كنت أعاكس شبيهة شادية، وليس لي في الحارة سوى بيت أقربائي، فتذهب إليهم وتشكوني إليهم.
صوتك أعجبني إن راح منك يا عين، حا يروح من قلبي فين
في حفل عائلي حضره الوالد، غنت شادية: "بتبص لي كده ليه" لليلى مراد
أعلن صديقي الذي يكبرني بأعوام قليلة إن هذا الرجل هو والد صباح
دي بتعرف تغني
من شدة ارتباطي بشادية وصباح أحسست أنهما تعيشان في حينا، فتاة قريبة الشبه بشادية، تدويرة وجهها، وشعرها، وقد أحست بمدى التشابه بينهما، فقلدتها، وأسدلت شعرها على جبهتها "عملت" قصة شادية. والتي تشبه صباح كانت تسكن حارة خلف حارتنا، خفتها وطولها، وضيق عينيها، وشعرها المائل للإصفرار.
كنت أعاكس شبيهة شادية، وليس لي في الحارة سوى بيت أقربائي، فتذهب إليهم وتشكوني إليهم. كان يجمعني بها موت أمي وأمها في سن مبكرة. أحيانا أرجع اعتبار هذا أحد أسباب اهتمامي بها.
شادية الحقيقية اسمها: فاطمة كمال شاكر، أبوها مهندس زراعي في الخاصة الملكية، وأمها خديجة طاهر جودت، من أصول تركية، لذا سمتها "فتوش" (اسم تركي).
كانت شادية البنت الخامسة والأخيرة، بنت شقية، تعمل سينما هي ومحمد وطاهر (أخويها) ويمثلون معا. ويعزف أخوها محمد على عوده وتصاحبه بالغناء، وتغني خالتها بصوتها الجميل، وعندما سمعت صوت شادية، أعجبت به، وشجعتها على الغناء، وأبلة ليلى (مدرسة الموسيقى) أعجبت بصوتها فجعلتها تغني، وكل الفصل يرد عليها.
في حفل عائلي حضره الوالد، غنت شادية: "بتبص لي كده ليه" لليلى مراد.
فقال مندهشا: دي بتعرف تغني!
فقالت الأم: ما هي بتغني من زمان.
تحمس الأب لها، فاستدعى أستاذا ليعلمها التواشيح، وأستاذا ليعلمها العزف على العود.
عازف العود هذا يعرف المخرج أحمد بدرخان، فحدثه عنها، وقدمها إليه، فغنت أمامه أغنية ليلى مراد "أحنا الاتنين والعين في العين"، فقال بدرخان في دهشة:
- دي كمان بتمثل وهي بتغني.
وتعاقد معها على الظهور في السينما.
يحصل والدها على المبلغ المذكور في العقد، فيشتري لها كيس فستق وباكو شيكولاتة، ويتكرر هذا عند كل تعاقد. يحصل هو على النقود وتحصل هي على الفستق والشيكولاتة.
يشاهد حلمي رفلة اللقطات التي التقطها أحمد بدرخان لها، وهو يبحث عن فتاة تقوم بدور فلاحة في فيلم بطولة محمد فوزي ومن إنتاجه، جاء محمد فوزي وقال لها:
- سمعت صوتك وأعجبني.
وقال حلمي رفلة بحماس شديد:
- هذه هي النجمة التي أبحث عنها.
بعدها بعشرين يوما، دخلت شادية الأستوديو وقامت ببطولة فيلم "العقل في أجازة".
عرض الفيلم في سينما رويال قريبا من بيت شادية، في عابدين. كل يوم يأتي أقاربها لمشاهدتها في السينما، ويصيحون مندهشين عندما تظهر على الشاشة.
أما الأخرى شبيهة صباح، فقد فقدت أمها في مأساة أبشع من موت الأم، فهي من أسرة تمشي بجانب الحائط – كما يقولون – والدها عامل في شركة غزل، يحرص على تعليم أولاده وبناته، وهذا لم يكن منتظما في حينا.
في حارتهم الضيقة تجار مخدرات، أحدهم أقنع الأم بأن تخفي مخدراته عندها مقابل مبالغ كبيرة، يعني تكون "مخزن" له، فقبلت هذا دون أن تحكي لأي مخلوق عما تفعل، لكن مرشدي الشرطة اكتشفوا عملها، فأبلغوا الضابط، فقبض عليها والمخدرات في ملابسها، وسجنت العمر كله.
وابتعدتُ أنا عن الحارة؛ عندما سافرت جدتي التي كانت تسكنها؛ للصعيد، وابتعدتُ عن شبيهة شادية وصباح. عشت عالما آخر، فوجدت شبيهة أخرى لشادية.
فوالد صديقي الذي يتعامل مع شركات الملاحة، ويركِّب لسفنهم المهمات الكهربائية، اغتنى، واشترى أرضا في لوران وبناها عمارة كبيرة، وبنى فوق السطح دورتي مياه، بجوار كل منهما حجرة، نقضي فيهما أوقاتنا، وننام فيهما إذا لزم الأمر، وفتاة صغيرة تسكن شقة في بيت مواجه للسطح، ترقص فوق السرير، وتلوح لنا من داخل شقتهم، كبرت هذه الفتاة بعد سنوات وطاردت صديقي، اتصلت برقم تليفون المكتب الذي يدير والده العمل منه، وأسمعته أغنية شادية "إن راح منك يا عين، حا يروح من قلبي فين، ده القلب يحب مرة ما يحبش مرتين". وعندما سألها عن اسمها، قالت اسمي على اسم المطربة التي تغني هذه الأغنية.
وتم التقابل بينهما، وطلبت منه أن يخطبها، لكنه لم يكن مستعدا حتى خطبت وتزوجت وضاعت منه، فعاش في أسى وحزن عليها، كان يرسل إليها أغنيتهما المفضلة "إن راح منك يا عين حايروح من قلبي فين؟!" عبر برنامج ما تطلبه الإسكندرية عن طريق صديقنا منير فهمي إبراهيم مدير تنسيق الإذاعة الذي يضع اسمه واسمها بين طالبي الأغنية.
وتتزوج شبيهة شادية، وتسكن بعيدا عن الحي كله، وتنشغل بزوجها وأطفالها.
تقول صباح في لقاء تليفزيوني عن شادية، هي أفضلنا في التمثيل، تقصد المغنيات جميعا.
أما عن شبيهة صباح ابنة حينا، فقد كانت مثلها في اهتمامها بأناقتها، وساعدها طولها وجسدها الممشوق، وافتتح رجل محل روائح بشارع ابن الخطاب باسم "روائح صباح"، وفي فاترينة المحل زجاجات الكولونيا والعطور، وسط صورة كبيرة لصباح، وأغانيها تنطلق من جهاز تسجيل كبير، يسمعه أصحاب المحلات المجاورة، والمارة أيضا. حتى أعلن صديقي الذي يكبرني بأعوام قليلة إن هذا الرجل هو والد صباح. ضحكت قائلا:
- لكن صباح أصلا من لبنان.
فأكد صديقي بأن والدها ترك لبنان وجاء خلف ابنته، وافتتح محله هذا.
ونشر صديقي حديثه هذا في الحي كله، حتى صدقه البعض، وصدقه أصحاب المحلات المجاورة لدكان روائح صباح، وتعاملوا معه على أنه والد صباح. بل سأله البعض:
- لماذا لا تأتي لزيارتك هنا؟
فيكتفي بابتسامة رقيقة ولا يعلق. بل طالبه البعض بأن يتصل بها ويعنفها لأنها لم تأت لزيارة دكانه ولا مرة واحدة. وطالبه البعض بأن يرفع عليها دعوى قضائية ويطالبها بالإنفاق عليه، ومساعدته في فتح دكان أكبر من هذا، فهي تكسب كثيرا. وزعم البعض أنها تأتي لبيته وتقضي فيه أياما ثم تعود للقاهرة أو بيروت.
804 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع