماعية وكان معجبا بمقالاته وحافظا لمقولاته. بعد المحاضرة، تقدمت الى العلامة محفوظ، ومعي هدية هي نسخة من كتاب الانجيل المقدس، كهدية له، وقلت له: أنا فلان، الذي كتب عن موخرا في جريدة الجمهورية، وما رأيت خير إمارة من ابداء مشاعري نحوه سوى أن انحنيت الى يديه ولثمتها، فعانقني وقال: يا اخي لقد ابكيتني. وكان بين الوقوف الدكتور علي الوردي، فسأله احد الواقفين بجانبه: ما رأيك ان تحاضر في موضوع عن الكاظمية، كأن يكون مجتمع الكاظمية. قال كيف اجرؤ على ذلك ربما يتقوم تظاهرة ضدي.
 
                            

د. محمد سليم العوّا
في حوار للاديان عقده مجلس كنائس الشرق الاوسط في لبنان، كان الدكتور محمد سليم العوّا. واقر انه لم يكن عندي الشخص الذي عرفناه فيما بعد: عراب المصالحة العراقية في السعودية، ضيف لاكبر البرامج، وأخيرا منافس على منصب رئيس الجمهورية. حدثنا عن التقارب الاسلامي المسيحي، حوالي الساعة، بكلام ينساب كالنهر، بلغة بليغة من السهل الممتنع، بدون ان تقع عينه على ورقة. اعددت من حديثه ملفا بسبع صفحات لمجلة الفكر المسيحي، بعنوان : تعدد الاديان حكمة إلهية. وقبل النشر، ارسلته كي أتأكد ان كان الموضوع يعكس ما قاله في ساعة. فأجابني عبر الايميل: انه كذلك، واردف، لنا ان نضحي بوقتنا وجهدنا من اجل هذا التقارب.
الاسرة في قرية الروح
لا شك ان الاسرة الصحفية في العراق زاخرة بالأسماء، عندما أذكر باعتزاز أسماء لامعة، ليس على سبيل الحصر، بل لمجرد حظوتي بلقائهم، في هذه المرحلة او تلك مع العلم الصحافي، بارك الله بالاحياء منهم ورحم الراحلين: رسام الكاريكاتير صاحب النكتة والظل الخفيف الراحل خضير عباس المبدع في شخصية أم ستوري،

   
             
       سهيل سامي نادر

وزميله في الرسم مؤيد نعمة، هدوء وصمت، سهيل سامي نادر، ترى ابداعاته على الصفحات في حين تراه هنا وهناك كفي نزهة في قاعة التحرير؛ المرحوم سامي محمد رئيس القسم الثقافي، الذي علمت انه كان يضم لي المصادر العالمية حال ورودها من الدائرة، لأكون من اوائل الذين يختارون مصادرهم منها. حسن العاني، الذي همس لي يوما كيف لم يزل يتحسر على بلدته التي كان تقرر ان تبتلعها المياه، وكان في زمن، مقرر المواد، فكتب يوما في ذيل ربورتاج عن قبيلة أفريقية، بدل عبارة ينشر: رائع رائع...وزاملت مترجمين ضليعين مثل مجيد العبيدي ومنى سعيد عملا كل في مرحلة رئيسا لقسم الترجمة.
كنا نتزاور عائليا، قلت لمجيد يوما: أبو مهند، وجدت تحقيقا اعلانيا عن مطعم والتحقيق مأخوذ عن مقال كتبته عن مرفق سياحي آخر، بتغيير التسميات، واردفت: قلت في نفسي لا ضير، خصوصا واني استحسنت المقدمة التي جاء فيها: منذ ألقى الانسان القديم قطعة لحم في النار بطرا، وداعبت انفه رائحة الشواء، منذئذ كانت خبرة الانسان عن الطعام... قال لي مجيد ضاحكا: هذه المقدمة انا الذي كتبتها لها...

                                 
                          
                          الروائي عادل كامل

وكان يلقاني دائما بالابتسامة العريضة، الروائي عادل كامل. وكذلك الكاتب الرياضي غازي شائع. ولم ازل على تواصل بالفيسبوك مع الزميلة نرمين المفتي، التي هابت بي في تعليق: ارجو يا نويل ان تكون ذاك محب العراق. واستذكر باعتزاز الاخت العزيزة عذارء السامرائي، التي قالت لي بفخر: سميت ابنتي مريم... حيث تنسب يوما ان نكون فريق عمل في التحرير الصحفي. وكنت الصدى في الف باء الى الجمهورية لمن كنا بتحبب نسمي بعضنا البعض ابن العم وابنة العم، مريم السناطي التي طالما تأتيني منها ومن زوجها اجمل العبارات.
وتعشـّق عملي الاداري كصحافي، ومدير ايضا في العلاقات العامة بالمدينة السياحية في الحبانية. هناك كنت التقي فيمن التقيت من الكثيرين، برائدنا في الصحافة ووكالة الانباء، أبو علاء، الاستاذ محسن حسين، وزوجته نوال الوائلي، فأصدى للتجربة بأن نتعامل مع صندوق الشكاوى على الهواء،ونعطي على الهواء من محطة فيديو الحبانية، اجوبة الاقسام المختصة بموضوع الشكوى او المقترح.
لقد أخترت ان اعيش ايمانيا حياة مدنية، كعلماني اي بدون حمل رتبة دينية، وبحياة تتفاعل مع قيم المجتمع وتروحنه، تعطيه بعده الروحي. فكانت فرصة العمل في السياحة، بواسطة تدخل المهندس المعماري نزار النقيب التي تيسر التعرف عليه والعمل في مكتبه، لعلاقته مع معاون مدير مصلحة المصايف والسياحة السيد شوان جمال بابان. وجذبتني السياحة في العراق، لكونها تتعامل مع الاثار والجوانب التاريخية بروابطها مع الميثولوجيا  ثم مع الحالات الدينية.

   
 
                              ساطع الحصري

فبدأت في قسم العلاقات العامة ومديرته، السيدة سلوى ساطع الحصري. وقد جمعتني بها علاقة اخوية وزيارات عائلية، مع الافتخار بكونها ابنة هذا الرائد الذي يصل المرء بمطلع القرن العشرين، والتعامل مع من تعرفوا على عمالقة مثل جمال عبد الناصر. وتمر الايام لأكتب في المجلة التي كانت ستكتب فيها ابنتها ميادة نزار، التي نشر عنها في 2003 كتاب بالانكليزية للمؤلفة الامريكية جين سايسون بعنوان: ميادة ابنة العراق.

     
 
                        الدكتور حسين أمين

وتعرفت في تلك المدة علما كبير في العراق، هو الدكتور حسين أمين، عندما رافقنا مجموعة اصدقاء الاثار الاسبان.
وكانت تلك فرصة للتدريب والسفر، والاطلاع على بلدان عديدة مع المجاميع السياحية، كالمغرب، حيث أخذت شهادة في التسويق وادارة الشركات السياحية، وتونس عندما ذهبت في زيارة دراسية حيث تعرفت على الخبير في التاريخ والسياحة الاب شارل موسكات من اصل مالطي الذي أفدت منه فائدة كبيرة. وكم كانت مفاجأتي عندما قالوا لي في المعهد الذي استقبلنا في سيدي ظريف، ان ثمة امام الباب أناسًا يريدون ان يقابلوني. فخرجت لتقول لي امرأتان من جيرة المعهد: لقد سألنا ان كان من بين الطلاب عراقيون، فها انت، ليتك ترينا جواز سفرك، فاخرجت لهما الجواز فإذا بهما تقبلان جواز السفر العراقي وتعانقاني. وانطلقت احداهن تصدح بأغاني لناظم الغزالي وزهور حسين.

                                  
 
                       البابا الراحل بولس السادس

كما توفرت لي خلال الزمالة السياحية، ان ازور اسبانيا، وايطاليا، حيث اسعدني الحظ ان اشاهد رابع بابا سابق للبابا الحالي، وكان البابا الراحل بولس السادس في صيف عام 1977 في مقره الصيفي في كاستل كاندولفو بضواحي روما، إذ قال لن فيما قال: أحس اني ايامي معدودة. كما شاهدت بابا آخر من بعده هو البابا يوحنا بولس الثاني، وكنا أمامه حوالي ألف صحافي، نتقدم حوالي المليون من الشباب، في ملتقى الايام العالمية للشباب في باريس في آب 1997 وفي فرنسا جمعتني علاقة اخوية مع راهب يسوعي سيصبح فيما بعد مدير دراسات الكتاب المقدس بلبنان، وهو حاليا مطران حلب على الكلدان، تعرفت عليه من خلال صديقي الكاهن السابق جورج بيكانون. وقد شوهد في سوريا، في مقدمة مرافقي ومترجمي البابا الزائر لسوريا، مار يوحنا بولس الثاني.
                      

                             الاستاذ امير الحلو

وفي مرافقة المجاميع السياحية، كانت الفرصة لزيارات احيانا متعددة، لموسكو لينيغراد ريغا يالطا، فينا هامبرغ كوبنهاكن هلسنكي ولندن. وقد سعيت إلى ان أربط السياحة والمشاهدات في الخارج، بتقديم الدراسات والمقترحات في الدائرة السياحية، ما يهدف الى تفاعل السياحة العراقية مع السياحة العالمية، بما في ذلك فتح مكاتب سياحية في الخارج. وفتحت دورة لغوية لموظفي وموظفات السياحة، بمبادرة ومتابعة شخصية. وكم كانت مفاجأتي حين أتتني مكافأة وكتاب شكر بلغة بليغة، بتوقيع من عرفته فيما بعد رئيس تحرير صحيفة واسعة الانتشار (القادسية) ومجلة بارزة في العراق (ألف باء)، كان المدير العام آنذاك في السياحة، الاستاذ امير الحلو. بدأ مطلع الكتاب بهذه العبارة: كان لمبادرتك، فتح دورة في اللغة الفرنسية، الاثر الطيب في قلوبنا...
وفي الثمانينيات، كان التحضير الى المؤتمر عدم الانحياز، فكان التعامل بين السياحة ومراسم الرئاسة على قدم وساق. مما وفر لي فرصة التعرف الى عدد من الشخصيات العالمية.

  
                               
 البروفسور رودريغيز الفاريز كامبراس           الأستاذ سعد البزاز                                             
رافقت عدة مرات البروفسور رودريغيز الفاريز كامبراس، طبيب الكسور ومستشار الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، وكان الاخ سعد البزاز نظم له لقاء اعلاميا، وفي ختامه، همس لي سعد مشاكسا: قل له يا نوئيل اما يحتاج أن نهديه علبة سيكار الهافانا.

   
 
                           دانيال اورتيغا
 وفي احدى زيارات كامبراس، توفرت لي فرصة مرافقته للقاء برئيس نيكاراغوا السابق، دانيال اورتيغا القادم للتضامن مع بغداد. وكان اولاده الخمسة يملأون البيت بالحركة والحيوية، وهناك التقيت بالقسيس السابق وزير خارجية نيكاراغوا (1979-1990) الذي كان الفاتيكان قد خيره بين الكهنوت والسياسة... انه (الاب) ميكيل ديسكوتو بروكمان.

                               
 
                             السيد رامزي كلارك

وفي مرة التقيت لحوالي الساعة رامزي كلارك وزير العدل الامريكي السابق. سألته كيف يرى ما يحدث على العراق من الجانب الامريكي، في تعامل خال من الانسانية، واردفت: ولئن كان كل هذا مجرد سياسة فالطابع المسيحي يبقى محسوبا على الامريكيين. أجاب: الولايات المتحدة عرفت كيف توظف بعض البدع الدينية لتمرير مخططات سياسية. مثال ذلك، ضخ اعداد كبيرة من مجموعات البدع الدينية، تحت غطاءات متنوعة الى نيكاراغوا ضد دانيال اورتيغا، وفي الانتخابات دفعوا الى الواجهة شامورو ارملة مناضل. فخسر اورتيغا، بسبب تأثير تلك المجموعات.

                      

                     الرئيس الجزائري الراحل بن بلا


وتوفرت فرصة ذهبية ان التقي الرئيس الجزائري الراحل بن بلا. فقلت له: يا سيادة الرئيس لقد رافقت طلعتك مخيلة طفولتنا. فقال ما كنت اعرف اني بهذا السن المتقدم... وشرحت له كيف كنا طلاب ابتدائية ونشاهد صوره مع قادة عرب، في ساحات بمدينة الموصل. ومن جانبه حكى لي كيف انهم خلال حرب تحرير الجزائر، كانوا امام الحصار والهيام في البراري، يجدون في انواع من النباتات البرية مصدر غذاء لهم من أجل البقاء.
وكانت هوايتي في ممارسة الصحافة، الى جانب العمل السياحي، تأتي بروحية العراقي الشاهد عن قيمه الانسانية والمسيحية وبما "يُرونق" حالة المواطنة مع مختلف العراقيين
وبقي الى جانب هذا تداولي مع الكنيسة كمرتل وشماس، حتى الحيازة على مرتبة ما نسميه الدياكونية، اي الخدمة الشماسية الرسمية كأول درجة كنسية لمن يبقون ضمن المجتمع المدني. وكان هذا سيستمر وفق المنوال عينه، لولا منعطف اعزوه الى مباركة السيدة العذراء، في كنيسة بادري بيير تحمل اسم القديسة تريز. عندما قصدتها وانا اقول في نفسي: سأدخل لأصلي هنا، فلست معروفا في هذه الكنيسة، ولا يعرفني فيها سوى الله. فقرأ كاهن في القداس نص انجيل عن معجزة اجترحها يسوع بطلب من امه العذراء، في عرس دعي إليه. فاخترقتني ومضة ان الرب يرعانا، والام العذراء تشفع لنا في المحن حتى في صمتنا. فأصبحت ناشطا ومحاضرا ومدرسا في الشأن الديني. وكان اول مقال ديني لي بعد المقالات (المدنية) في مجلة الف باء، ترجمة لمقال يعتمد كلمة الرسول بولس: الويل لي ان لم اعلن بشرى الانجيل. وصدر لي اول كتاب مترجم، عن هذا القديس رسول الامم. أنشطة سرعان ما لفتت الانتباه الي في دائرتي حيث كان قد اوصلني السائق "من الربع" الى كنيسة قلت له ببراءة ان لي فيها محاضرة. وكنت أهديت له قبل أيام لمناسبة عرسه، كتاب نهج البلاغة. فتمت إحالتي الى التقاعد، وكانت تلك الفرحة بمثابة العودة من الاسر.

            

وفي سنة تقاعدي صرت نائب رئيس تحرير مجلة الفكر المسيحي لعشر سنوات (1994-2004) حتى قبولي درجة الكهنوت. واستأنفت العمل عندئذ مع دار الناصرة للنشر، بنشر كتابي المترجم الثاني عن سيرة حياة المتصوف المهتدي شارل دي فوكو، عقبتها سيرة حياة القديسة ريتا دي كاشيا، الى جانب عملي بالمشاركة مع الاب يوسف توما الدومنيكي في مناهج التعليم المسيحي للمرحلة الابتدائية، ومع الاب منصور المخلصي سيرة حياة الفيلسوف الافريقي اوغسطينوس، ثم كتاب الكنيسة عبر التاريخ.
 على ان الكتاب الذي خلتني في السماء السابعة وانا اعمل فيه، كان كتاب سيرة حياة يسوع المسيح. عرضته على البطريرك مار روفائيل بيداويد، فزينه بمقدمة بتوقيعه، واعطاني ترجمة الفولغاتا للانجيل لاعتمدها وهي الترجمة المألوفة في قراءات القداس. فكنت اطبع الكلمات، باستساغة كل حرف، تنسيقا وتحريكا، وفي قلبي الاحساس السعيد أني اطهو للقارئ أشهى غذاء روحي لم يزل يقدم للبشرية منذ ألفي عام ونيف.



   

س ٦ الگاردينيا - في الصحافة والتلفزيون والاذاعة لك ممارسات متنوعة منها برنامج اسبوعي في تلفزيون آشور بعنوان (  زمن الحوار ) حيث كنت معداً ومقدماً للبرنامج ، أستضفت عام ٢٠٠٤ عازف الناي السيد (خضير تقي محمد ) وكانت لك حكاية معه ، هل تتفضل علينا بروايتها ؟
كان ذلك بمفارقة مفاجئة، عندما اختارتني شابة لتقديم برنامج من اعدادها، قائلة انها تجد فيّ كفاءة التقديم والتعامل مع الجمهور، قلت لها: سأقدم لك هذه الحلقة، ولكني انا الذي سوف أعد الحلقات لبرنامج اختار اسمه (زمن الحوار)  فكانت الشابة المبدعة وسن –كريستين- فارتان، اول من دفعني بالمصادفة الى هذا المضمار. كان البرنامج على حلقات، اسبوعية كل جمعة، وكان من حسن الصدف ان المخرجة في تلفزيون النهرين هي ابنة أميرة اخت لي بنوع من التبني بين عائلتينا، وهي المخرجة المبدعة رويده حنا يلدا التي كانت تهتم بهذا العمل بشغف متميز.
أما التعرف على الفنان عازف الناي خضير تقي محمد، ابو فائزة وهو كفيف البصر، فيعود بي الى مطلع السبعينيات. ولا بد ان اذكر ما قادني الى التعرف إليه.
إن بعد مرور بضع عقود من العمر، انتبه الى أن ما يشكل المرء في كل مرحلة من حياته، هو تفاصيل عندما تجتمع سوية من هنا وهناك، تجعل منه ما يطبعه للمرحلة اللاحقة.
ما حققنا كلنا، عبر السنين من تعارفات وملكات كتابية او لغوية او ثقافية، استغرق منا سنوات من الدأب اليومي، بتفاصيل اذا قارناها بالقرية الالكترونية التي تحول اليها عالمنا، وجدنا كم اخذت منا من الوقت. أما في الزمن المعاصر، فإننا على مرمى الاصابع، نستطيع ان نستخرج معلومة او تاريخا، وبالانترنيت، نستطيع ان نتواصل بدقائق مع شتى انحاء العالم. والهنيهات حلت محل الوقت الطويل الذي يستغرقه البحث في مرجع او مورد لغوي. على ان هذه التسهيلات، يوجد في مقابلها ان القدرة على التركيز، يمكنها ان تضعف، بسبب التشتت والاعلانات والاهتمامات التي كانت من قبل كمالية لتفرض على الكثيرين بكونها شبه ضرورية.
وها نحن نعيش هذه المرحلة الانتقالية التي باتت من بنات التاريخ، وستنحسر على اجيالنا اللاحقة. بدا كل شيء مع وقوعي على اعلان لسيدة فرنسية، تحيي مركزا للمراسلة والتعارف بالفرنسية وبخط البرايل ما بين المبصرين والمكفوفين في فرنسا وتونس. وكان التواصل بالفرنسية وشهريا مع هذه السيدة كمحصلة سنوات (1966- 1978) بمثابة مدرسة لغوية جديدة يمكننن ان اقارنها مع التلمذة على يد الاستاذ اسحق عيسكو. فارتبطت بعلاقات صداقة مراسلة مع اصدقاء في فرنسا، وآخر من المبصرين في بلجيكا، كان تلميذ اكليريكية، هو الان نائب اسقفي في مدينة تورني، وآخرين في معهد سوسة بتونس للمكفوفين: يوسف بن زين، واحمد عبدالنبي.
وكان تعرفي على أبي فائزة، حيزا جديدا لدخولي بصحبته الى عالم من الثقافة والذائقة السمعية في الموسيقى، ومهارة التداول بروح الفكاهة والنكتة الذكية. ولم يكن يفرق بيننا اختلاف توجهنا الفكري، بكوني احمل قناعات ايمانية مسيحية، وبين كونه يحمل فكرا ماركسيا، يفتخر انه بسببه امضى مددا في السجون بصحبة أناس يدافعون عن حرية الفكر. فقد بادرني عندما عرفني، على ما انا عليه، بالبيت الشعري الرومانسي من قصيدة احمد شوقي (مضناك جفاه مرقده): ناقوس القلب يدق له، وحنايا الاضلع معبده، من القصيدة الجميلة التي غناها كل من عبد الوهاب ثم فيروز وسواهما، والتي جاء فيها ايضا
يستهوي الورق تأوهه ويذيب الصخر تنهده
ويناجي النجم ويتعبه ويقيم الليل ويقعده
الحسن حلفت بيوسفه والصورة انك مفرده
وتمنت كل مقطعة يدها لو تبعث تشهده
... بيني في الحب وبينك ما لا يقدر واش يفسده
ما بال العازل يفتح لي باب السلوان واوصده
ويقول تكاد تجن به فأقول واوشك اعبده
مولاي وروحي في يده قد ضيعها سلمت يده
وهي مستلهمة من قصيدة الشاعر الاندلسي، الحصر القيرواني إذ قال:
ايا ليل: الصب متى غده؟ أقيام الساعة موعده!
ويمكننا ان نلاحظ كيف يزخر ادبنا العربي بتشابيه الرموز الدينية. شأنه في ذلك شأن الآداب العالمية، المعجونة بالتراث الديني، كما في أدب غارسيا ماركيز، في لا رسائل للعقيد، ومناحي اخرى، بضمن غيرها، في الادب الاسباني لامريكا اللاتينية.
وكنت أحس بتعاطفه الوجداني والفكري مع الشاعر البصير أبي العلاء المعري، وقد القى على مسمعي لغير مرة أبيات من قصيدته:
في اللاذقية ضجة ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيح
كل يعظـّم دينه يا ليت شعري ما الصحيح
وكنت اعرف من خلال فكره الماركسي، قربه من فكر المعري، وكنا كلانا يحترم توجه الاخر، لا أنا أجادله ولا هو يخطئني، وقلما نتداول في الامور الدينية وكانت لقاءاتنا تقتصر على الاغتراف من الشعر والادب وانماء العلاقة الودية وتبادل الفكاهة.
وهكذا عندما أخذت في عام 2004 أعد واقدم برنامج زمن الحوار، كان من بين الذين استضفتهم في أحد اللقاءات. فقدمنا حلقة شهد لها بالنجاح، واتصلت به احدى الجهات، عن طريق التلفزيون، للتعرف عليه وتكريمه والافادة من ثقافته الموسوعية.


     

س ٧ الگاردينيا - التقيت بمشوار حياتك بعدة شخصيات بارزة ومنهم الأم تيريزا ، كيف كانت ظروف لقائك بها ؟ وماذا دار بينكما من حديث ؟
في أول اسبوع من وصولها، كلفت بمرافقتها لمدة ثلاثة أيام مع طبيبة في وزارة الصحة، نظرا لتعاملي مع الوسط الديني الكنسي، وذلك لغرض تسهيل تنقلاتها ومقابلاتها الرسمية للايام الاولى قبل ان تتفرغ لفتح دار للحالات الصعبة والميؤوس منها. هنا استجمعت كل حواسي وطاقاتي لأعيش الحدث،اذ كنت واعيا جدا بأني بجانب انسانة صانعة للتاريخ.
عندما حلت ضيفة رسمية على العراق المضروب، اثر تلقيه الضربة الموجعة في اعقاب غزو الكويت، كان جناح في فندق الرشيد بانتظارها، فأجابت: انا راهبة، قبل أن اكون ضيفة رسمية، ومكاني هو الدير، فكان لها ما أرادت. ولا شك انها التقت بالكثيرين من الوسط الديني ببغداد، في الاديرة وفي الكنائس، وبضمنهم عائلتي. ولكني كنت محظوظا بأن ارافقها شخصيا، واكون معها في سيارة واحدة. ولا بد من الاعتراف اني كنت اوجه السائق ليتخذ مسارات اطول في تنقلاتنا بين زيارة رسمية واخرى، ليتسنى لي ان اجتر ما استطيع من ظلها وأنفاسها. كنت أخذت معي كتاب سيرة حياتها، لتكتب لي في الاوتوغراف، وكانت تهمّ أن تأخذ من حقيبتها اليدوية قلما، فقلت لها: قلمي حاضر، وكنت جلبت معي لهذا الغرض قلم حبر (باندان) لتكتب به، وما زلت احتفظ بهذا كايقونة لامستها انامل طوباوية. كتبت على صفحة الكتاب: ميستر نويل، احبب الغير كما الله أحبك، تذكر ان اعمال المحبة هي اعمال سلام.
 في الواقع، سبق لي وأشرت الى نشاطها الخيري لمساعدة الفقراء، في تحقيق لمجلة الف باء سنة ، 1984، عن افتتاح مطعم للكلاب في امريكا، وسم بعنوان: لان الفقراء يزدادون جوعا كلما ازدادت تخمة الاثرياء، أصبح للكلاب الامريكية مطاعم خاصة.

                                          

واعطتني سبحة صلاة، حباتها حمر، مع التعليق، ميستر نويل، هذه السبحة حمراء كلون الحب. وبصدد صلاة السبحة الوردية، اود ان اشير الى ان الطبيبة المرافقة قالت لي، لاحظ كيف لا تفارق السبحة اصابعها. فتابعتها، فإذا بها بين حديث وحديث، بين سؤال وجواب، تعود الى تمتمة الشفاه بصلاة السبحة الوردية، لاجدها، خلاصة القول تتنفس الصلاة تنفسا. وعندما كانت تكتب الاوتوغراف، كانت تكتبه بلا اطراق او فسحة من التفكير فيما ستكتب، بل تكتب الاسطر، بتميز وإضافة وابداع، وكأن ثمة من يملي عليها ما تكتب. قلت لها، يا ماذر تريزا انا لست فقط موظف بروتوكول بالدولة، بل انا ايضا خادم- شماس في بروتوكول يسوع المسيح.

         

أجمل ما في الام تريزا، وجماعة المحبة التي أسستها، ان عملهن موجه للجميع، فلن تطلب من احد هويته، او عشيرته لكيما تخدمه او تضمد جروحه، او ترعى طفله المعذب. وفي ذلك العمر كانت تعيش عنفوان الخدمة، نقارنها بطبيبة لها مهارة التعامل الطبي مع المرضى، اما هي فلها مهارة التعامل برشاقة ودراية مع المرضى والمعاقين خصوصا الاطفال، بحنو القلب وشغف العين، وعندما كانت تجد حالة من الحالات الصعبة، لتأويها الى الدار، فكأنما وجدت درة ثمينة، وهدية ارسلها الله لها ولأخواتها. وكان النهج في بيوتاتهن ان يتأثثن بما يجعلها بمستوى فقر الناس الذين يخدمنهن، فينتعلن أحذية صنادل متواضعة، ولا يضعن في الدور أجهزة تبريد وتدفئة، باستثناء المخدومين فهم ضيوف شرف. كانت كل من شاهدت من الاخوات مرسلات المحبة، بمثابة الام الحنون لعمر وعلي وحسين واحمد وجوني، اسماء الفت سماعها في أروقة دور مرسلات المحبة، في الكرادة ببغداد، او في سدة البوشرية في بيروت.
ان امهاتنا، امهات العراقيين المنكوبات بويلات الحروب وما كان يصيب الابناء من جروح وامراض، لا غرو انهن كنا حقا بحنان الام تريزا، الا ان هذه عاشت هذا الحنان، كام لجموع ملونة الاشكال والمذاهب والاصول، من اطفال العالم المعاقين ومرضاه المدنفين.

   
   
س ٨ الگاردينيا - سفرة الى غانا لقاء مع الفقر كعلامة صارخة أمام العالم، ماحكاية تلك السفرة؟
في عام 2005، كنت نائب رئيس اقليم الصحافة الكاثوليكية في الشرق الاوسط، فمثلت الاقليم في لقاء تطويري للعمل الصحفي في افريقيا. وكان اللقاء بمثابة، الحملة لتنظيم مؤتمر دولي في بوركينا فاسو للدورة اللاحقة. وهو مؤتمر عالمي يتم كل 3 سنوات، فعارض الجانب الاوربي هذا اللقاء، بحجة ان افريقيا غير مجهزة لذلك. وكنت من ضمن اللوبي الضاغط لصالح افريقيا،  حتى انتزعنا أخيرا القرار بأن يتحقق المؤتمر في بوركينا فاسو، سنة 2009، بعد لقاء شيربروك – كندا في 2006.
وأذكر حالة صعبة عشتها وانا اتوجه الى اكرا من دمشق مرورا بالقاهرة، ثم اديس ابابا. في دمشق أخبرتهم بأن لدي دعوة لحضور مؤتمر، فكان السبيل سالكا الى الطائرة، وما ان وصلت القاهرة، لانتظر بضع ساعات، اخبرتهم بالموضوع نفسه، فقال لي الشخص المسؤول: معليش، انتظرت ساعاتي هناك، وقبيل موعد الطيران بساعتين، كنت في قاعة الانتظار عندما، جاءني الموظف وقال لي لا يمكننا ان ندعك تسافر اذ ليس لك تأشيرة الى غانا. تفاجأت بالموضوع، ودخلت في حيرة من امري واخذته موضع الجد من الناحية القانونية المحلية، بسذاجة من لا يشك أن في ذلك أي جانب من ابتزاز، فذهبت الى صالة المطار مفتشا عن طريقة للاتصال السريع بمنظمي المؤتمر، وكان الايميل الوسيلة الوحيدة، بدون ان اتلقى جوابا مباشرا، ارسلت الايميل لانتظر المجهول بقرب صالة الانتظار. وعرفت فيما بعد ان منظمي المؤتمر اتصلوا بهم اتصالا شديدا، تبين لي من طريقة قدوم مضيف للطيران ليحييني برقة وهو يدعوني بين كل جملة وجملة بصفة أبونا، وقدم لي نفسه باسم ميلاد، مستغرقا في الاعتذار وهو يوصلني الى سلم الطائرة.

  

كانت المراجعة في المطار الغاني لتأشيرة فيزا المؤتمرين، مثل مراجعات شهادة الجنسية العراقية في البتاوين بالسبعينيات، تخرج من غرفة لتدخل غيرها، وتنتظر حتى يأتي الموظف المختص للتوقيع.
أجل لقد وجدت الفقر هناك كعلامة صارخة أمام العالم، لمسؤولية العالم التاريخية إزاء ما تعرض له الانسان الافريقي من عبودية واهانات عبر التاريخ واستغلال لموارده الثمينة. وهو علامة صارخة، اذا بقيت هذه القارة متأخرة فالعالم كله يتأخر معها. وهكذا فإن محافل عدة، دينية واجتماعية، في امريكا الشمالية، سعت إلى ان يكون مطلع الالف الثالث مطلعا يلتفت الى الارتقاء بالحالة الافريقية، بغية الارتقاء بالحالة الانسانية في العالم. أما العلامة الصارخة في الشارع، فانه استعراض يومي لأمارات المرض والفقر على شوارع غانا وساحاتها، يسحل المتسولون هنا وهنا ارجل مثقلة بالمرض والالم وتراكمات الزمن. وعندما كان احد الناس ينزل من سيارة فارهة، كان يبدو ملتحفا بجلباب نفسي من الشعور بالذنب، أمام نظرات نارية ضارية تلاحقه من كل صوب.
في تلك الايام، توفر لي أن أعايش بيتا من البيوت الشعبية، فكان الاحتفال بأكل اشياش التكة، كيوم عيد للدار. وكان اذا جاءت قاطرة الماء، يتناقلون الخبر كبشرى سارة. حينئذ كنا نتعامل لدى الاستحمام مع سطل الماء باقتصاد شديد، نقلل من الصابون ونحن نحسب الحساب لكل طاسة ماء، بعد تلك الايام، عدت الى مقر الاقامة الرسمي، منتقلا من حال الى حال.
في المؤتمر، تناولت المداولات في اللقاءات الصحافية، على الثروة الافريقية المستباحة، على الوضع المأساوي للتشرد، وعلى الالتفاف بحملة عالمية لدعم التعليم. خلال أيام المؤتمر، كان لمقابلة رئيس الجمهورية طقوسها، مثل الكثير من بلداننا، ما عدا لبنان، مقابلة الرئيس تخضع لتمويه حتى آخر لاحظ. فأخبرنا منظمو المؤتمر  بأن وزارة الاعلام حضرت لنا امسية خاصة في احد الفنادق. واذا الفندق محاط بالعساكر، كمن يستعدون لساعة الصفر. وفي الفندق، وجدت أحدهم يطوف، بصحبة أحد منظمي المؤتمر، على عدد مختار من الاعضاء الوفود، فأخذوا مني معلومات عن الاسم والصفة والعمل، بدون شرح يذكر، ثم حصلت مقابلة الرئيس، ليصدوا إلى الخبر في اليوم التالي على الصفحات الرئيسة للجريدة الرسمية.

  

   كان الرئيس جون كيفور، معجبا وفخورا بفريق غانا لكرة القدم. وفي تلك المدة، كان العالم مقبلا على العاب دولية، فعندما تكلم رئيس الاتحاد عن الصحافة وشؤونها وعن الضيافة الطيبة في غانا، وكان من البرازيل. وعندما جاءت كلمة كيفور، أشار اليه، بما معناه: كل هذا لا يفيدك، ففريقنا الغاني سيغلب البرازيل.
على أي حال فإن هذا البلد، كان محط انتباه في ديمقراطيته.  فالرئيس جون كيفور هو رئيس غانا الاسبق (2001- 2009) وقد عقبه رئيسان في انتخابات شعبية حرة ونزيهة، كمؤشر لبلد بات في العقدين الاخيرين يعيش استقرارا ديمقراطيا مشهودا بعد سلسلة انقلابات بدأت ضد الرئيس خوام نكروما مؤسس جمهورية غانا والعضو المؤسس لكل من حركة عدم الانحياز، ومنظمة الوحدة الافريقية. ابرزها الانقلاب الذي كان له صداه في ذاكرة السبعينيات، للشاب الطيار (32 عاما) جيري رولينغ.
 امام كل هذا، يرافقني الشعور الطيب ازاء القارة الافريقية، فهي شعلة من المشاعر الحارة والطيبة، والدهشة امام جمال الحياة وتزخر بمناظر طبيعية خلابة. ورأيتهم يعيشون تحت الوقع العظيم للتحرر من عبودية دامت لدهور، بحيث يكون كل قداس لهم، كعيد كبير، ويحتفلون بصلاة الشكر بعد التناول بالرقص الديني على ايقاع التام تام.  
واود ان اقول، اني مسكون بحنين انساني عميق وانجذاب الى الشخصية الافريقية، واتوسم مناحي عمقها الفكرية وجاذبيته. وعندما انتخبوا اوباما كنت آنذاك اشارك أمام الشاشة الصغيرة، التاثر في ذلك الحدث التاريخي، النجمة اوبرا والقس المرشح الرئاسي جيسي جاكسون رفيق الشهيد مارتن لوثر كينغ؛ في تلك الايام اشتريت قميص تي شرت بصورته لابني، ثم عدت فاستبدلتها بأخرى اقرب الى قياسه، اعجابا وافتخارا بأول رئيس امريكي اسود. واذا به، على ما احسبه، مجرد حلقة مهنية بحتة في سلسلة رؤساء الجمهوريات.  بينما بقيت لمدة أتعشم فيه ان يكون بكاريسما خاص به مؤثر ايجابيا في المسار البشري، على غرار الخطيب الامريكي الاسود ثائر اللاعنف الراعي مارتن لوثر كينغ، او القائد الافريقي خوام نكواما الداعي الى تحرير الشخصية الافريقية، وبتصوف السويدي أمين عام الامم المتحدة (الشهيد) داغ هامرشولد. ولكن اسقط في يدي فيما بعد عندما بدأ يُخيَّل لي، ولعلي واهم، بأن الرجل مهما بذل من جهد، لكنه يحمل من السحنة الافريقية ظاهرها دونما قلبها والروح.

  

س ٩ الگاردينيا - وسفرة تايلند، حيث الحالات البشرية متمازجة ، كيف وجدتهم ؟
هذا البلد، تايلند، يدين 95 بالمائة من سكانه بالبوذية، وهي ديانة الملك، وهو ملك دستوري، يعلن ذاته حاميا ومدافعا لمختلف المعتقدات في مملكته. استقبلنا هذا البلد لنحقق فيه على مستوى دولي مؤتمرا عالميا للصحافة المسيحية. طاقم التضييف كان يتكون من مديرة المدرسة الثانوية أهلية، بوجاوان شيناواترا زوجة رئيس الوزراء (العائش في المنفى حاليا) تاكسين شيناواترا.

 

تتوسط العاصمة بانكوك غابة من ناطحات السحاب، يمسح شبابيكها عاملو تنظيف محمولين على مظلات باراشوت. يحلق فوق شارعها الرئيسي الطويل ما يسمى بقطار السماء، وينتشر على ارصفتها فيلق من الباعة المتجولين، جلهم من حملة كمامات الحماية من التلوث وكأنهم يترقبون ضربة كيمياوية.

لا تنتمي تايلند الى العالم الغربي المنحدر عموما من المسيحية، ولكنها تعلن عن ذاتها كدولة من الدول المتقدمة. حين القى رئيس الوزراء آنذاك تاكسين شيناواترا ، كان يلقي خطابه الذي استغرق حوال العشرين دقيقة، وكأنه يرتجله، عرفت فيما بعد انه كان يستعين بشاشة افقية تفترش منبر الخطابة، وتعرض خطابه المطبوع بالحاسبة.

                                      

تميز هؤلاء الناس بالطيبة، والادب الجم. يسلمون هنا وهناك بضم اليدين على الصدر، حتى بهرتني الطريقة فعملتها مع موظفتي مصرف شابتين، لتنبهاني بكياسة ان هذا السلام، يقدم من الاصغر للاكبر، فقلت محرجا، ومن قال اني الاكبر، لتقبل المشاكسة بابتسامة وظيفية الكترونية... عندما كنا نستقل التاكسي، مجموعة صغيرة من الوفد نحو مكان المؤتمر، استبطأ احدنا الطريق، وكالمعتاد سياحيا افترض ان سائقنا يطوف بنا العاصمة قبل ان يصل بنا الهدف فنهره معترضا على ما حسبه تأخيرا متعمدا، فهم صاحب التاكسي الاعتراض، ولم يكن يجيد الانكليزية، فأجابنا مدافعا عن نفسه ومشيرا الى خطا تقديرنا، بالبكاء.

    

من كل هذا أعجبني ان استخلص وانا اطوف في معابدهم البوذية وطقوس تكريمهم لرموز ديانتهم، بأن الديانات في كنهها، لا علاقة لها بالتقدم او بالتأخر، للمرء ان يأخذ منها ما ينهل منه للتسامي ولراحة الضمير والسلام الداخلي والسعادة الروحية والابداع في حياته ومعاملة الناس بالحسنى.
كانت هذه الملاحظات تترى أمامي، وأنا أستذكر في تلك سنة 2005، ما  كتبته الصحف العالمية بشأن دخول البشرية الالف الثالث، ان اكبر لقاء ينتظر من الالفية الجديدة، سيكون بين البوذية والمسيحية، وازعم أنه لو قدر للقاء أن يمتد لوسع الديانات الابراهيمية، فهذه تعتمد على الصلاة اتصالا بالخالق، والبوذية تعتمد التأمل للغور في اعماق الروح.

   



         
 
س ١٠ الگاردينيا - وسفرة سوريا ؟ هل تركت فيك تلك السفرات فرص مستقبلية للتواصل ؟
البلدان التي عشت فيها مُدة طويلة نسبيا، كانت المغرب، وتونس، لبنان وسوريا. هذه البلدان وجدت فيها بلدا ثانيا، اكثر مما وجدته في كل من فرنسا وايطاليا، وسائر البلدان الغربية باستثناء كندا. وللمفارقة يسبقني اليها الحنين قبل الموطن الاول. فالكمد تجاه الموطن الاول، شهدته لدى غير واحد من سكان المنطقة، من شتى المذاهب والاصول والقوميات. سألت آشوريا قبل بضعة أيام، ولد في أيران، قلت له هل عدت الى طهران ولنا فيها كنيسة ومطران، قال لن اعود الى هناك. قلت لماذا، قال: عندما خرجنا من الحدود الشمالية، قلت لمرافقنا، ان ينبهني عندما نصل في مسيرتنا الى اعلى مرتفع يفصلنا عن نقطة المغادرة، فنبهني الى ذلك، التفت الى تلك الارض الشاسعة، وقلت، يا ارض لن اعود، لن اعود اليك. قلت لماذا قال: خرجت بالإحساس ان تلك الارض لم تعد لي ارضا.
أما عن الشام، فبيينا وبين الشام، كما بين قريتي الجبلية والقرى الجبلية التركية، وعلى حد معرفتي بها، تفصلنا حدود مصطنعة؛ فقريتنا الحدودية، وضعها مخطط الحدود البريطاني على الجانب العراقي، بسبب يذكره لنا الاباء، ان الوجهاء أوكلوه لحد التخمة واشربوه لحد السكر، ليقنعوه على وضع سناط على جانب العراق. هكذا تربطنا بالشام، وخصوصا مع الموصل، روابط متنوعة، نشترك في طابع الاحياء القديمة في دمشق وحلب الازقة الملتوية، وقطار العشاق، واغاني الوجد، والبيوتات الساحرة، والبشرة الحنطية والوجنات الوردية وصفاء العيون واللهجة الشعبية الرقراقة. فمن عرفناهم من جرمانا، وصيدنايا والقصاع وباب توما، سرعان ما باتوا اصدقاء كمثل الاهل والاقرباء. كنا قبل ان تكون الشام ضحية المخططات الاقليمية، نتواصل معهم بحنين الى تلك الارض، أما الان فكلما نفكر فيهم، نعرف الى أي حد يتألمون للواقع الجديد ونحن معهم نتألم.
توفرت لي فرصة التواصل مع الكنيسة الكلدانية في الشام، واكون راعيا لكنيسة سانت تيريز، في باب توما، لنكون الى جانب سائر الكنائس الكلدانية في بلدان الجوار والشتات، مشكلين انتماء مشتركا ضمن رعية بطريركية بلا حدود ما بين العراق، كما هو الحال كنسيا مع ايران وتركيا والاردن وعدد آخر من الدول. وتصلنا بالمنطقة صلات طيبة، فكانت الكنيسة بجوار مطرانية الموارنة، ليكون مطرانها الراحل، مار ريمون عيد، لي ولاسرتي أبا روحيا آخر وراعيا. أما أبناء رعية سانت تيريز، عراقيين وسوريين، وبعد مغادرتنا الى كندا، عندما سمعوا بوفاة الوالدة، اقاموا القداس عن روحها، بالتزامن مع المراسيم التي أقامها افراد اخرون من اسرتي المنتشرة هنا وهناك.
أما الان فلحين ان يفرج عنهم وعن العراق، نحن بنفس الكمد، في البعد، لبلدان لا يريد لها المتعصبون أن تكون موطنا لابنائها الاصليين الذين يرتقي ايمانهم فيها الى ألفي عام ونيف. اننا نفتقد الان زقاق برنابا، ومكان تعميذ بولس الرسول، والسلة التي دلها منها من السور، كنا نشم في حجارتها ومعالمها الاثرية، رائحة ترتقي إلى عهد الرسل الاولين. كنت ثمة راعيا للعراقيين والسوريين وكلاهما كان يمتعهما الاستماع الى طقوسنا الجميلة، والانتماء الى الجذور المشتركة. ولكثافة الحضور ما بين السوريين والعراقيين، كانت تمتلئ الكنيسة عن بكرة ابيها، وتمتلئ الازقة المجاورة. كانت احتفالات التناول الاول افواجا افواجا، ومراسيم الزواجات اسبوعيا والعماذات بالعشرات.

                               
 
                       الشاعر يوسف الصائغ

من تلك الكنيسة شيعت، الشاعر يوسف الصائغ، بحضور ثلة متنوعة من عشاقه ومريديه وأصدقائه في مقدمتهم الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، وذلك بطلب من البطريركية ببغداد في اتصال من قبل السكرتير البطريركي الاب بطرس حداد، وبموافقة من مطران الكلدان في حلب مار أنطون أودو. وفي صلاة وجناز اليوم الثالث|، تأملت بفرادة الموقف:  تلميذ يوسف الصايغ في الصحافه هو الذي اصبح الكاهن المترئس لمراسيم تشييعه ،فيقدس من أجله. وفي هذه المناسبة طلبت من زميله الاستاذ عبد الرزاق، بدالة لا تخلو من جرأة مع الذات، ان يقرأ سفرا من الكتاب المقدس،  وهو سفر خاص في هذه المناسبة عن الموت والقيامة، قال الاستاذ عبد الرزاق: لست متعودا على هذا، بأي طريقة اقرأ النص، قلت إقرأه كمن يقرأ قطعة شعرية.

   
 
                        الشاعرعبد الرزاق عبد الواحد


 وانساب صوت الشاعر العراقي الكبير، عبد الرزاق عبد الواحد، يقرأ عن الموت والحياة، وكأنه الصدى لصوت رمز من رموز اجداد بلاد بين النهرين، اتونابيشتم الباحث عن سر الحياة والخلود. وللمنظر المؤثر من الحضور المتنوع، قلت في كلمة التأبين: ان فضيلة فقيدنا الشاعر، يوسف الصايغ، إلى جانب غيرها من الفضائل، هي انه وحد العراق على كف قصيدة.  

   

س ١١ الگاردينيا - لك عشق خاص للمقامات العراقية ، كيف وماذا تعلمت من الراحل الأب فيليب هيلايي عندما قلت عنه انه سعى الى تهذيب صوتك ، واعطائك ملاحظات لأداء المقامات ؟ كيف كانت تلك الدروس ؟
كان ذلك بمناسبة انتجت لي فيها تسجيلات أغادير اول شريط قداس، ثم شريطًا لاداء المقامات الكنسية.  وهنا لا بد من تسليط بعض الضوء على شخصية الاب هيلايي.
إذا تحدثنا عن الشخصيات الكهنوتية الفذة التي مرت بكنيستنا، فإن ابرزها هو الاب فيليب هيلايي وكنت اتمنى ان مثل هؤلاء الشخصيات يفرغون الى اقصى ما يمكنهم التعمق في مواهبهم واستثمارها في خدمتهم الكهنوتية بدون ان يكونوا متفرغين لخدمة الرعية من الناحية الادارية. وقد نجح في هذا المضمار، لردح طيب من الزمن الاب البير ابونا خبير اللغة السريانية والكاتب المتبحر في التاريخ الكنسي، بتفرغه، بفرصة استثنائية كأستاذ في المدرسة الكهنوتية. ولكن عندما يتخرج الكهنة ويرتسمون على مستوى البطريركية، فإنهم لا يكونون مثل كهنة ضمن رهبانيات تفرغهم كل بحسب عطائه وابداعه وعبقريته، عندئذ قلما يكون للكهنة المتعينين في الكنائس خيار تفرغي، لأسباب مختلفة. وهذا كان واقع الموسيقي الراحل الاب فيليب هيلايي، على انه كان من الذكاء الميداني ان استثمر خدمته الراعوية في كنيسته، بتخريج افواج من العازفين والموسيقيين والمرتلين. وقبل ان يتوفى بحادث حريق في 24 آذار 2002 عن عمر 69 سنة، التمعت في آخر سنواته، همة ان يصدر مجموعة كتب بوقت قياسي، وكأنه على عجل من أمره.
كانت بيني وبينه، ومثلي أخرون كثيرون، مسافة في التعامل لهيبته، ولصراحته المباشرة في الحديث بدون أي مجاملة مع اقرانه ومع الاقدم منه فكيف بالاصغر منه. ولكن خلال العمل في المجلة، والتعامل مع مقالاته في مجال نشرها، وتردده علينا، واريحية الاباء معه، تكونت لي بعض الدالة الحذرة تجاهه. اذ ما كان يخلو من الشطحات التي كان يفهمها الجميع ويقبلها بتندر، منها اننا في مناسبة الاحتفال بتذكار قديس شعبي عند بعض القرى، كنت اخدم قداسه مع كاهن من قدامى تلاميذه وهو الاب فارس، وكنا في الترتيل نستطيب ما كنا نعرفه يروق لذائقة أبناء تلك القرى، من لحن الطوراني المشوب بالحزن، فاستغرقنا في ذلك وكانت مكبرة الصوت في ساحة الكنيسة على مسمع منه، فأصابه الغليان، وجاءنا أبونا فيليب منتفضا، وقال بكلمات متفجرة: ما بالكم قلبتموها الى مناحة. فابتسمنا واطرقنا وتحولنا الى مقال الرست، وبعد ان غاب عن ترتيلنا ملاك "السلطنة" كان الترتيل اقرب الى الاداء الوظيفي منه الى "الانطراب".
فهل مع هذا العملاق، اقول له، ابونا سجلت كاسيت، هل لك ان تعطي الرأي فيه؟ ولكن مدير التسجيلات على ما يبدو اعطاه نسخة منه، فبعث الي وقال: أنت سجلت في تسجيلات اغادير كيف لم تقل لي؟ فترقبت ان اكون امام تقريع وقائمة من الاوصاف، ولكني استعدت الانفاس إذ قال: سمعت التسجيل صوتك مهذب، ويعجبني ان تأتيني لكيما ادربك على المزيد من طرق التعامل بالمقامات. فسجلت له ساعتين ثمينتين. ورأيته من بعدها وقلت له: أبونا في التسجيل الكثير من الكلمات القوية غير الكهنوتية وجهتها للعازف وغيره! قال: اوه، رحماك، احفظه لك. فحفظته.
تعلمت منه ان الصوت كالجهاز، يمكن ان يعطي ما هو الجميل في القطع المعروفة، ويؤديه بتميز افضل من غيره، ولكن الصوت المتواضع، اذا عرف التعامل مع الالحان والتنغيم، كان اكثر ابداعا، وعليه، فمن يصنع الصوت المتميز غالبا ما يكون الملحن، اما اذا كان يستطيع التلوين والتصرف والابتكار، فهو مبدع بامتياز لأنه سيكون سيد أمره. اقرب مثال لذلك، عبد الوهاب أداء وتلحينا، وفي الزمن المعاصر ممن عرفته، كاظم الساهر، الذي من هذا المنبر ارسل له التحية، وهو لا بد ان يتذكر، مدير علاقات الحبانية الذي أدى أمامه مقاما لسيكاه، وعندما زارني في المكتب في اليوم التالي: التفتت الى السيكاه الذي أديته.

س ١٢ الگاردينيا - ترتيلة " أمرلي عيتا أيكا " (قولي لي يا كنيسة ) من التراتيل التي تتلى في الكنائس وخاصة في زمن تقديس الكنيسة
، ترتيلة حزينة ومؤثرة تضع المؤمنين في حالة خشوع وإيمان ، وتجعلهم في صلاة خاصة تسمى صلاة الصمت والأصغاء، وكلمات المرتل موجه الى الكنيسة متحدثاً إليها ، قائلاً
قولي لي يا البيعة ( الكنيسة ) أين تريدين أن أبنيك . هل أبنيك على القمر ؟ فالكنيسة ترد وتقول : لا لا لأن القمر لن يظهر نوره
هل أبنيك على الكواكب ؟ لالا الكواكب ستتناثر كالأوراق
هل أبنيك على الجبال ؟ لا لا  الجبال ستذوب كالشمع
هل أبنيك على الصفا ( الصخرة ) ؟ نعم نعم .. قد قيل وقيل في الكتب ، " على الصخرة أبني كنيستي "  . وهكذا نصغي الى تلك الكلمات القوية والى لحنها الحزين بصوت قدس الاب نوئيل السناطي والعازف ستيف ، نورّنا  بحديثك عن التراتيل ذلك العالم الجميل ؟ وكيف سحرت الفرنسيين بتراتيل ذات نغم شرقي ؟
التراتيل الشرقية لطقوسنا الدينية هي التي صقلت اصواتنا، وغالبا ما تبث الروح في صوت من تنك ليؤديها بنوع من الطرب، وبفضلها ينصهر صوت نحاسي فيكاد يصبح من ذهب. لقد كان في مدرستنا الكهنوتية، اسراب من الاصوات الجميلة تضيع فيما بينها، ولا تتميز في الاولوية المطلقة. وعند التخرج وذهاب كل واحد في دربه، أخذوا في التميز والتراتيل تعجن عشقهم لها عاما بعد عام، وكل ما جاء موسم، كلما ابدعوا المزيد في ذلك الاداء، محاطين بآذان تتشنف وتشجع وتطلق الدعاء الطيب للمرتل. وازيد لأسمح لنفسي بأن اجرؤ على القول، عن كاهن اعرفه، كان لصوته خامة متواضعة يضرب بها المثل، ولكن ما لسمته مع تواتر السنين، التي فيها كرس شبابه لخدمة الرب والمذبح والرعية، كانت الترتيلة تخرج من اعماقه المسكونة بحضرة الخالق، برونق يمتع الاذن، وكان في خدمة القداس محاطا بسرب من الشمامسة المبدعين، يزاملهم ويجالسهم ويسامرهم فيمضون الامسيات العائلية بالتناوب، في احلى الاجواء من المقامات الكنسية والتراتيل الدينية، تحية من هنا الى المونسنيور مشتاق زنبقة والى شمامسته الطيبين.
تراتيلنا الدينية في الشرق واداؤنا لها يحمل هوية مشتركة بين الاديان. سمعت امام حائط المبكى في القدس، مرتلا للمزامير في الطقوس اليهودية، فخلته قارئا من بغداد ولعله حقا كذلك. ولانتشار التجويد القرآني واصوات الاذان، على مسمع السواح والاذن الغربية، فإنهم عندما يسمعون ترتيلة دينية للطقوس المسيحية، تختلط عندهم مع ما سمعوه من تجويد وآذان.
عندما تعينت في كنيسة سانت فاميل الكاثوليكية للكنديين الفرنسيين، تدربت على سياقات اقامة القداس من حيث القراءة واداء الطقوس، ولكني ما كنت اعرف اداء الفقرات التي يمكن الترتيل فيها، وخصوصا فقرة مباركة الخبز والكأس. فعمدت أن أولف لحنا لها منسجمًا مع مساحتي الصوتية، وسعيت كما كنت اعتقد ان اعطيها بعدا متوازنا مع الاذن الفرنسية، في الاداءات المعروفة، فاستوحيت من أداء انريكو ماسياس الجزائري الاصل لرائعته الفرنسية: تركت بلدي
J’ai quitté mon pays
وكنت احسبني اؤدي ما اعرفه، ففاجأني تذوق المستمع الغربي لذلك، ليشرح لي العازف ستيف خمو، عندما اديتها له، ورافقني بالبيانو، قال: اجل يا ابونا فإن السميعة الغربية، تشترك معنا في تذوق الراست والنهاوند ومقامات اخرى، وما لم تألفه عندنا، فإنها تحسبه دعوة للبكاء.

    

س ١٣ الگاردينيا - ماهي ذكرياتك عن الكنائس والاديرة وناسها في العراق ؟ وهل لديك رؤية مستقبلية لتوظيفها بشكل أفضل دينياً وسياحياً ؟
يعيش عالمنا اليوم عدة عوامل منها:
هيمنة العولمة أي التوجه الكوني العام خارج المسار الديني والايماني الذي تعرفه نسبة كبيرة وغير غالبة من سكان الكرة الارضية، وفرض مسارات من التوجه الاجتماعي خارج القيم المتوارثة عموما وفي الاقل على مستوى الديانات الابراهيمية، مثل القوانين التي تحكم الاسرة الدولية والبلدان المستقلة عن الدين التقليدي، بشأن التعامل الاجتماعي والاخلاقي والاسري.
انتشار اللادينية في الاوساط المعروفة التي توارثت قيم دياناتنا بشكل تقليدي، بسبب من طغيان الخط المنافس للخطاب الديني وبسبب ضعف ايصال رسالتنا القيمية الاصيلة بخطاب معاصر، وتعامل ذكي مع المعلوماتية؛ الى جانب مسؤوليتنا في غياب الحس الصافي المجرد للتطلع الروحي والتصوفي عموديا في التعبد للخالق، وافقيا في تمجيد الخالق على مستوى الجماعة وعلى مستوى التعامل الاجتماعي الشفاف.
كما ان ظهور تصرفات بشرية سيئة واخرى مسيسة لمصالح توسعية مادية او تسلطية، ولدت ردود افعال تجاه الدين. ولعل الاحتراب القائم باسم الله والدين، عبر التاريخ، هو ما توجهه او تفيد منه بنحو غير مباشر آلة العولمة. اتساع القبول للجوانب اللادينية وحتى الالحادية، طالما لا تتجاوز الخطوط الحمر للحد الادنى من أعراف الاسرة الدولية.
واذا كان الالحاد بحد ذاته عقيدة، في اعلان عدم الاعتراف بالذات الالهية، وبالتالي له اتباع من "المتعصبين"، كما يوجد عدد من المتعصبين خارج الاديان الابراهيمية يتخذون الارهاب وسيلة للدفاع عن خصوصيتهم؛ وهذا بجملته يهدد السلام في مناطق مختلفة في العالم.
الا ان ما نعانيه ايضا من ضعف الخطاب الديني المفترض ان يكون باتجاه تمجيد الخالق، والمحبة والتسامح والعيش المشترك، لا بل تمخض هذا الخطاب عن نتائج عكسية.
إزاء كل ما تقدم، يأتيني خطاب منافس من الجهات اللادينية والغنوصية على حد الخصوص،فيقدم الغنوصيون تحديدا طرحهم كالاتي:
نحن كغنوصيين، لسنا متأكدين من ناحيتنا بشان معرفة الحق. كما لم نصل، حاليا، الى ما وصل اليه الاخرون بهذه الحقيقة او تلك، ولكننا نحترم المسار الذي اتخذوه ليصلوا الى القناعة بشأن الحق، مما لم نصل اليه بعد. على اننا نحترم اختلاف الغير، ونحترم حريتهم بقدر عدم تعارضها مع حريتنا، ونحترم قناعاتهم، التي ربما ستصل يوما الى ما يجمعنا بقناعات هذه الجماعة او تلك. ونسعى الى العمل بما نجتمع حوله، بشأن المسار الى الازدهار والتعاون والسلام والاعنف.
إلا ان ما يحيرنا ونريد له جوابا هو هذا:
اذا كان ثمة مذاهب واديان تعلن الايمان بحقيقة الهية، يومنون بحقيقة الله الواحد الاحد، كيف يا ترى، نلاحظ ان اصحاب هذه المذاهب، والطوائف التي بداخلها، لا يتحابون لا بل يتشاحنون ويتناحرون ويثيرون الحروب الاهلية والحقد المتأصل، وكلهم يدعون الايمان بالله عينه.
سقت هذه المقدمة لأبين بأن هذا الواقع يشهد، في الغالب، غياب الروح عن الدين في أيامنا، على حساب بقاء الجانب الاداري، والسطحية في الايمان وضحالته، ومسببات الاضطهادات والاضطهادات المضادة، كل هذا الواقع الذي يؤدي بالمرء، بما يتهيأ له ان الكنائس والاديرة، ومزارات دينية مختلفة المذاهب، يمكن ان تكون مجرد مادة  لزيارات دينية موسمية لا تخلو من الشعوذة، فتكون من ثمة سلعة تستغل سياحيا، وكلما زادت الدعاية الاعلانية بشأنها كلما توهم القائمون عليها، وادرايو الديانة بانهم يعيشون الازدهار الايماني وانتعاشه.
لقد عشت بالذاكرة، زيارات لخرائب واثار قديمة، في مناطق من الموصل، باتت في عرف التراث التاريخي تحت وصاية الدولة، واذا كان ثمة زيارات دينية قائمة هنا وهناك، ولم تزل مأهولة بالحياة، فالزيارة اليها، موسميا ما هي الا لشحذ الروح وانعاش الذاكرة، وانطلاقة نحو مسيرة ايمانية اكثر اشراقا، الا ان هذه الزيارة تبقى منفصلة، عن نزوع الانسان الشخصي والجماعي في اي محيط كان، أن يجد المساحة المناسبة له، من غرفة لتنسك وصلاة منفردة الى صالة لتسبيح جماعي، حيثما وجدت جماعة تشترك في هذا التطلع الايماني او ذاك، مع احترام التطلعات الايمانية الاخرى، والعمل على المشترك في الازدهار الاجتماعي والاقتصادي.

                               

س ١٤ الگاردينيا - لك مقالة مهمة عن توحيد الاعياد المسيحية ، تبدأُها بالقول " اسوة حسنة بالاوكرانيين الكاثوليك لتكن صيحة عيدية وحدوية مدوية مع اخوتنا الارثوذكس " والمفارقة بين عيد الميليد وعيد الدنح ؟ كيف تشرحون وجهة نظركم ؟
كما هو معروف فان عيد القيامة والاعياد المرتبطة به اعياد متغيرة التواريخ حيث يرتبط موعد عيد القيامة بموعد عيد الفصح اليهودي؛ وحيث أن الأشهر العبرية هي أشهر قمرية فهي متحركة بالنسبة للتقويم الغريغوري المعمول به فيتحرك عيد القيامة بين يومي 22 آذار- مارس و25 نيسان- ابريل لدى الكنائس الغربية التي تعتمد التقويم الغريغوري، بينما يتحرك التاريخ بين 4 نيسان-أبريل و8 ايار- مايو لدى الكنائس الشرقية التي تعتمد التقويم اليولياني.
ويتبين ان كنائسنا التي عادت الى احضان الشركة الكنسية مع كرسي بطرس هامة الرسل، اختارت ان تحتفل مع روما بالفصح الغربي الغريغوري. مما جعلها على الارض الواحدة وازاء ابناء عمومة واشقاء في الوطن الواحد تحتفل بتوقيت متباين بالفصح والصلب والقيامة. فكانت الصيحة بشأن الاتفاق على تاريخ مشترك للعيد.
وقد لاقت هذه الصيحة اصداء طيبة في شرائح من المسيحيين على مختلف طوائفهم، وعلق عنها بمقالات بارزة، من قبل كتاب معروفين، وتداولتها المواقع باهتمام. ما يبعث اليوم الى الارتياح هي قيام بطريرك أخذ على عاتقه، ان يحسم هذا الموضوع حسما نهائيا لجهة توحيد العيد الكلدان وسائر المسيحيين في البلاد.
أعجبتني معرفتك للعبارة التي ذكرتها في السؤال، عن المفارقة بين عيد الميليد (بالفصحى الميلاد) وعيد الدنح، ينزل الثلج كالرمح. ويتم التفاؤل عندما ينزل الثلج في صبيح عيد الظهور أي الدنح، تناغما مع القول المالوف.

   

 س ١٥ الگاردينيا - كيف تروي لنا سياحياً ودينياً زيارة قداستكم للأرض المقدسة والمسجد الاقصى وقبة الصخرة ؟
لا أخفيك يا سيدتي أني أتحسس من مفردة سياحة دينية اذا تعلقت بالأماكن المقدسة، وفي اضعف الايمان يمكننا ان نسميها سياحة ثقافية، لمن يأتون دونما وازع روحي ووجداني وينشدون الافادة من التراث البشري في مجال الارث الفكري والفني والثقافي. فالذهاب الى الاراضي المقدسة المتصلة بأي ارث ديني، هي زيارة مقدسة وحج روحي، خصوصا اذا كانت بصفاء نية وشفافية وبعيدا عن المتاجرة.
لقد انفتحت اعيني لدى زيارة هذه الاراضي المقدسة الى حقائق، لم تكن بهذا الوضوح عندي من قبل وهذه جملة نقاط:
الزيارة هي امنية عزيزة ترافق المؤمن، ليحققها حال ما تحين له الفرصة، ولا يتركها على الهامش وعلى وفق الظروف، كما فعلت، بينما يفكر بنحو مباشر في زيارة أي عاصمة دولية. وأذعن اني كنت كذلك في الشعور، وليس من الناحية الزمنية، إذ كان عدم حصولي على الاوراق اللازمة لهذه الزيارة، عائقا لتحققها. لكني بعدها لم اتعجل التفكير في القيام بهذه الزيارة. فيما ادعو الان كل من يريد ان ينهل من منابع هذه الارض لانطلاقة جديدة في حياته الروحية، ان يضع هذا الحج المقدس ضمن اولوياته.
لقد اكتشفت ان الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي متداخلين، متعاملين على الصعد التجارية الاقتصادية والزيارة الدينية والثقافية. فيما كنت احسب ان ثمة حدودا فيما بينهم لا يخترقها احد، مما القى بظلاله على حرمان كل بلدان المنطقة من التفاعل الوجداني من هذه منابع الايمان التي هي قبل كل شيء ملك للبشرية.
السؤال الذي طرحته على النائب البطريركي الاسقف وليم شمالي، حول هذا الموضوع أجابني عنه بالقول: ان الصراع مذهبي طائفي ديني قبل ان يكون صراعا سياسيا. وهذا لا يبرر ساحة أي من الطرفين. وهنا ايضا، لو كانت الاجندة السياسية لكلا الجهتين، ذات سمة "مدنية" غير مذهبية، لئلا أقول "علمانية"، لكان التقارب نحو الحل اسهل بكثير.
سعيت الى تقريب معرفة العبرية مع الارامية التي اجيد استعدادا للزيارة، لكني، لدى الزيارة، وجدتني اتابع ذلك ليس مع البشر، بل فقط على أسماء الشوارع، ومع القطع الاعلانية، العبرية  العربية  في مناطق والعبرية الانكليزية في اماكن بحسب الاتجاه الاصولي لهذا الحي او ذاك. ولم يكن ثمة من الجانب اليهودي من يبادر بالتواصل مع مجموعتنا، اما الجانب العربي، فكان ذا دالة للتواصل مع المجموعة. ولعل هذا كان بسبب توجه الدليلة والسائق العربي.
ذكروا لي ان الدالة في الجهتين الفلسطينية والاسرائيلية هي غالبة بين المسلمين والمسيحيين. ولئن كنت متحررا من هذا الجانب واعتبر اليهود اخوتنا البكر في الايمان، على حد وصف البابا يوحنا بولس الثاني، الا اني للأسف لم يتسنى لي الاختلاط بالجانب اليهودي.
من خلال ما كنت اتابعه على التلفاز كان الخطاب الاسرائيلي اكثر عقلانية وقبولا للطرح بديمقراطية، مقابل الخطاب الفلسطيني، فكان يتميز بالاستفزاز والقوة والتعنيف والدفاع عن الذات، ولعل وراء ذلك اسباب وضغوط.
في الظاهر كان يتهيأ للزائر ان الالة الادارية للدولة العبرية، هي فاعلة وناجحة، وتعمل حثيثا، برغم تحديات المواجهة وعدم استقرار المنطقة. ولا بد وان المرء يحتاج الى المزيد من الوقت لمعرفة الامور على حقيقتها. على كل حال، اعجبني الجانب العمراني والنظامي في البلاد، كواحدة من اجمل البلدان المعاصرة، مع نكهة شرقية مقاربة الى لبنان والدول المغاربية، مع مظاهر متواضعة في جانب التواجد الفلسطيني، الذي يمتاز ايضا بالضيافة والترحاب، الا في بعض الاستثناءات: عندما كنا نصلي المرحلة السادسة لآلام المسيح وهي في سوق ضيق، نزل من الزقاق شاقا طريقة في وسط المجموعة الزائرة سيد بعمر متقدم، فصاح بصوت مؤذن على مسمع مجموعة الكنديين: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفء أحد. وكأن هذه هي الطريقة الوحيدة للـ "حوار" وتأشير مواقع الاختلاف.
استمتعت في زيارة الاسواق الفلسطينية، حيث كنت اتكلم لهجتي العراقية المتشابكة مع الموصلية والشامية، وكأني بين أهلي. وجلست في المطاعم لوحدي، وكأني في شارع السعدون، بدون أن يقول لي العامل من اين أنا قادم، ولا ان يتودد إلي متكسبًا. وهذا ما تميز عندي تجاه بعض البلدان العربية السبعة التي زرتها.
وفي تلك الازقة، في يوم حر بعد انتهاء البرنامج، قادتني الخطى وقطع الاعلان، الى بوابة الجامع الاقصى، وكان أمام البوابة حاجز اسرائيلي، قوامه جنديين واقفين أمام طاولة ويتأبطان البندقية، سمعتهما وهما يقولان لغربي سأل ان كان بمكانه دخول الجامع قالوا له بالانكليزية انها للمسلمين. وعندما وصلت اليهم، ولم اكن في تلك الجولة الحرة أحمل على ملابسي علامة قسيس، فسلمت بالعربية، ووجهي نحو الجامع، قائلا اريد الدخول. قالوا: هل انت مسلم، قلت لا. فسألني الجندي، ما انت اذن: قلت انا مسيحي، سألني وكانه غير مصدق: وما اسمك، قلت اسمي نويل. احتار في الاجابة امام اصراري الهادئ، فنادى الشيخ المسؤول في الجانب الثاني من البوابة: ليرفع قضيتي إليه، بمثابة من يحيلني الى من بيده الامر والنهي.
بادرت الشيخ بالتحية: مرحبا عمي الشيخ، كيف الحال؟ انا من العراق، تعرف بغداد؟ قال: اهلا وسهلا ابني، تريد ان تزور، قلت: نعم عمي الشيخ، وانا مستمتع بمن يدعوني أخيرا بكلمة ابني... قال تفضل، ثم التفت: بخيلاء الى الحارسين الاسرائيليين، ليس لدينا فرق في البلاد العربية بين مسلم ومسيحي.
دخلت باحة الجامع وفي عدستي شغف لتصوير كل خطوة. ودخلت تحت قبة الصخرة وامضيت هناك جالسا في تأمل واسترداد الانفاس، أمام منظر مؤثر للمصلين من جانب والمصليات من الجانب الاخر. ووقفت في الطابور للتبرك بحجارة لم أجرؤ على السؤال عن مصدرها الا اني عددتها باحترام مصدر تكريم. ونزلت لزيارة الموقع القديم للمسجد، قبل ان اغادر الجامع الاقصى من الباب المفضي إلى الاسواق التراثية الفلسطينية، لأتسربل جلباب العودة باشتياق الى الزقاق العربي المعفر بنكهة الشاي وعطر الزمن.

   
 
س ١٦ الگاردينيا - ما قصة لقائكم مع الرئيس اللبناني أميل لحود حين قلت يوم اشتكى أمامنا الرئيس اللبناني "إعلامنا في حوزة الممولين... " ؟
لا بد من الاشارة ابتداء، الى حالة التلقائية في زيارة القصر. فقد كان زميلنا الأب طوني يقود السيارة، وهو يهاتف خلويا، أعضاء الوفد اللاحقين به، مؤشرا لهم إلى حيث وصل، ومتى يستدير الساحة، ومتى يدخل الى أرجاء القصر الجمهوري. كانت الاسماء، لدى الحرس، ثم عند باب القاعة، تسلم موظفون مفاتيح السيارات، ليأخذوها إلى المرآب، وسوف يعيدونها عند انتهاء المقابلة. فدخل الوفد، مباشرة الى الصالة ثم إلى القاعة، بلا تفتيش، ولا مدخل الكتروني، ولا مسافة زمنية لتضييع بوصلة مسار الرئيس وبرنامجه. في القاعة رحب بنا المستشار الاعلامي، الأستاذ رفيق شلالة، وما هي إلا ربع ساعة، حتى دخل الرئيس وجلس، وسمع المتحدثين ثم تحدث، ليكشف معاناة لبنانية من نمط غير مألوف، في المنطقة العربية، حيث الاعلام هادف موجه. بل أشار إلى نوع من الفلتان في التصريحات، وما يتم تداوله من اخبار من زوايا متضادة. وخلص الى الملاحظة عن صعوبة الربط بين الإعلام والتمويل، وأن الكثير من الوسائل الاعلامية، باتت خاضعة تحت نفوذ مموليها.
كان ذلك اللقاء بمناسبة انطلاق اقليم الشرق الاوسط للصحافة الكاثوليكية، وقد انتخبت فيه نائبا للرئيس. حينها وقف أمين عام الاتحاد الأب طوني خضرا، ليلقي الضوء على الشعار المنعقد المؤتمر حوله "الاعلام المسيحي والقضايا العربية الملحة"، على أمل أن يكون الإعلام المسيحي مستقلا وإنموذجا للاعلام على الساحة العربية، متميزا بما سمي بالمناقبية الصحافية، واضعا الخبر وأهميته، حسب الأوليات الصحافية، بعيدا عن نفوذ خارجي، فيكون الاختيار، موضوعيا اختيار التأوين والساعة. فيما اشرت عندما اعطي لي الحديث، الى ما ينتظر من الإعلام العراقي في مرحلته الجديدة، أن يكون إعلاما يحترم التعددية والاختلاف، ويغتني بهما.
وما زال ما يحدث اليوم، على الساحة اللبنانية، يعكس الانفلات الاعلامي بين الفرقاء، وتراشق الاتهامات، واستمرار القنوات الاعلامية على نهج لترسيخ الهوة بين المختلفين، بعيدا عن أي لون من الحوار..
أجل إن انفلات التصريحات الإعلامية، وعدم خضوع المقالات لحد أدنى من الضوابط، في ظل ديمقراطية مزعومة، ليس مثلها لا في فرنسا ولا في أميركا، وسواهما من الدول التي ترسخت فيها الديمقراطية، لكنها تخضع الصحافة ومختلف وسائل الإعلام، لخط أحمر لا يتم تجاوزه..
أجل عندما يشكو شخص يتبوأ أعلى منصب في الدولة اللبنانية، أن الصحافة في البلاد التي يحكمها هي صحافة واقعة في "حوزة" الممولين، فكان منذئذ قد دق ناقوس الخطر، وليس من مجيب.

             

س ١٧ الگاردينيا - جهودكم مباركة في التخفيف عن معاناة العراقيين بلقاءاتكم مع وزير الهجرة الكندي السيد (جيسون كيني) لتذليل صعاب الهجرة ؟ كيف كانت النتائج ؟ وكيف ترى وضع المسيحين في العراق ؟
التقيته مرتين في مناسبتين عامتين، في اعقاب تداولك معي بشأن المقابلة، والاشارة الى اسمه. تلقاني وهو يتلفظ بكلمة أبونا، يرحب بنا وهو يحاكي معانقتنا المشرقية. كان جيسون كيني في السابق وزير هجرة والمواطنة في الحكومة الكندية الفيدرالية، ثم غادر مؤخرا تلك الوزارة ليكون وزيرا للخدمة الوظيفية والتطور الاجتماعي ووزيرا للتعددية الثقافية.
في حقيبته السابقة، كان الوجه المحبب لتحسيس الدولة الكندية بالانفتاح الى الشعوب التي تعاني القهر والحروب والاضطهادات، وكان من هذا المنطلق، يلتفت الى مدى تأقلم المهاجرين واللاجئين الذين استقدمتهم حكومته مع المجتمع الكندي. وفي حقيبته الوزارية الحالية، يبدو ممارسا بتخصص اكثر لدور رعاية التعددية الثقافية والاسهام الوظيفي والاجتماعي للقادمين الجدد ضمن عموم الكنديين.
ان اهتمامه الحماسي، في كلتا الوزارتين، تجاه معاناة العراقيين ومعهم الان السوريين وغيرهم، يثير التساؤل اذا كان هذا من سماته الاخلاقية والشخصية التي تربى عليها، فيغدو مجرد استثناء، في سلسلة الوزارات ذات الصلة، أم سيكون هو ذاته قد وضع اكثر من لبنة للسير في النهج عينه. وآمل الا يكون مروره في الوزراتين مجرد اسثناء أو صرعة خارج التيار. بانتظار ان نلمس ذلك، لم نجد، وزيرا للتربية يهتم بجالياتنا كاهتمامه، او وزيرا للتعليم العالي، من الوزارات ذات الصلة المباشرة مع التعددية الثقافية للمهاجرين واللاجئين، من كان له، مع ممثلي الجاليات، مثل هذا الاهتمام. ولكن ما قد يفسر قربها من جالياتنا في كالكري، هو انه بخلاف عدد آخر من الوزراء، يرتبط تمثيله البرلماني بمقاطعة البرتا. او في الاقل هذا ما افهمه في السياسة الوزارية الكندية، واقر اني مبتدئ فيها.
يحب التواصل مع العراق، وأخبرنا مفتخرا انه زار العراق مؤخرا، كأول وزير كندي يزور العراق بعد ثلاثين عاما. وبرغم حسن النية هذه، الا ان التواصل العالمي الرسمي مع العراق، سيعد شرعنة وتشجيعا لبقاء حكومة طائفية محكومة بالفساد والمرجعية التبعية الخارجية، كل هذا لا احسبه للاسف يوحي بأي افق قريب تخف فيه معاناة العراقيين.


س ١٨ الگاردينيا - وظف سياسيو هذا الزمان الردئ دين الله لزرع الفتن والطائفية والتقاتل الغبي ، كيف تنصح المخدوعين بتلك اللعبة القذرة للنجاة بأنفسهم والابقاء على قدسية وشفافية الاديان ؟
أستطرد هنا ما انتهيت اليه في جوابي السابق، عن وضع العراق. فما لم يصار الى تنافس على السلطة بمشاريع سياسية لا تحمل خلفيات طائفية، بدستور منصف يحميه جيش مستقل وشرطة علمانية تخدم الامن حيث يسود القانون وليس المحسوبية، فسيبقى دين الله مختطفا ومستغلا لاغراض طائفية تزرق الفتن والاقتتال بين ابناء العشيرة الواحدة. واذا نأى رجال الدين بأنفسهم عن العلمية السياسية والتحزب الى هذا الجانب او ذاك، حينئذ سيكونون رجال دين بحق، وستحفظ للاديان قدسيتها وشفافيتها. وإلا فلن تكون الاديان إلا مجرد ايديولوجيات تحظن لاغراض سلطوية ستراتيجية.
ولدي رؤية متواضعة حول هذا الموضوع، وهي وجهة نظر شخصية، منفتحة الى الاراء الاخرى، واتفاعل مع ما يشكل اضافة لمعلوماتي وتصحيحا لها.
ما نشهده هو فترة مخاض ربما ستدوم طويلا اكثر مما نتوقع. إنه مخاض تحرير الديانة من العابثين بها، ممن يستغلونها ويتاجرون بها لأغراض سياسة ولمصالح مادية. ولتشابك الموضوع، لم يحدث هذا الانعتاق باتباع مسار المنطق في الحوار والاقناع على مستويات متنوعة.
من جهة أخرى بات من الواضح لنسبة عالية من العقلاء، ان اقصاء الاخر، دينيا ومذهبيا وثقافيا، هو أمر مرفوض. ولكن لتعقيدات واشكالات في الخطاب، لا تصل الرسالة الى الغالبية الساحقة، كما وصلت الناس بوضوح رسالة متأخرة بأن هتلر أساء في حق الانسانية وفي حق توجهه الانساني وفي حق وطنه، وكما تصلهم الرسالة بأن المافيا، هي قوة من الشر، لا بد من التعامل معها بحنكة وحزم ومتابعة.
لقد تم الانتباه الى خطورة العامل الديني عندما يكون مفروضا بشكل أحادي، وعندما يراد له ان يكون موظفا لأغراض السياسة، ولكن التعامل مع هذه الخطورة شائك الى حد بعيد. فنجد مساعي باتجاهات متباينة تصب في اتجاه تعرية المفهوم العامل الديني المستغل للتفرقة والفتنة والحروب.
ومن المعتقد ان قوى عظمى ملتفة مع الولايات المتحدة الامريكية، لها اتفاق ضمني في هذا الاتجاه، ومن المؤسف له، كونها ترى ان المضي في هذه التعرية، لا بأس ان يجرف وراءه جموعا غفيرة من الضحايا الابرياء. لمجرد ان تكون هذه الضحايا بعيدة عن مصادر التخطيط.
ما يحدث بين سوريا ومصر، كمثلين بارزين، بدون تجاوز نماذج مماثلة أخرى في المنطقة، يمكن النظر اليه كوجهين لعملة واحدة. سوريا أصبحت بطريقة وبأخرى في موقع محاربة بؤر الطائفية وتسييس الدين والمحاربة باسمه وهذه البؤر تغذى من الخارج لاهداف مختلف فنراها تحارب هذه البؤر مجتمعة من كل صوب وحدب، تحاربها بمواردها ودماء شعبها.
الوجه الثاني للعملة، مصر الدولة الرائدة بين الدول العربية، تقدم الانموذج المقابل، بأن تلفظ من الداخل، وتحاشيا للمزيد من الضحايا، تلفظ بجموعها التيار التعصبي قبل استفحاله وتفشيه في الدستور والجيش، كما في ايران، وكما في العراق بحكمه المقدم من قبل المحتل الامريكي، على طبق من ذهب، كتابع لدول الجوار. وبات مصيره، كدولة تنهش فيها الاحزاب الدينية، مرتبطا، بإيران حتى سقوط رمز الدين السياسي. ونأمل ان يكون هذا قبل ان يصار الى تقسيم العراق، الى دويلات.
عندما سئل المفكر السوري الاصل المصري المولد، الاب هنري بولاد اليسوعي، عن التيار الديني المعلن ليحكم البلاد، قال: هذا محزن ولكنه وللاسف على ما سوف يستجلب من ضحايا وخسائر، ستكون من محاسنه ان يبين فشل التجربة في الحكم باسم الدين، وكأنها طريقة التحريض لتطفو على السطح فيسهل اجهاضها.
وهذا ما حدث عندما جاء الرفض من الداخل. وكان هذا ما حدث في العراق، بنسبة خجولة ومترددة، عندما فاز تيار لا يمثل احزاب دينية او طائفية. ولكن هذا الخيار الديمقراطي اجهض في مكانه. وتتوقع الدول ذات المصالح العظمى، ان يحدث التحول بشأن رفض الدين السياسي، مع بالمزيد من فرص إضعاف دول المنطقة، وبالمزيد من الضحايا من الداخل، بدون الحاجة الى تصدير الارهاب والفوضى خارجا. وكانت ابلغ رسالة في هذا الشأن صدرت عن الفتيات المتحمسات لفوز رئيس معتدل لايران بأن خلعن الحجاب احتفالا بهذا الفوز.
وما سبق ذكره ينطبق على المسيحية السياسية في مرحلة من التاريخ كما في الباستيل، فكان الدرس البليغ، وينطبق على اليهودية السياسية، كما يحاربها يهود تقدميون كثيرون. فإن التطبيق الحرفي لمعطيات رمزية او تاريخية جاءت في الكتب المقدسة للديانات، يحمل نفس الخطر في أي من الديانات. فالصراع الفلسطيني الاسرائيل سيبقى كما هو ان لم ينعتق الدين من تأثيراته، ولن تجد اسرائيل في التطبيق الحرفي لمعطيات رمزية في التوراة، سوى الرفض المتزايد وتضاؤل فرص السلام والاستقرار.
ان الاديان، اذا استخدم أي منها للسياسة، سيكون وسيلة لتقسيم الشعوب والعشائر والاسر. أما المحافظة على قدسيته وشفافيته، فأرها تتم بأن نحذو حذو عدد كبير من الدول التي لا يعتمد نشاطها السياسي على أحزاب طائفية. ان القوى العظمى رأت أن تنأى بنفسها عن حل الاشكال من الخارج بشكل المواجهة المباشرة،، فعمدت على تشجيع ذيولها في كل مكان، وبطرق متنوعة، لكيما يتنافسوا على مشاريع سياسية ذات مسحة طائفية، حتى يعي سواد الشعب ممن تدغدغ مشاعرهم الهالة الدينية، فيرفض هذا الواقع وينتفض ضده. ليتفكك الدين السياسي من الداخل.
وقد سمحت المعلوماتية، بتسريع هذا الرفض الداخلي، وذلك بأن طفت على السطح، شخصيات دينية مشعوذة وداعية الى الفتنة، وبما يثير ردود الافعال ضد الديانة المسيسة. كل هذا مع خدمة اغراض الدول ذات المصالح الاستراتيجية، بإضعاف هذه الدول لتكون في المستقبل تابعًا اكثر طواعية.

     

س ١٩ الگاردينيا - لك صورة اخذت اعجاب الجميع المصورين قبل غيرهم ، ما قصة هذه الصورة المعبرة ؟

                


اتصل بي الكاتب المعروف مارسيلو دي سينثا، طلبا لمقابلة، أكون فيها ضيف البرتا فيوز وهي المجلة الرئيسية في مقاطعة البرتا الكندية. وقال ان احدى رعايا الكنيسة الفرنسية، حدثته عني. فأجرى المقابلة في لقاء شخصي، ثم بالاتصال وبالاسئلة عبر الايميلات والهاتف، وعبر زيارة محتجبة لقداس اقمته للرعية العراقية الكلدانية. في المرحلة اللاحقة، يتصل الكاتب بمصور يتعامل مع المجلة، بعد ان يعطيه فكرة عن مضمون اللقاء وزبدته، فكانت الزبدة مختصرة بكلمة هالة. هالة الضوء من ذلك المشرق، وما جلبناه منه من طقوس وتراتيل وصلوات. فجاء المصور جيمس ماي وعارفا بأن مهمته هي اكثر من التقاط صورة، بل وصفها بكلمة صلب، وحرص ان يطلب بأن يكون الوقت اكثر من ساعة. فجلب جيمس في سيارة نصف حمولة، حقائب من الاجهزة والستاندات والبروجكترات. وكان مثل المايسترو يموسق اللقطات ذات اليمين وذات الشمال وفي كل مرة ابتسامة شكر وتشجيع وامتنان، تتخللها اسئلة تعبر عن الاهتمام وللمحافظة على مزاج زبونه وشحن صبره. خلاصة الحديث ان ما سماه عملية الصلب لاخذ الصور، استغرقت حوالي الساعتين، وسحب فيها عشرات اللقطات.  وكانت هذه اللقطة هي التي حازت على اختيار تحرير المجلة، اضافة الى لقطات اخرى ظهرت في موقعه، وفي موقع مارشيلو. ويبدو انهم من هذا الكم من الصور استطاعوا ان يخرجوا بصورة نالت قبولكم. الابداع فيها اختلطت فيه عوامل ذكاء العدسات المتطورة، والتعامل الخبير بهندسة الاضاءة، والانبهار بالجمالية التي اشاعتها جدارية مكان التصوير في الكنيسة، اضافة الى زخرفة الملابس الكهنوتي بأنامل الراهبة جيرمين، رئيسة دير الملاك رفائيل في غدراس لبنان. اذا جمعت كل هذه العناصر، لن تجدي شيئا لصاحب الصورة...
ولمفارقة المقارنة، ان صورة التناول الافقية التي اخترتموها لغلاف المقابلة هذه، سحبتها المصورة جودي في قداس عرس، من خلال زوم متطور لكامرتها، وهي جالسة خلال القدس في ركن بعيد. فاختار العرسان تشكيلة من الصور التي اعجبها ان تسحبها.  

س ٢٠ الگاردينيا - كلمة ليست الاخيرة كيف يأخذك شكل الحنين للعراق ؟ وماذا تتمنى أن تقدم للوطن وأنت بهذا المنصب الواعظ ؟
التقيت رجال اعمال مسيحيين يتنقلون بين بغداد وكندا، ويوحي تنقلهم التلقائي وتعليقاتهم بأنهم لا يجدون انفسهم مواطنين من الدرجة الثانية عندما يدخلون بوابة المطار، وان هناك حدودا مقبولة من تطبيق القانون، فاغبطهم على ذلك. مع اني اعد ذلك واجهة ايرانية، أمام ما موجود من مسيحيين على ارض ايران ومستعمرتها الطائفية المجاورة.
في لقاء مع تلفزيون آشور عن المشاعر باتجاه احد الكهنة المختطفين، عام 2006، قلت ان ذلك يتم تحت ظروف الاحتلال، فقص الرقيب المقطع عن الاحتلال ونشر الباقي. واعتقد انه باستثناء صوت الاب لوسيان جميل كصوت ضد الاحتلال وما بعد الخروج العسكري الامريكي، كصوت من الاكليروس جرئ، يؤشر مناطق الخلل، حيثما كانت، باستثناء هذا الصوت الثمين، والذي يتقدم به العمر، يتم التعامل مع الحالة كأمر واقع، وتحصيل حاصل. من جانبي، سعيت الى البحث عن موقف الكنيسة الفرنسية في ظل الاحتلال النازي، فكان عموما موقفا حياديا، يتعامل بحكمة وروية، وبدون اصطفاف محدد ما. وأكون ممتنا لمن يغنيني بالمزيد. على ان الكنيسة في ظل الاتحاد السوفيتي، وخصوصا في جورجيا وارمينيا، فكانت اكثر افصاحا لجهة خضوع الشعب الى حالة القهر. من المؤسف أنه ليس لدينا في العراق، كتلة ضاغطة تناهض بفاعلية وتعبئة جماهيرية الحكم الطائفي والمذهبي، وتدعو الى حيادية العسكر سياسيًا لحماية دستور متوازن، واقتصار العمل الحزبي باتجاه السلطة، على المشاريع السياسية العامة المنفرزة عن المجتمع المدني الذي يحترم الدين ويعطيه استقلاليته وحرمته، ويعطي الناس المجال للقيام بطقوسهم وشعائرهم، قدر عدم تعارضها مع عجلة الانتاج والتقدم الاقتصادي في بناء البلاد.
وفي كل ما يحدث من تجاوزات وفلتان امني تتوهم الحكومات المحلية لما بعد الغزو الامريكي، بانها تحارب الارهاب، بينما يعد الكثيرون أن قيامها، أو أن إقامتها على اساس طائفي هو سبب رئيس للارهاب. مما جعلني اكتب يوما، في اعقاب اختطاف كاهنين، مقالا بعنوان: ان السلطات المحلية تطالب بفدية عالية...
هذه هي الاشكال التي يتخذها حنيني الى العراق.  وما اود تقديمه للوطن، هو هذا الصوت في المحافل، حيثما يتوفر مجال، والتأكيد في الاتجاه عينه، ان البلاد لن يهدأ لها بال ما لم يثبّت ويؤشر عاليا فشل الحكم الطائفي والمذهبي، والانتباه إلى من يعتلون المنابر، بألا يكونوا وعاظ سلاطين أو وعاظ حاقدين، وان تحدد مهمتهم بمهمة الداعية الى المحبة والسلم والتفاهم والتسامح، بحكمة التمييز في الكتب والمراجع الدينية، بين النصوص التاريخية من بنات مرحلة ما، وبين نصوص الدعوى الى الصلاة والرحمة والزكاة والتوبة، وصلة الرحم وما اكثرها من مواضيع تهيم الالباب.
منصب الواعظ، موقف ورسالة، أكثر من كلام وخطبة.
 إني اتطلع الى ان يكون هذا المنصب بما يجعل الموقف والرسالة، تكون في المقدمة قبل الحاجة ان استجدت الى الموعظة، أي بانسجام مع الجذور وتناغم مع الحالة المعاصرة. من هنا سرني ان اضع في نهاية هذا اللقاء، مفهومي عن خيار الكهنوت، واكثر منه، مفهومي عن ابرز مراسيم ايمانية وطقوسية، أختير من اجلها الكاهن، وهي المراسيم الطقوسية في القداس، لتقديم ما نسميه ذبيحة القربان المقدس، وما يطلق عليه في طقس القداس الماروني، الذبيحة غير الدموية.
خيار الكهنوت يأتي من الكنيسة التي تختار وتدعو من ترى فيهم الاستعداد لتلبية النداء والاحتياج، وتكون الدعوة الرسمية لمن هم علمانيين مؤمنين اي من المجتمع المدني للانخراط في السلك الكهنوتي، بمثابة التكريم، وعند الشخص المدعو تكون الدعوة بمثابة النعمة والبركة الربانية التي يتقبلها بتواضع وامتنان على عطية الباري اكثر من اي استحقاق من قبل المرء.
فكانت الاستجابة فيما يخصني مستوحاة، من إشارة تلقيتها من مطران زاخو، بلدة مسقط رأسي، مار بطرس الهربولي، الذي عندما فاتحني في الموضوع قلت له بأني اعمل ايضا في مجال المقالة الدينية، ليهزني بالقول: وما هي المقالة أمام تقديم قربان القداس!
عشت هذه الكلمة، وقد ترعرت في اعماقي، ومع الزمن قدمت للجمهور المحلي هنا وهناك نبذة عن اصولنا وليتورجيتنا، بحيث ان كل ما تعمقت فيه وما قدمته زرع فيّ مفهوما عن كهنوتي متجذرًا في حضارة بين النهرين. وهذا هو الطرح لهذا المفهوم:
زرت في الارض المقدسة متحفا لمخطوطات آل قمران، مع حظر التصوير، فوقعت على قطعة مخطوطة انكببت على كتابتها بدل التصوير، وبت أتحدث عن مضمونها معلقا في مناسبات عدة وهذا هو التعليق:
جاء في الرقعة، كاشارة اعتزاز من اسرائيل لمناسبة اكتشاف لفائف عن سفر اشعيا في قمران، بأن الشعب العبري الذي تمخضت عن مسيرته كتابة التوراة، وانه اعطى بدوره للبشرية، ما تمخض عن توراتهم، من انجيل للمسيحيين وقرآن للمسلمين. تعجبت من سطحية هذا الطرح، ورأيت فيه طرحـًا مبسّـطـًا يوحي بالتشتت، اضافة الى كونه تكريس لانقسام العالم الى اقطاب متناثرة منها اقطاب الديانات التي اشار إليها تعليق المتحف.
لكني أرى الموضوع من زاوية أخرى. ان المحور الرئيس الذي يسكنني، هو اني سليل تلك الارض الرافدينية، التي غدت مهدا للحضارات، وانفتحت من فوق تلك الارض، روح الانسانية الاولى في التطلع نحو المطلق، فيما رأه انسان العصور الاولى من قوى خارقة، كان يهابها لحد التورع لها،  فاستلهم فكرة القربان من صيده، ليصعد دخانه الى فوق على أمل ان يرضى عنه العظيم المطلق المتمثل لديه في هذا الاله او ذلك.
وجاء ابراهيم أبو المؤمنين على خلفية من هذه النظرة الميثوليجية في القرابين، ليخرج من اعماقه النداء ان افضل ما يقربه، هو ابنه، لله الواحد الاحد الذي انكشف له، ليصير هو خليلا لذلك الاله، منسجما مع ارادته، يثق فيه بشكل مطلق، ويثق بالخلود لابنه معه وفيه. وتطورت فكرة القربان، الى دم الكبش، وتطور رمز دم الختان الى تجاوب مع هذا التقديم والتكريس، من كل هذا تنحدر بانسجام رمزية دم الحمل الفصحي، في العهد القديم، كرمز للعبور من الظلمة الى النور. ونجد كاتب العهد القديم، المسبي مع شعبه العبراني، على يد الملك الاشوري نبوخذنصر، امام تراث ميثولوجي زاخر بالرموز، يقرأه على ضوء الوحي، فيخط الكاتب الموحى، بإلهام الله، قراءة توحيديه لتلك الرموز، من شجرة المعرفة، الى ملحمة جلجامش، مرورا بسفر دانيال، وسفر يونان- يونس النبي في نينوى.
ويتهيأ شعب العهد الجديد، الى ان ينظر الى الذبائح الدموية رؤيا رمزية هي الاخرى، فيستلهم من قول المزمور الخمسين "ان الذبيحة ليست ما يسر الله، وبمحرقة لا يرضى. ذبائح الله هي روح منكسرة".
 واني اليوم اذ اقدم ذبيحة القربان في القداس، بمباركة الخبز ومزيج الكأس من ثمر الكرمة، في تسليم متداول متسلسل من عهد الرسل الى قسس اليوم، لتجديد ذكرى تضحية المسيح من اجل مبادئ المحبة الانسانية المطلقة. أقرب القربان وخلفي في جدارية كنيستي، رموز بالنحت البارز، لتسري في عروقي،  دماء ابن بلاد ما بين النهرين، الذي أوحى اجداده للبشرية بتطلعاتها الروحية من شرائح بارزة للأديان، أوحى لها عبر الكتب المقدسة، مفهوم القربان على مختلف "رمزياته" لدى كل من اتباع تلك الاديان. وكأني وأنا ارفع الخبز وعصارة الكرمة"، ارتفع مع البشرية كلها قربانا يتطلع الى المحبة والصفح والتعايش والتسامي نحو المطلق الذي يجمعنا التطلع اليه، كل بطريقه. هذا الشعور هو جزء من الامتنان عن التشريف الذي اجدني فيه على غير استحقاق مني بل هو منـّة من ذلك المطلق المحب للبشرية. فيكون هذا الارتقاء الى المذبح، كحصيلة مسيرة فكرية وروحية ولقاءات انسانية على شتى الصعد، بل ليكون الارتقاء تلك الامنية الغالية التي ما من بعدها امنية لتلتقي مع سر العناية الربانية.

                        
 
                               الدالاي لاما

وفي هذا المنوال افكر في واحد من الاقطاب الكبرى لمذهب من غير دياناتنا الابراهيمية، الدالاي لاما، لا اشك في الكاريسما الذي يحمله هذا الثائر والرجل المحبوب، في الغور بأعماق الذات. وقد وجدنا الهالة التي تحيط بهذا الكاريسما، في اللقاء الجماهيري الذي ضمني امامه مع 18 ألف مشاهد ومشاهدة، على قاعة الساتل دوم بمدينة كالكري. على ان الدالاي لاما لا يجد في هذا الغور في الاعماق، أي ارتباط  بالمطلق. وعليه فإنها لنعمة كبيرة ان نكون ضمن اتباع أبي المؤمنين ابراهيم الخليل، ضمن انهر معتقداتهم المذهبية التوحيدية، لنحمل الى العالم البوذي وغيره من عوالم المعتقدات، الى جانب اولئك المسكونين في الاستماع الى اعماق الضمير لما يمليه عليهم من تطلع الى السعادة والخير والعدالة والسلام، وتحاشي الشر، نحمل رسالة تواصلنا الايماني والبشري المشترك مع الواحد الاحد.

   


أما كلمتي الاخيرة فأقول....في اول لقاء جمعنا بالأب نوئيل وكنا يومها جمع غفير،أردت ان ألفت نظره فالتجأت لحيلة بريئة من خلال معرفتي بالإنجيل المقدس وخاطبته بالآرامية ( إيلي لما شبقتني؟ ) كلمة السيد المسيح لحظة صلبه مخاطباً الرب قائلا " إلهي لِمَ تركتني ؟" فانتبه بكل فطنة وقال: هل تتحدثين الآرامية ؟ ، قلتُ : لا صدقني ... ومن يومها أصبحت صديقة العائلة ، لا أنا تركتهم ولا هم تركوني ... في آمان الله لضيفنا ولكم

     

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

882 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع