فنجان قهوة مع الشاعر السوري لؤي طه
إيمان البستاني
ضيفنا يا سادة ياكرام .....شاعر من بلاد الشام , له حضور شهريار حين يلقي القصيدة , يسكن قصر الشعر , بيده صولجان الكلمات المنسابة سحراً , يستفتح صباحاته بعشق جديد يخاطب به المرأة , تظن كل النساء أذا سمعته بأنها هي شهرزاد , ولكنه ينفض يديه عن هذه التهمة ليقول
وإن كان القلب يحتاج لأنثى
ولا يحتاج لكثيرٍ من النساء
و تجده أخر النهار يتخلى عن صولجانه و يغدو حزيناً كطفل ليشدو ترانيم لهفة لوجه أمهِ ولقياها وأمنية ان يغفو ثانية بين كفيها ويقف وراء قضبان الغربة ليناجي وطناً أحرقوا حتى ياسيمنه , أه يا دمشق... ماذا فعلوا بكِ ؟
كان الرسم حلمه والحقوق اختصاصه والشعر موهبته , نشأ على عذوبة الفرات مما جعله دمشقي المزاج بغدادي الهوى, سَحره الحرف العربي فوظفه شعراً يغازل الحرف الساكن في لوحة فكأنه بهذا خلّد عشقاً قبل ان تذوي كل الاوراق
أنه الشاعر السوري الاستاذ لؤي طه , الذي يسكن بعيداً عن شامه...
وبالرغم من كل ما حدث بحقول الياسمين بالأمس وما قبل الأمس
لم ينس أن يقول للحياة صباح الخير لئلاَّ يكسر بخاطر الشمس
ولم ينس شهيته للقهوة لئلاَّ تعتاد الروح على طقوس اليأس
نرحب بك سيدي الفاضل وتتشرف مجلة الگاردينيا الثقافية باستضافتك في فقرة فنجان قهوة اهلاً وسهلاً..
س ١ - حضرتك من دير الزور خاصرة سورية المتاكأة على العراق بغنج و دلال شامي والاثنان يرتويان من عذوبة الفرات , كيف كانت النشأة ؟
ولدت في شهر شباط عندما كانت قطط وطني تصرخ وتموء، البعض يموء في غنج والبعض يموء من وجع أنا من مواليد 1970
أنتمي لعائلة بسيطة في عيون من يرى بأن المال هو من يحدد المستوى الاجتماعي؛ لكنها عميقة من فرط الحنان والدلال وقد منحتني تلك العائلة الشبع الروحي، والامتلاء بماء القناعة بأن الحياة هي محطتنا الأولى وبأن الله يهب الأشياء بحكمة بالغة التعقيد لا تفهمها خلايا العقل البشري. عائلة مؤلفة من سبع بنات وأخ واحد هو " قصي " هو لي بمثابة الأب الروحي بعد وفاة والدي، والصديق الذي لا يعرف حتى كيف تتكّون ملامح الخيانة ولم يتهجّى أبجدية التخلي. حنيني لهم مقطوعة موسيقية لا تتوقف ولا تسقط من أوراق ذاكرتي مهما كان خريف الغياب موجعاً وأمي حاضرة كسنديانة لا يكسر عشقها غربة، ولا امرأة آخرى مهما كانت تلك الأخرى ومهما كانت مكانتها لن تزاحم أمي على تلك المكانة المقدسة في محراب قلبي. مات والدي ولم يترك لنا من تركة عينية لكنه ترك لي ولآخوتي ميراثاً من الكبرياء والنفس العزيزة دعائي له صلاة دائمة لا ترتبط بالفروض الخمسة. من خلال تلك النشأة ورثت طباع أهلي فورثت القصيدة طبعي. "علمتني ظروفي أن أشكر الحزن والوجع، فمن يستثمر الجرح والحزن في ذكاء يكون موهوباً"
س ٢ - كان حلمك الرسم لماذا لم تحققه , وأخترت الحقوق دراسة وبقى الشعر موهبة فرض سطوته على الجميع - اين انت من كل هذا ؟
شغفي للرسم وتعلقي به كان كبيراً لكنني لم أحقق هذا الحلم بسبب الظروف حينذاك، فالأمر كان يتطلب مني أعيش في العاصمة دمشق ويحتاج للكثير من الاعباء التي تفوق قدرة الأهل؛ فاخترت فرعاً نظرياً لا يحتاج للتواجد إلا اثناء الامتحانات لأستطيع العمل وتأمين ما يتطلبه شبابي من أسباب العيش.
أما الشعر فكان مع كريات دمي ولم يكن ظاهراً وجلياً إلا حين نزفتُ دمي عندما أدركت وجودي، ولململت الحروف ومسحت عنها الخوف وأسكنتها في صومعة مخيلتي إلى حين تأتي فرصة تخرج وكأنها دراقة نضجت وتفوح منها رائحة العشق المسكون بالجنون والهذيان.
أنا وحروفي توأم لأن الحروف لا تخون وإن جرحت شاعرها.
٣ - ماذا فعل بك الوطن حتى جعلك تقول
خذني إلى دمشق
راعٍ يرعى الياسمين
هبني من ضلوع الغيم غصناً
أهش به قطيع الحنين
خذني وانثرني على الفرات زنبقاً
يغفو على مقاعد العاشقين
خذني إلى هناك
وانسج من شراييني وطناً
بلا موت
لينام به اللاجئون
وأسري بروحي ليلاً
لبرهة أنام بحضن أمي
وبالفجر طيراً
يحوم حول خيام النازحين
خذني ومزقني كل ممزق
وانثر ما شئت من روحي
على تراب وطني
أموت لأجله عشقاً
لا أريد الحياة
وفي عيون وطني بكاء حزين
الوطن لم يفعل بي إلا الحب؛ لكن نحن من فعلنا به الكثير من الجنون والضجيج وفتحنا أبوابه للعابرين والمنحرفين ليعبثوا به والموجع أننا فعلنا كل هذا بدافع العشق لا بدافع الخيانة، لكن يحدث أحياناً أننا من شدة الحب نقتل من نحب ونخنقه بأصابع اللهفة والغيرة؛ فلا نشعر بهذا إلا بعد أن تستعر النار بأوراق الياسمين. يُصعب على كل المقالات والصحف والمقابلات أن تحتوي ما أريد أن أقول عن وطني سوريا وكيف هذا الوطن ينزف في داخلي. هذا الوطن صار غصة في حلق الحنين وأصبح هو كل الكلام حتى وأنا أغزل قصيدة حب أجده يتسرب من بين الكلمات يغفو على سطور القصيدة ليزاحم وجه حبيبتي ويشاكسها ليستفز فيها الغيرة منه.
س ٤ -حدثنا عن تجربتك مع الفنانة التشكيلية العراقية فريال الاعظمي
والكتاب المشترك " لا ترفع وشاح ألواني، هناك ينام وطن" الذي وضعت الحرف فيه شعراً شامياً معطر بياسمينه يقابله الحرف مرسوماً بأنامل فنانتنا الرقيقة شامخاً كنخلة عراقية ؟
لا ترفعوا وشاح ألواني
هناك ينام وطن
لا تثيروا غبار أشجاني
اتركوه ينام بلا شجن
الفنانة فريال الأعظمي زرعت في خاصرة وجداني أغصان الاحترام لشخصها الكريم في التعامل ومحبتها لوطنها وغمرتني بالكثير من الدعم فقد تعاملت مع موهبتي بشفافية وراهنت بتحد عليها ومن خلال هذا الرهان أرادت أن تكون ما بيننا شراكة فنية كانت في كتاب لا ترفع وشاح ألواني.
وقد فتحت أبواب لهفتها لعشقها لعراق لم ير من الفرح إلا بضع لحظات منذ آلاف السنين وعقدنا اتفاقاً أن يكون الوطن هو سيد الحضور هي للعراق ترسم وأنا لسورية ذات الياسمين الرهيف أكتب.
إن مثل هذه التجرية الأولى مع فنانة بحجم وتاريخ الأعظمي هي فخر لحروفي
الأعظمي إنسانة وصفتها في كثير من المقابلات بأنها ثلاثية الحنين، عربية الهوى تحمل في روحها كل الجنسيات العربية. غطينا وجه الوطن بوشاح الحب ورفعنا الوشاح في توقيع الكتاب في مملكة البحرين بحضور الإعلامية بارعة علم الدين ورعاية وزيرة الثقافة الشيخة مي آل خليفة وكان الهمس ينزف وطن!
س ٥- نتاجك الاخر مطبوع بعنوان " أعيريني أصابعك لأكتب " تقول فيه
إلى أين أعود ؟ لا خبز عندي
لا يابساً , ولا مسجوراً على النار
لا وسادة ينام رأسي عليها, ولا دار
أمشي كالظلِ تعبث الشمس به
تقلّبه يمين إلى يسار
هل عاد اليك الوطن بسحابة حزنه ليطغى على شعر الغزل ؟
حين لا يكون الوطن بكامل العافية فأن الحروف تستحي حين تراودها رغبة العشق المطلق. كيف لا يطغى الوطن على الغزل وأنت تطالع الصحف وتتابع الأخبار فتراه ممددا مذبوحاً كل يوم في صدره خنجر وفي كل لحظة ألف شهيد وألف نازح وملايين اللاجئين يتسربون إلى حدود بلاد صارت تتذمر منهم؛ حتى الأرض والمطر تآمروا على أبناء وطني وتركوهم في العراء يشربون البرد والجوع وهناك بلاد اغلقوا الحدود في وجوههم وحبسوا عنهم رغيف الخبز. لا ننكر بأن أهل فلسطين عانوا الويلات من النزوح وأهلنا في العراق كذلك عاشوا الوجع لكن الوجع الذي حدث ومازال يحدث للسوريين كان فضيعاً ورهيباً فيكون مثل الألم أقوى من الغزل مهما كانت حاجة القلب لأن يرتشف قهوة الحب.
س ٦ - حدثنا عن التجربة القادمة ما هو تحت الكتابة بأسلوب نثري جديد لا يشبه الرواية ولا يشبه القصة بأسلوب شعري وطرح شفاف ونكهة مختلفة على لسان جلالة الحب ؟
هذا الشرق لم يزل مسكوناً بالخوف من الإفصاح عن مشاعره ومازال المجتمع الذكوري سجين عادات وأعراف تمنع الرجل من أن يكون عاطفياً أو شفافاً لذلك أنا أذهب في كتاب مازال جنين ينتظر لحظة الولادة وهو " الوصايا العشر لجلالة الحب" والذي أسلط به الضوء من خلال كل وصية إلى إكمال نقص الشرق في التعبير عن عاطفة الحب بلا مكابرة . نحن لم نعد بحاجة لراوية تسرد لنا أحداث قد حدثت ولا تضيف لنا إلا الدهشة بجمال التعبير أصبحنا بحاجة لكتب ترسم لنا ملامح القادم بنكهة مختلفة وحروف بطعم التوت بخيال مفتوح على الجهات الأربع.
س ٧ - تخص المرأة بغزل تقول فيه
ممتلئ قلبي بكِ
فارغ من باقي النساء
لم يشعر بالوحشة معكِ
القلب، يحتاج لأنثى
لا يحتاج لكثيرٍ من النساء
ركن بسيط، على كوكب هادئ
بلا ضجيج الإنسان
بلا نرجسية الموت
أنتِ و قليل من القهوة، وكثير من الحنين
هو ما يحتاجه الحب، ويكّون اللقاء
هل القلب فعلاً لأنثى , أم يباح للشاعر مالا يباح لغيره ؟
الشاعر هو بشر ولا يختلف عن الأخرين إلا بمزاجيته الشعرية وخياله الشاسع وترجمته لمشاعر قد يصعب على الإنسان الاعتيادي أن يترجمها بصورة واضحة
أنا انسان لي امرأة واحدة يكتفي بها قلبي وهي زوجتي التي تشاركني تفاصيل كل شيء والتي تعتني بي وتحتمل طقوس جنوني ومزاجي الأكثر من صعب وحساسيتي المفرطة فيكون عليها العبء وتكون المنفردة بكل هذا الشقاء العاطفي فليس هناك من امرأة تعاني مثل امرأة زوجها شاعر تقرأ له تعليقات من المعجبات بعضها يوحي إلى غزل صريح والبعض منها يوحي إلى اهتمام مثل هذه الغيرة كفيلة بأن تذبح مشاعر أي امرأة فلا يكون مني إلا أن أغمرها بالوفاء والاحتواء
وفعلاً كما ذكرت فإن الشاعر يباح ما لا يباح لغيره من خلال تمرده في القصيدة لتتنوع ألوان الحروف ويختلف طعم الكلمات فهو يسافر في خياله بعيداً عن تفاصيله الشخصية لعلاقة الحب التي تربطه بزوجته لأن الشاعر إذا ظل أسير حالة حب واحدة فهو يكرر ذاته إلى درجة الملل ونفور الجمهور من تلك الرتابة في تفاصيل خاصة جداً لأن الشاعر عليه أن يكون لسان كل الناس فهناك الكثير ممن يشعرون ولا يعرفون أن يقولوا مشاعرهم وليس من الضروري أن يعيش الشاعر أحداث القصيدة التي ينثرها.
س ٨ - هل كتابة الشعر عندك له طقوساً - وكيف تحفز القلب ليشدو كل هذا الحب وهو المحكوم بأقانيم ثلاثة - المرأة والأم والوطن ؟
ليس لي من طقوس غريبة في كتابة القصيدة. القمر لا يعني لي الشيء المدهش فأنا أراه كرة نارية ملتهبة فلا يلهمني شكله بأي قصيدة. والبحر لا أحبه كثيرا فهو يحمل طبع الغدر فليس من الضروري أن أجلس عند شاطئ البحر لأكتب قصيدتي. انا أعيش حياة جداً بسيطة وحتى في اختيار شكلي فأنا من أشد الذين يستغربون من الفنانين الذين يتقمصون أشكال فنانين غربيون ويرتدون المعاطف الطويلة واللفحات ويحملون "الغليون" الشعر هو حالة تحدث من الداخل وليس من الخارج، الشعر حالة ولادة ومخاض تعتصر الروح لتولد الحروف فقد تكون بولادة طبيعية موجعة ، واحياناً كثيرة ولادة قيصرية لا يكون الشاعر بالوعي.
فقط هو الهدوء ما يلزمني لأنسج خيطان القصيدة حروفي حاضرة في كل وقت ولا ينقصها إلا استفزاز لتعصر رحيقها
أعشق المرأة لدرجة أنني كلما تخيلت الحياة بلا أنثى أشعر بالاختناق وحين اتلمس وجودها في عمري أصلي وأشكر الله على أنها معي في هذه الأرض الموحشة
أمي حالة طهر أغسل بها روحي من كل رجس وهي التي جعلتني اتصالح مع المرأة ومن أجل أمي سامحت كل النساء اللواتي خلفوا لقلبي الوجع فيكون واجباً على كل النساء ان يعشقوا أمي لأنها سبب عشقي الشفاف.
الوطن حلم لا يفارقني وهاجس يحاصرني، هو مع قهوتي والياسمين ذاكرة الحنين وعندي أمل كبير بأن أقف على تراب الوطن أتلو حروف قصيدة العودة وعناقي لشط الفرات لأشم ثوب أمي وأبكي كما لم أبكي يوماً في تاريخ عيوني.
س ٩ - متى تعود لحضن الوطن وهل محكومة عودتك بظروف سياسية ؟
لست مطلوباً واسمي لم يعمم على الحدود ولم أكن يوماً مع حزب أو جماعة ولن أكون، حتى أنني لم انتسب يوماً لأي حزب حين كنت بالوطن مستقل الفكر والحب أحب وطني بالمطلق بكل طوائفه وطقوسه
أنا أقف وبشكل صريح ضد القتل وأعارض القاتل مهما كانت صلة قرابتي به وإن كان أبي. ما يمنعني من العودة إلى الوطن هو الفوضى التي تحدث فيه, أنا أعارض النظام حين يقتل الشعب بهذه الوحشية وأعارض المعارضة الخارجية التي تعيش في ترف على أكتاف الثورة والتي لم تعد تمثل الشعب السوري ولو كان وجودي في سورية يوقف الحرب أو ينهي القتل غداً سأكون هناك لكن المسألة أكبر من مسألة بطولة وادعاء بالوطنية نحن نستطيع أن ندافع عن أوطاننا وإن لم نكن فيها حتما سأعود للوطن في يوم وقد يكون قريب لأن الحرب لن تنتهي قريباً وحنيني لأمي لن يهدأ ولن تكون القصيدة بديل لهذا الحب والشغف لحضن الوطن.
س ١٠ - هل تكررت تجربتك مع الفنانة التشكيلية فريال الاعظمي بتجربة مماثلة مع فنانين أخرين ؟
حتى الآن لم أكرر مثل هذه التجربة مع فنانين آخرين وربما في القريب سيكون هناك تجربة من نوع مختلف مع الفنانة العراقية فريال الأعظمي.
س ١١ - هل من كلمة للوطن ولقراء مجلة الگاردينيا الثقافية ؟
أشكر ذوقك الجميل في اختيار هذا البن الباذخ بالذوق ورائحة القهوة التي ملأت روحي وجعلتني أنزف كل هذا الحنين والحروف عن الوطن والأم والحب.
واشكر الكادر لمجلة الگارديينا الذين يعملون وراء الكواليس ولا نعرفهم بشكل مباشر
أخيراً أقول:
الوطن جرحنا اللذيذ الذي يوجعنا بسكين عشقه ونبتسم له مهما فعل بنا من غربة ولجوء سيظل هو سيد العشق وذاكرة الشرف والكبرياء. نحن بلا وطن نظل يتامى لا معنى لنا.
أما كلمتي الاخيرة فأقول : الكل غاص بوحل الغربة عراقاً وشاماَ فهل يجمعنا الفرات ثانية مقاماً ؟
في أمان الله
1581 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع