ذكريات سوق السراي وشارع المتنبي ومكتبة المثنى
ارتبط اسم "سوق السراي" و"شارع المتنبي" في الذاكرة البغدادية، وبخاصة لدى جيل الخمسينات والستينات، ومابعدها، بأنه الرئة الثقافية التي يتنفس فيها المثقف البغدادي، حيث المكتبات والكتب والمطبوعات بكل أشكالها العلمية والدينية والثقافية.
السراي والمتنبي إرتبطا في ذاكرتي الشخصية، ومرحلة شبابي، بأنهما كانا عنوان الثقافة، والمكان الذي أجد فيه راحتي، وضالتي، كما هو كثيرين من جيلي، ففي سوق السراي أشعر أنني في عالمي الخاص، كتب ومجلات ومطبوعات من كل الأنواع والمصادر تباع بأسعار زهيدة، حتى أنني كنتُ خلال سنوات دراستي المتوسطة والثانوية بالكرخ، أزور سوق السراي والمتنبي يومياً بلا إنقطاع، لمجرد الاستمتاع بالوقت هناك والبحث عن الجديد، وغالبا أذهب للسراي دون أن تكون في ذهني كتاب معيّن أو مجلة معينة، أو مطبوعة مُحدّدة أبحث عنها بل صار السراي مكاناً أدمنت على زيارته، وفي بعض الأيام أزوره مرتين باليوم. أركب دراجتي الهوائية وأعبر جسر الصرافية بإتجاه باب المعظم والدفاع والميدان ثم القشلة فالسراي.
أما مكتبات المتنبي فكنت أزورها جميعها تقريباً، باستمرار.. ولكن المكتبة الأبرز والتي أثرت بي، وكنت أرتاح لها وأمضي أغلب الوقت فيها هي مكتبة المثنى منذ صغر سن المراهقة والشباب، فقد كانت هناك حجرة خاصة خصصها صاحب المكتبة، لكتب الناشئة حتى لاتختلط كتبهم بكتب الكبار، وكان يسمح لنا بتقليب الصفحات ومطالعة الكتب والمجلات داخل الحجرة الخاصة بكتب الناشئة.
إضافة إلى تجوّلي في أرجاء المكتبة، وكان المرحوم قاسم محمد الرجب صاحب مكتبة المثنى يرحب بكل الزائرين من كل الأعمار ويأمر عمّاله بتوفير الخدمات والطلبات لهم، وهذا ما ميَّزَ مكتبة المثنى عن غيرها من مكتبات شارع المتنبي.
سوق السراي كان يشهد تنافسا بل (صراع وجود) بين أصحاب مهنة الجلود، وبين أصحاب القرطاس والكتب والمجلات، وتنافساً آخر بين باعة القرطاسية وبين باعة الكتب.
كان من أشهر المكتبات داخل السراي مكتبات الحاج نعمان الأعظمي، وحسين الفلفلي، ومحمود القالبجي (صاحب مكتبة السلام)، يرحمهم الله جميعاً، وكانوا يجلبون أحدث الكتب إضافة إلى المُستعمل من روائع الكتب، وتربطني بالثلاثة علاقات وثيقة، فالمرحوم القالبجي كان متخصصا بالكتب والمجلات الدينية، أما حسين الفلفلي فهو والد لصديقي العزيز محمد زميلي بالثانوية وفي الشرطة واستشهد في الحرب العراقية الايرانية، وخلفه من بعده أخوه (أكرم) الذي مازال يدير المكتبة بعد أن تحولت وتخصصت في بيع الصور التاريخية لمعالم بغداد إضافة إلى الكتب.
شارع المتنبي.. جامع المتناقضات!:
يقع شارع المتنبي في الذاكرة العراقية الحيّة بوصفه شارعاً "للعقل" والاحتفاء بنتاجه الجمالي والفكري والانساني، ومن أهم صفات هذا الشارع إنه جامع
المتناقضات، بل ربما كان وما زال هو السمة البارزة للتعبير عن الشخصية العراقية المتجولة في هذا الشارع، الذي ينحصر بين نهر دجلة وشارع الرشيد ويعود تأسيسه الى فترة الحكم العثماني ويُعدّ مركزاً لتجارة الكتب في المنطقة التي كانت تعرف بـ (سوق الوراقين) في العصر العباسي، أنه الشارع المتخم بالحكايات، وهو متحف لتاريخ الفكر العالمي والعربي والعراقي.
يقال أن شارع المتنبي لم يكن عند إنشاءه متخصصا بالكتب والمكتبات، اللهم إلا المكتبة العصرية التي كان صاحبها المرحوم محمود حلمي قد أسسها في نهاية العقد الثالث، واستورد الكتب لها من مصر وبلاد الشام، وكان وكيلا لدار المعارف بمصر في العراق، ثم انتقلت ملكية المكتبة الى السيد محمد صادق القاموسي بعد وفاة حلمي. وكانت معظم المكتبات الرئيسية بما فيها مكتبة المثنى لصاحبها قاسم محمد الرجب والمكتبة العربية لصاحبها الحاج نعمان الاعظمي ومكتبة الفلفلي ومكتبة ابراهيم السدايري ومكتبة المعارف لصاحبها محمد جواد حيدر ومكتبة السلام لمحمود قالبجي وغيرها من المكتبات موجودة ومتراصة في سوق السراي، ثم اسس الاخوان عبد الكريم وعبد الحميد زاهد مكتبتهما...
واعمالهما في القرطاسية في بداية شارع المتنبي قريباً من شارع الرشيد، وعلى مقربة من صيدلية كاكا الشهيرة انذاك.
وكان التحوّل الكبير في هذا الشارع الذي كان شارعاً يضم الأفران أو المخابز العسكرية، عندما انتقلت مكتبة المثنى عام 1950 ثم توالت انتقالات المكتبات الاخرى مثل مكتبة المعارف والمكتبة الحيدرية فيما اسس الشيخ علي الخاقاني مكتبة (البيان) فيها واسس عبد الرحمن حياوي (مكتبة النهضة) وظهرت مكتبات جديدة ومتخصصة بالعلوم وبالتراث. ازدادت اهمية شارع المتنبي الثقافية تدريجياً فيما ضعف شأن سوق السراي الذي تحول تدريجياً الى دكاكين لبيع المواد القرطاسية والكتب المدرسية القديمة وانتشرت فيه (بسطيات) المجلات القديمة.
وجد مثقفو الستينيات وما بعدها في المتنبي رئة ثقافية تنتشر فيها المكتبات بكل اشكالها العلمية والدينية والتراثية ودخلت سوق الكتب الممتع الثري هذا وجوه جديدة تولت عملية شراء المكتبات الشخصية للادباء والفنانين واساتذة الادب واساتذة الجامعات الذين آذاهم الحصار حيث صار شارع المتنبي معلماً ثقافياً عربياً يزوره كل مثقف يصل بغداد ويكتنز من خبرتها ومخطوطاتها وكنوز المعرفة فيها.
لمعت في المتنبي والسراي أسماء لشخصيات عراقية ثقافية كان لها دور في مسيرة الثقافة في البلاد، ومن الاسماء الاولى في شارع المتنبي المكتبة العربية لصاحبها نعمان الاعظمي تاسست سنة 1908 وتلاها افتتاح المكتبة العصرية لصاحبها محمود حلمي قبل الحرب العالمية الاولى ثم ظهرت قائمة لكتبيين عراقيين، جديرة بالتنويه، منهم:
شمس الدين الحيدري، محمد جواد حيدر، عبد الكريم زاهد، عبد الكريم خضر، حسين الفلفي، كاظم الحيدري، ابراهيم الكتبي وغيرهم، غير ان اسم قاسم محمد الرجب الذي افتتح مكتبة صغيرة في سوق السراي سنة 1935، اخذ شهرة ذائعة في سنوات قليلة ليصبح الاسم الاول بين الكتبيين العرب، بله العراقيين.
مكتبة المثنى ...مفخرة ثقافية عراقية
قاسم محمد الرجب (1917 ـ1974) مكتبي عراقي يعشق مهنته، بل هو من ابرز المكتبيين العراقيين الرواد،
فلقد كانت مكتبته ( المثنى)، بمثابة منتدى ثقافي ودار للنشر ومطبعة وأداة لتسهيل وصول الكتاب إلى أيدي محبيه رغم الكثير من العوائق .. فهو من الأوائل الذين اهتموا بنشر أمهات الكتب العربية فضلا عن إصداره مجلة تعنى بالكتاب، علما وفنا وتجارة، تلك هي مجلة المكتبة.
ولد قاسم محمد الرجب العبيدي الاعظمي سنة 1917 في الاعظمية وبها نشأ واكمل دراسته وتفرغ للعمل منذ يفاعته لمساعدة اسرته على مواجهة مشاق الحياة وعمل في مكتبة أحد أقاربه، وهو الكتبي العراقي الرائد الحاج نعمان الاعظمي صاحب المكتبة العربية ببغداد (1888- 1953) وكانت هذه المكتبة أشهر دور الكتب، وكانت منتدى لرجال الفكر والعلم والادب، كما يُعد نعمان الاعظمي من اوائل الناشرين العراقيين ومن اشهر مطبوعاته (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي. وعلى الرغم من الفوائد الكبيرة التي جناها الرجب من عمله في هذه المكتبة، اذ تعلم اسرار الكُتبيين والناشرين، لكنه عانى شظف العيش ومشاق الحياة، وقد قدم في مذكراته صورة طريفة لاستاذه نعمان الاعظمي ووسائله الطريفة في العمل الكتبي، غير أنَّ ألمَعيّة الرجب وعُصَاميته، وَضَحت منذ البداية، فقد برَع في عمله وكسبَ خبرة واسعة في تجارة الكتب وأحوالها.
إفتتح الرجب مكتبة صغيرة في وسط سوق السراي- سوق الكتبيين قبل انتقالته الى شارع المتنبي في منتصف الاربعينيات من القرن المنصرم- سماها (مكتبة المعرّي) سنة 1935، ثم غير اسمها الى (مكتبة المثنى) طبقاً لنصيحة صديقه عبد الستار القره غولي- وهو من رواد اليقظة الفكرية- ليحصل على تخويل توزيع مطبوعات نادي المثنى بن حارثة.
وفي غضون سنوات قليلة نمت مكتبة المثنى واتصل صاحبها بدور النشر العربية الكبيرة، وتوسعت خبرته وذاع أمره بين كبار الكتبيين العرب بعد أن بَزَّ العراقيين منهم، فتراجعت المكتبات الكبيرة الاخرى امام نشاطه واخذت منشورات مكتبة المثنى- وقسم كبير منها يُطبع في القاهرة وبيروت- تنتشر بصورة مدهشة ولسعة نشاطها، انتقلت الى بناية كبيرة في وسط شارع المتنبي في النصف الثاني من الخمسينيات، كما حصلت على حق توزيع معظم الصحف والمجلات العربية حيث كانت كل المجلات العربية مختوم عليها بختم بيضوي: ((وصلت بالطائرة، سعر المجلة، توزيع مكتبة المثنى)) أما الكتب العربية فأغلبها كان يحمل على الغلاف (توزيع مكتبة المثنى بغداد).
وفاة قاسم الرجب في بيروت:
في الاول من نيسان سنة 1974 توفي في بيروت قاسم محمد الرجب اثر نوبة قلبية مفاجئة، بعد مسيرة طويلة من العطاء والبذل.وبقيت مكتبة المثنى بعهدة
تخمد النار المستمرة في المكتبة التي اتت على جميع رفوفها فتركتها ركاماً من رماد واعمدة من دخان، فمن يستطيع يا ترى أن يُخمد نيران القلوب التي تأجّجت في صدور رواد المكتبة ومريديها الذين إرتووا مما قدمته لهم من ينابيع الثقافة والمعرفة خلال ستة عقود من الزمان وتزيد، ذلك أنَّ مكتبة المثنى لم تكن ملكاً خاصاً لاصحابها من أسرة قاسم محمد الرجب، ولا لذويهم فحسب.. ،بل كانت ملكاً مُشاعاً لجميع العراقيين من أهل الادب وحملة الاقلام ورجال العلم في هذه البلاد كما كانت جزءً لا يتجزأ من تراث هذه الامة.. فقد ذهبت بذهابها أنفس المطبوعات واندرها التي كانت قرّة عين أصحابها ومفخرة من مفاخر والدهم تذكرهم بجهوده وجهاده وما لقى خلال نصف قرن من النصب والرهق، فطالما ركب الاهوال، وتجشم المخاطر، حتى استطاع ان يقيم قواعد هذا الصرح الثقافي الشامخ، الذي صار مصدر اشعاع لا في العراق فحسب، بل في جميع الاقطار العربية والدوائر العلمية والجامعية في العالم اجمع ).
مجلة المكتبة:
بدأت المكتبة منذ اوائل الستينيات من القرن الماضي مشروعها الكبير بأحياء المطبوعات العربية النادرة وهذا المشروع من اهم المشاريع الثقافية التي اضطلعت بها
جهات غير رسمية فقد نهدت المكتبة الى اعادة طبع نوادر الكتب العربية ونفائسها لتيسيرها الى طلاب الثقافة والمعرفة.
كما أصدرت المرحوم قاسم محمد الرجب مجلة (المكتبة) تعنى في بدء امرها باخبار الكتب ومؤلفيها، وقد صدر العدد الاول منها في آيار 1960 وصدر عددها الاخير سنة 1972. وسرعان ما تحولت هذه المجلة من نشرة مكتبية الى مجلة ادبية وعلمية قيمة وقد حملت الاعداد الاولى من المجلة عبارة قائمة شهرية تصدرها المثنى لصاحبها قاسم محمد الرجب، ثم تغيرت هذه العبارة الى: المكتبة مجلة الكتب والكتاب، واصبح المرحوم مهدي القزاز رئيساً لتحريرها والمحامي عبدالكريم جواد مديراً مسؤولاً لها، وتطبع في مطبعة شفيق.
وقد اسهم في تحرير هذه المجلة الرائدة في بابها نخبة من كبار الكتاب والمثقفين في العراق وخارجه، واكثرهم لهم صلة وثيقة بصاحبها ويحضر مجلسه الادبي الرائع في باحة المكتبة التي كانت تشغل داراً تراثية كبيرة في منتصف شارع المتنبي ولم تزل قائمة، ومن هؤلاء: مصطفى جواد، احمد حامد الصراف، كوركيس عواد، صالح احمد العلي، يوسف عز الدين، محمود العبطة، عبدالقادر البراك، سلمان هادي الطعمة، فؤاد جميل، جليل العطية، محمد هادي الاميني، علي جواد الطاهر، علاء الدين خروفة، مشكور الاسدي، حكمت توماشي، عبد الكريم الامين، خضر عباس الصالحي، احمد حامد الشربتي، سليم المعروف، يوسف سعيد، فاروق عمر فوزي، خالد محسن اسماعيل، صفاء خلوصي، ناجي محفوظ، عبد العزيز الدوري، جميل احمد الكاظمي (الاسماء وردت هنا بدون ترتيب معين) ومن الكتاب العرب: محمد سعيد العريان، حسين مؤنس، فؤاد افرام البستاني، عبد اللطيف حمزة، شكري فيصل، وغيرهم.
وتضمنت ابواب المحلة المختلفة الكثير من الفوائد التاريخية وحركة الكتاب العربي في كل مكان، واخبار المخطوطات وخزائنها وفهارسها. ومن هذه الابواب: مطالعات في الكتب، اخبار الادب والادباء، معرض الكتاب، رسائل القراء، اخبار ثقافية، صدر حديثاً، كتب جديدة.
غير ان اطرف ما نشرته هذه المجلة واهمها حلقات كتبها قاسم الرجب باسم (مذكراتي في سوق السراي) ضمّنها ذكرياته عن تجارة الكتب واحوال الكتاب والمؤلفين منذ ان كان عاملاً في المكتبة العربية لصاحبها سلمان الاعظمي، وقد نشر عشرين حلقة من هذه المذكرات ونشر بعض الحلقات في جريدة (البلد) البغدادية لصاحبها عبد القادر البراك الذي اصبح محرراً لمجلة (المكتبة) بعد مهدي القزاز وقد اعدت اسرة الرجب هذه المذكرات للنشر ثانية.
مجلس مكتبة المثنى
كان للمرحوم الرجب مجلس أدبي كبير في الفرع الرئيسي للمكتبة في شارع المتنبي وكان يحضره كبار الكتاب والادباء والعلماء والوجوه الشهيرة في المجتمع، وقد بقي هذا المجلس الى السنوات الاخيرة من حياة المكتبة.
الرجب: مذكراتي في سوق السراي:
كما ذكرنا تواً، فقد كتب المرحوم الرجب مذكراته ومشاهداته سماها (مذكراتي في سوق السراي) وهي صفحات مطوية وطريفة من تاريخ الفكر العراقي الحديث، نشر القسم الكبير منها في مجلته (المكتبة) ونشرت فيما بعد بكتاب مستقل.
كتب في الحلقة الاولى): صلتي بسوق السراي تعود الى سنة 1930-1931 يوم تركت المدرسة واتصلت به وكان عمري اثنتي عشرة سنة عندما اشتغلت عاملاً صغيراً بالمكتبة العربية لصاحبها نعمان الاعظمي، وكنت يومذاك في الصف السادس من المدرسة الابتدائية وكان مرتبي الشهري 600 فلس ولم أكن قد رأيت بغداد كثيراً، لانني كنت من سكنة الاعظمية فكنت اراها بالسنة مرة او مرتين وفي ايام الاعياد فقط، فلما اتصلت بالمكتبة
وبالسوق كنت اعجب لما تحتويه من كتب اذ لم اكن قد رايت مكتبة من قبل. كان سوق السراي آنذاك زاخراً بالمكاتب الصغيرة منها والكبيرة امثال المكتبة الوطنية لعبد الحميد زاهد والمكتبة الاهلية لعبد الامير الحيدري والمكتبة العصرية لمحمود حلمي ومكتبة الشرق لعبد الكريم خضر.. وهناك مكتبات صغيرة منتشرة من اول السوق الى آخره ومنهم من يعرض بضاعته على الرصيف امثال حسين الفلفلي واحمد كاظمية والحاج محمد وسامح اسماعيل ومن المكتبات الصغيرة التي ما زالت صغيرة حتى اليوم مكتبة التجدد لحقي بكر صدقي ومكتبة الشبيبة لرشيد عبد الجليل والمكتبة الحديثة للحاج محمد ومكتبة الزوراء لحسين الفلفلي اذ لم تتقدم هذه المكتبات بالرغم من وجود طاقات من الذكاء عند البعض منهم ومن حسن المعاملة عند الاخرين.)
وأضاف الرجب في مذكراته :
( وكان من عملاء سوق السراي ولا سيما عملاء نعمان الاعظمي زبون من اكابر شيوخ العمارة ونائب في مجلس الامة هو الشيخ فالح الصيهود وكان عند انعقاد دورة المجلس يسكن بغداد ويتردد على السوق فيطلب من عندنا كل الكتب التي تبحث في الامور الحسنة كالقصص والملح والمناظرات مثل :
رجوع الشيخ الى صباه والايضاح في علم النكاح واخبار النساء لابن الجوزية ومحاضرات الادباء للراغب الاصبهاني وزهر الربيع وغير ذلك من الكتب وكان يقتني الكتب دون مساومة وربما دفع ثمن الكتاب مضاعفاً باختياره، فمثلاً كتاب عيون الاخبار لابن قتيبة يتكون من اربعة مجلدات وفي المجلد الرابع منه كتاب خاص بالنساء ولذا فانه يشتري الكتاب كاملاً ويدفع ثمنه، الا انه يترك المجلدات الاخرى ويكتفي بالرابع.
واذكر ان عبد الستار القره غولي رحمه الله كان يحتفظ في مكتبه بنسخة مخطوطة من كتاب رشف الزلال من السحر الحلال للسيوطي، وهو يتالف من عشرين مقامة كتبت على لسان عشرين علماً دخلوا على زوجاتهم في عيد الفطر، فوصف كل واحد منهم ما بان له من ذلك حسب علمه وعمله وفنه فقدمه الى نعمان الاعظمي الذي استنسخ منه نسخة اعطاها الى القره غولي وباع الاصل للشيخ فالح الصيهود وعرض القره غولي النسخة التي اخذها الى احد كبار الضباط هو عبد المطلب الامين، فاعطاها الى صبري الخطاط الذي نسخ بخطه الجميل منها نسختين اعطاني احداها وما زلت احتفظ بها الى يومنا هذا.).
عبد الكريم خضر
(كان سوق السراي يتأثر بالروح الوطنية المتأججة بسبب فلسطين ووعد بلفور والثورة في كافة المدن الفلسطينية اشد التاثر، وكان يهيئ السوق للمظاهرات والاضرابات ويحثهم عليها عبد الكريم خضر صاحب مكتبة الشرق فكان يحرضنا جميعاُ على غلق مكتباتنا فاذا ما تاخر احدهم ذهب اليه مسرعاً واذا ما لاحظ ان السوق يتباطأ في غلق الابواب فانه ينزل من مكتبته ويمر على المكتبات واحدة بعد الاخرى وخلفه بعض الشبان والصبيان وهو ينشد هذه الكلمات المؤثرة:
قم من القبر حزينا يا امير المؤمنين....
قتل الصهيون في القدس خيار المسلمين
وكنا نرددها جميعاً بعده ونمشي خلفه، ولابد من امتثال امره، اذ كان مخلصاً صادقاً وهو لا ينفك يصف احوال العرب والمسلمين في فلسطين واذلالهم من قبل اليهود، واول من يتاثر به السوق هو غلق خان الشابندر للصاغة حالياً يسمعون الاناشيد.. وكنت اشاهد السيد حسون ابو الجبن لابساً الكفن مضرجاً بالدم في منظر مؤثر جداً يتقدم المظاهرة وهي تسير في شارع الرشيد).
شيخ علماء العراق أمجد الزهاوي:
الازهر مجاورين فيه يطلبان العلم، فتخرجا فيه وفتح كل واحد منهما مكتبة ومطبعة سمياها مطبعة كردستان العلمية ونشرا كثيراً من الكتب الاسلامية القيمة مثل مشكل الحديث لابن قتيبة وكثيراً من رسائل ابن تيمية ومؤلفات ابن القيم الجوزية وغير ذلك مما لم يسبق لاحد ان طبعه طبعة علمية صحيحة ونشره، ولكنهما بعد مدة اعتنقا البهائية واخذا ينشران الكتب والرسائل البهائية موافقة لمبادئهم ومؤيدة لها ونشرا خطب عبد البهاء في امريكا وغير ذلك، وكان يصدران مطبوعاتها بعبارة (يا الهي بهاء) وهذا من المفارقات الغريبة التي قلما تقع.)
روفائيل بطي والاعلان:
(كان روفائيل بطي من محبي مكتبة المثنى الناشئة ومشجعيها، وكان لا يمر يوم الا وزارها، واقترح علي يوما ان يحجز لي حقلاً صغيراً في جريدته (البلاد) ليقرض بعض الكتب التي تصل إليَّ ولم أكن يومئذ أهتم بمثل هذا، ولكن ترغيبه والحاحه عليَّ باستمرار، حملاني على قبول الاقتراح، فهيأت بعض الكتب واعددتها للتقريض بناء على رغبته، وكان أول إعلان كتبه لي ونشره في جريدته إعلاناًَ عن كتاب صغير هو (النزاع والتخاصم فيما بين بني امية وبني هاشم) لتقي الدين المقريزي، بعد ان كان قد أعيد طبعه في القاهرة عن طبعة ليدن، ولم اكن اتصور ان يكون لمثل هذا الاعلان البسيط كل هذه الاهمية، وهذا الاثر فقد جئت –كعادتي- صباح يوم الى المكتبة واذا بي أرى جمعاً من الناس ينتظروني لافتح المكتبة وكلهم يبتغون شراء هذا الكتاب فبعت لهم وبقيت أبيع منه طول النهار حتى نفدت جميع نسخه.. ورفائيل بطي أديب ألمعي وصحفي قدير وهو ممن يمتلك مكتبة صحفية فيها كل طريف، وقلَّ من يهتم من الصحفيين بهذه الناحية الا انني رأيت كلاً من كامل الجادرجي السياسي والصحفي لا يصل كتاب الا اقتناه وتوفيق السمعاني الذي فاقت مكتبته جميع المكتبات بما فيها من مختلف الكتب والمراجع بالعربية والسريانية وهو ممن يرتاد المكتبة العصرية ويجلس فيها ثم يقصد مكتبة المثنى وهو صديق الجميع).
سوق السراي اليوم يفقد خصوصيته:
لقد تحوّل سوق السرّاي الى سوق عام بعد ان كان مختصاً في العلم والفن وهو الآن للتجوّل وليس للتبضع، والمحلات شيئاً فشيئاً تحولت الى تجارية لبيع الهدايا....
ورغم هذا لازال لدى روّاده ومحبيه سوقا للعلم والمعرفة.. كما أن الفوضى والعشوائية صارت تشوه السوق بسبب تجاوز الباعة الجوالين وأصحاب المحلات على طريق مرور الناس... كما هو الحال اليوم في معظم أسواق وشوارع بغداد التي تفتقد للإنضباط والنظام، وتمتاز بشيوع المخالفات والتجاوزات.
وقد شكل سوق الجمعة في المتنبي ظاهرة حية في الحياة الثقافية البغدادية فقد كان المشتغلون بالادب والفن والصحافة يجتمعون في مقاهيهم الاثيرة كل جمعة صباحاً، حسن العجمي والبرلمان (التي زالت) بعد ان بقيت طويلاً تحت اسم مقهى الرشيد والمقاهي القريبة ثم يتحولون الى شارع المتنبي، يتجولون بين مكتباته ويقفون عند مكتبة الشطري حيث يبدأ مزاد الكتب النازلة حديثاً للسوق حيث توزع مكتبة عالم او اديب راحل الى اشلاء، بعد ان تباع بالمزاد في وقت يتهامس فيه اديب مع كتبي محاولاً الحصول على كتاب ممنوع ومستنسخ!!.
وبعد:
ختاماً أقول: ما أجمل ذكريات السراي والمتنبي لمن عاشها، ولمن تذوق طعمها وأحس بنكهتها.. وتبقى كبة السراي ورائحتها التي تشمها من بعد أمتار علامة مميزة من علامات سوق السراي، والأفضل أن تتناولها في مقهى الشابندر مع شاي عراقي سنكين من النوع الذي تخصصت فيه مقهى الشابندر...ولا أنسى أن أترحم على روح أعز أصدقائي الأوفياء الأخ صباح صاحب مطبعة الصباح الذي وافاه الأجل مبكرا في شبابه وكان ممن أحرص على السلام عليهم حين أزور المتنبي والسراي...
1589 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع