" التربية والتعليم والمدارس بين الأمس واليوم "
كل اسبوع نلتقي مرة واحدة مع بعض الاصدقاء، في مقهانا المعتاد الاونديجي، والمتواجد على ضفاف بحيرة الشارقة، فلا ريب في أن نطلق العنان لمخيلتنا كي تسرح في ذكريات شتى عن بلدنا، فعبق الماضي يغذي الحاضر ويصنع المستقبل، في جو من الحنين، بادر إحد الاصدقاء ونحن نحتسي قهوتنا المعتادة بفتح حوار عن التربية والمدارس التي تعايشنا معها ومدارس اليوم ووضعية المعلم والاستاذ في كلا الزمنين.
تعد المؤسسات التعليمية إحدى القوى الاجتماعية الهامة المؤثرة في تربية الفرد وإعداده للحياة الاجتماعية، أوجدها المجتمع لتنقل إلي أجياله القادمة مثله العليا وخبراته وتراثه ومعتقداته، ثم أنها تهيئ أجياله الصاعدة لتحقيق آماله وأمانيه، فهي تشمل المدرسة والمعهد والجامعة أي كل ما من شأنه أن يؤد عملا تعليما أو تربويا منظما ومقصودا، وتأتي خطورة الدور الذي تؤديه المؤسسة التعليمية من أن إمكانات الأسرة في غالب الأحوال غير كافية لتلبية حاجات الأبناء ومزاولة أنشطتهم في بعض المجالات الاجتماعية والثقافية والرياضية وغيرها مما يدفع بهم غالبا خارج البيت بعيدا عن الأسرة فتتلقاهم المدرسة ويقضون فيها معظم أوقاتهم وأجمل سني عمرهم ولذلك فهي المؤسسة الاجتماعية والسياق الذي يمارسون فيه أغلب نشاطاتهم وأقربهم إلي قلوبهم، كما أنها الجهة التي تمنحهم شهادة ورخصة تجدد علي أساسها قيمتهم في نظم الآخرين ودورهم في مجتمعهم.
التربية في كل أحوالها لا تهتم بالفرد منعزلا عن المجتمع بل تهتم بالفرد والمجتمع معا وفي وقت واحد ومتزامن من خلال اتصال الفرد بمجتمعه وتفاعله معه سلبا وإيجابا، ولها دورا مهما وخطيرا في حياة الأمم، فهي أداة المجتمع في المحافظة على مقوماته الأساسية من أساليب الحياة وأنماط التفكير المختلفة والكشف عن طاقاتهم واستثمارها وتعبئتها.
تعتبر التربية ظاهرة اجتماعية ذلك لأنها لا تتم في فراغ أو دون وجود المجتمع إذ لا وجود لها إلا بوجود المجتمع وفضلا عن ذلك فإن وجود الإنسان الفرد المنعزل عن مجتمعه أو جماعته لا يمكن تصوره إذ أنه مستحيل، و على مدار مراحل تاريخ التربية كان الاهتمام بدور المدرسة، سواء تعلق الأمر بالتربية الفلسفية، أو الإدارية أو الحربية، فالمدرسة مكان لتلقي العلم والتربية والبحث بطريقة أكاديمية.
استعمل الإغريق كلمة "مدرسة" لأول مرة، والذي كان يقصد به وقت الفراغ الذي يقضيه النـاس مع زملائهم أو لتثقيف الذهن، بديهي أن هذه المدارس كانت خاصة بالطبقة الارستقراطية التي تولى أمرهـا أحد الأفراد في أحد المنازل أو دور العبادة، كان الإجماع على أن التربية تخص النخبة من المجتمع.
مرت المدرسة بمراحل ثلاث وهـي: مرحلـة "الأسرة" التربية تتم في العائلة وهي مسؤولية الآباء و الأمهات بالدرجة الأولى، حيث يتعلم الأبناء عن الآبـاء و الأجداد أهم عامل في العملية التربوية وهو التقليد، و مرحلة "العشيرة أو القبيلة "التربيـة تتم في العشيرة وكان ذلك نتيجة لانتقال الناس من مرحلة جمع الثمار إلى مرحلة الصيد فمرحلة الرعـي ثم مرحلة الزراعة واكتشاف المعادن فالصناعة الزراعية ومعرفتها الاستقرار في رقعة ضيقة وتتزايد عدد أفراد الأسر يشكلوا العشائر فالقبائل، حيث تستعين القبيلة في تربيتها بالعرافين فكانت التنشئة الاجتماعيـة مزيجـا مـن الخرافات و الأساطير في العشيرة، ومرحلة "المدرسة الحقيقية" التربية تتم في المجتمع فتطور الكتابة و الحاجـة إلى تعلمها منذ البابليين كانت من أهم العوامل التي ساعدت على ظهورلحاجة إلى التربية في المجتمـع وبالتـالي الحاجـة إلى أشخاص يهتموا بنقل التراث الإنساني إلى الأجيال اللاحقة و إلى مؤسسات تربوية، مما أدى إلى الاهتمام بالتعليم عن طريق المدارس التي أوجدها المجتمع وأصبحت بناء أساسيا من أبنيته، أوجدها لتقوم بتربية أبنائه وتنشئتهم، حيث لا يوجد أي مؤسسة اجتماعية أخرى تمتلك من الفرص ما تمتلكه المدرسة.
يعرف فرديناند بويسون المدرسة على أنها: "مؤسسة اجتماعية ضرورية تهدف الى ضمان عملية التواصل بين العائلة والدولة من اجل إعداد الأجيال الجديدة، ودمجها في اطار الحياة الاجتماعية"، ويعرفها فريدرك هاستن "بأنها نظام معقد من السلوك المنظم، الذي يهدف الى تحقيق جملة من الوظائف في إطار النظام الاجتماعي القائم"، وينظر أرنولد كلوس الى المدرسة بوصفها "نسقا منظما من العقائد والقيم والتقاليد، وانماط التفكير والسلوك التي تتجسد في بنية المدرسة، وفي ايديولوجيتها الخاصة". ويرى شيبمان ان المدرسة "شبكة من المراكز والأدوار التي يقوم بها المعلمون والتلاميذ، حيث يتم اكتساب المعايير التي تحدد لهم ادوارهم المستقبلية في الحياة الاجتماعية"، كما يعرفها إميل دوركايم "بأنها عبارة عن تعبير امتيازي للمجتمع الذي يوليها بأن تنقل للأطفال قيما ثقافيـة وأخلاقية و اجتماعية يعتبرها ضرورية لتشكيل الراشد و إدماجه في بيئته و وسطه".
ففي صدر الإسلام كان المسجد هو المدرسة النظامية الأولى للمسلمين، وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تطور الأمر، فأنشأ بجانب المساجد كتاتيب لتعليم الأطفال وتربيتهم، اصبحت بغداد أهم مدينة في العالم في العلم والحضارة، و ظهرت المدرسة في القرن الخامس الهجري إبان العصر العباسي مع الوزير نظام الملك الذي أسس مدرسته العلمية ببغداد، وهي أول مدرسة في الشرق، اصبحت بغداد أهم مدينة في العالم في العلم والحضارة، حتى جاء الغزو المغولي للشرق، عام 1258 دمر التتر بغداد وقتلوا ثلثي عدد السكان وأحرقوا "بيت الحكمة" الذي حوى مئات الآلاف من الكتب والوثائق العلمية والفلسفية والدينية والأدبية والتاريخية والتي جمعت وبوبت خلال مئات السنين، لم يكن التعليم مزدهرا في فترة العثمانيين، و كانت نسبة التعليم ضئيلة جدا، و كانت مقتصره على نخبة معينة من المجتمع، وكان يقوم أساسا على التعليم والتفقه في أمور الدنيا و الدين و القليل من اللغـة، ومعاهـده هو الكتاتيب القرآنية والمساجد، وقد كانت منتشرة في بغداد وباقي الألوية الأخرى انتشارا لابأس فيه، وقد اقتصرت الكتاتيب على تعليم القراءة و الكتابة و تحفيظ القرآن ودراسة الفقه والعقيدة في امور الدين والدنيا، وإعطاء تربية إسلامية قاعدية لشباب المحلة و المدينة و القرية، أما التعليم المهني أو الحرفي فلم تكن له في الغالب معاهد خاصة به وإنما كان يؤخذ عن طريق المباشرة، أي التقليد و المحاكاة و الممارسة العملية الطويلة مع مهرة الصناع و الحرفيين حتى يتقنوها و يصـبحوا بدورهم ماهرين فيها ومعلمين لغيرهم وهكذا، عرفت المدارس كمؤسسات تعليمية، في اواخر ولاة العهد العثماني، حيث أسست عدة مدارس في المدن العراقية، وخاصة في بغداد، التي عرفت في هذا العهد ازدهارا ثقافيا، نوعا ما، ولم يقتصر مشروع بناء المدارس على مدينة بغداد وحدها، بل استفادت منه مدن أخرى الموصل والبصرة وغيرها، ومع مطلع القرن العشرين كانت بعض المدارس و كتاتيب قرآنية صغيرة، وكان التعليم و التعلم حكرا على طبقات بعينها هي المحظوظة، اي بمعنى ان نسبة التعليم كان ضئيل جداً، ومع نشوء الدولة العراقية عام 1921، كان على الدولة الوطنية أن تولي الجانب التعليمي الاهتمام والرعاية، ومن هنا جاء التفكير في تأسيس تعليم يتوافق مع المتطلبات الفكرية والحضارية للشعب العراقي الذي ظل محروماً منه طيلة الفترات السابقة، من قلة المدارس و نقص في الكادر التعليمي وتفشي الجهل و الامية، تطور هذا اللفظ بعد ذلك ليشير إلى التكوين الذي يعطي في شكل جمـاعي مؤسسي، أو إلى المكان الذي يتم فيه التعليم ليصبح لفظ المدرسة يفيد حاليا تلك المؤسسة الاجتماعية الـتي توكل إليها مهمة التربية الحسية و الفكرية و الأخلاقية للأطفال و المراهقين في شكل يطابق متطلبات المكان و الزمان، فبدأت الإصلاحات التربوية المتتالية من إرساء قواعد النظام التربوي الذي عمل على تحقيق مبدأ التعليم للجميع، فهي تحتضن كافة طبقات المجتمع، بدون تمييز بين غني أو فقير، تدريس المواطنة من خلال محتوى الخطاب الذي تحمله الكتب المدرسية الخاصة بالتربية المدنية، والاناشيد والكشافة، ووضع المسئولين عن هذا الجانب المهم له الأطر المادية في بناء مجتمع عصريّ يساهم بشكل فعال على جملة من المبادئ تتمثل أساسا في تحقيق التنمية عن طريق النهوض بالإنسان.
سعى المسؤولون منذ مطلع الحكم الوطني، على الرغم من قلة الموارد المالية، للتوسع في انشاء المدارس و تأسيس الكليات التخصصية و معاهد لاعداد المعلمين واستقدام مدرسين من مصر، عرفت المدرسة العراقية حينها منعطفا حولها من مجرد منشأة تعليمية، إلى ميدان لتلقين الناس دروسا في" الوطنية" من أجل هذا الوطن و ترابه.
يمكن وصف القرن العشرين وصفا تربويا مميزا ونقول أنه عصر إقبال العوائل على التعلم، وهذه الحقيقة هي نقطة التحول في تاريخ الإنسانية الحديثة، فالمعرفة التي كانت وقفا على طبقة أو طبقات و امتيازا أو جماعـات وقوة لهيئة أو هيئات أصبحت أمرا تسارع إليه الناس، و ترغب فيه الجميع الطبقـات وتعمـل علـى ارتشاف مناهله كل طبقات الشعب لا فرق بين غنيها و فقيرها، فالمدرسة تستمد دورها من القيم الإنسانية للمجتمعات السالفة هذا الدور يختلف و يتنوع منذ القدم، وأخذ الأمر في التطور إلى وصلنا إلى نموذج المؤسسة التعليمية الذي نعرفه اليوم، وقد تغير الشكل وتعددت الآليات، ولكن ظلت المدرسة تؤدي نفس المهمتين المنوطتين بها وهما التعليم والتربية، ثم انتقلت إلى مقاربات متعددة الجوانب.
وفي مطلع الخمسينيات تأسس مجلس الاعمار فأضطلع بتنفيذ مشاريع عملاقة مثل السدود والإسكان و طرق المواصلات وبناء المزيد من المدارس والكليات، وارسل المزيد من شرائح المجتمع للدراسة في دول متقدمة.
مع منتصف السبعينات في القرن الماضي على أحسن تحديد، استحدثت طفرة نوعية في التعليم والبحث العلمي والتكنولوجي، بعد ان اصدرت الدولة قانون رعاية الكفاءات وفيها عادت بموجب هذا القانون كفاءات علمية في مختلف المواقع العلمية، و قد أدت المدرسة العراقية، دورا مهما في طرد الأمية و أسهمت بشكل كبير في إثراء الحقل المعرفي، لقد كانت ذات فعالية كبيرة، الشيء الذي جعلها تحتل مكانة مرموقة على غرار نظيراتها العربية آنذاك، وحسب تقرير اليونسكو، أن العراق في فترة ماقبل عام 1991 ميلادية كان يمتلك نظام تعليمي يعتبر من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة ، تقدر نسبة المسجلين في التعليم الإبتدائي بماتقارب الـ 100%، كذلك نسبة عالية للقادرين على القراءة والكتابة، وفيها ارسل العراق التدريسيين الى الجزائر وبعض من دول الخليج.
عانى التعليم بسبب ما تعرضه العراق من حصار نتيجة غزوه للكويت، وبسببها اقدم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بإصدار عدة قرارات بموجب الفصل السابع لميتاق الامم المتحدة، ومنها قراره المشؤوم رقم ٦٦١ والقاضي بفرض العقوبات الاقتصادية الدولية الاكثر حدةً في القرن العشرين، واستمر الحصار لمدة ثلاثة عشر سنة والمجتمع الدولي تحت ضغط شديد من الولايات المتحدة وبريطانيا والعديد من الدول العربية والتي بموجبها منعت العديد والعديد من المواد والعناصر المهمة والإساسية لادامة الحياة، وشملت البنود منع المواد التعليمية الكثيرة والتي هي بأمس الحاجة للطالب كأقلام الرصاص وأنواع اخرى من الأقلام والكتب التعليمية وأجهزة الكمبيوتر، علاوة على ذلك، وكنتيجة حتمية للحصار الصارم، لم يتمكن الطالب من متابعة متطلبات دراسته من احتياجات مختبرية ومصادر علمية وكتب عالمية تفيده في دراسته وبحثه، كما عانى الباحثين بهذا الحصار حيث تم منعهم من إكمال دراساتهم العليا خارج العراق، كما تم منعهم من المشاركة في المؤتمرات العالمية وحضور الدورات التدريبية، في حينها انخفضت معدلات الالتحاق في المدارس النظامية ومدارس محو الأمية، توجه العديد من الأطفال العراقيين إلى مجال العمل لمساعدة عوائلهم، وبدأ الانتشار التدريجي للامية، كما لم يسلم المعلم والمدرس وشرائح اللمجتمع من نقص في معاشاتهم الوظيفية التي باتت لا تسد رمق العيش، مما ادى الى التقليل في نسبة المشاركين في منظومة التعليم، كذلك قلة نسبة الدعم الحكومي لهذا القطاع، مما ادى الى تعطيل تقدم التربية والتعليم والصحة خلال أعوام الحصار.
لقد أدت مرحلة الحصار التي فُرضت على العراق، الى تدهور كبير وخطير في مستوى الحالة التعليمية، ليصار الى جرفها بالكامل في مرحلة الاحتلال.
اذاً المدرسة مؤسسة اجتماعية ساهمت في تحقيق أهداف و قيم المجتمع و أن عملها كان لا يقتصر علـى نقل التراث الثقافي و إمداد الأفراد بالقيم و الأساليب التي يوافق عليها المجتمع، بل تتعداه إلى التأثير في سلوك الأفراد تأثيرا منظما يرسمه المجتمع، وكان دورها الاجتماعي على علاقة وثيقة بفلسفة المجتمع السائدة، فهي مقود التطور و التقدم و مفتاح التغيير، ويقاس مدى تحقيقها لوظيفتها بمدى التغيير الذي تنجح في تحقيقه في سـلوك ابنائها.
تخرج من أحضان المدارس العمومية القديمة، بالرغم من تواضع منشآتها وبساطة في إمكانياتها ووسائلها، لكنها سخية بعطائها ، كانت معبرا يؤدي إلى الرقي الاجتماعي و المعرفي، علماء و كتاب و فلاسفة و شعراء أفذاذ، وهي التي اسهمت في صناعة العقول و علماء البحث العلمي، وهي التي أنتجت كل الرجـال الذين نسـمعُ عنهم، ونشاهدهم متحلّين بمزايا الإستقامة، والصدق والكرم، والشـجاعة، وحب الوطن، واحترام الحق، والدفاع عن الحقيقة، والخضوع للواجب، وبذل النفس والمال في خدمة العلم والمجتمع.
كان المعلم مصدر المعرفة الساهر الفعلي و الفعال على تعليم الأطفال والكبار، وكرس حياته لتنشئة الأجيال، فهو الاب الحنون، لقد شهد التاريخ للمعلم بالرفعة لدرجة القداسة، تاج الرؤوس ذا هيبة ووقار، كان المعلم هو المربي الثاني بعد الوالدين، لا يجارى ولا يبارى في المجتمع فهو الأب الحنون البار لدى الكبار والصغار، وهو كالشمعة تنير الدرب للسالك، فيفيض إشعاعها على الآخرين بينما تحترق هي في صمت وهدوء بدموع منهمرة، بل المسؤول والحريص على غرس حسن الخلق في ألأبناء، صدق الشاعر أحمد شوقي حينها قائلا:
قم للمعلم وفّه التبجيلا .... كاد المعلم أن يكون رسولا
كانت أجور المعلم قليلة قد لا تسد أبسط حاجاته أو حاجات عائلته لكنه بالمقابل كان يقدم ثروة علمية وتربوية وأخلاقية تعادل أضعاف ما يتقاضاه من أجور، هذا المعلم الذي عندما نراه في الطريق نختبئ أو نغير طريقنا تقديرا واستحياء واحتراما له ولشخصيته وهيبته، كان هدا من الماضي حيث ونحن صغار كان المعلم أبا كان مكافحا صادق الوعد حيث كان التنافس على قدم وساق بين الأساتدة كل يحاول أن يكون طلبته الاروع والاكثر اجتهادا، كان يبذل فيه المعلم مجهوداً جعله يحظى باحترام وهيبة من قبل الطلبة وسائر أفراد المجتمع، كنا نستحي من المعلم و الأستاذ و نحن نلعب في الشارع فإذا مر بنا نتوقف عن اللعب حتى يبتعد، وكانت العملية التعلمية تتميز ببساطتها التي لا تتطلب من المعلم سوى توضيح بعض المسائل أو تلقين ببعض المعلومات، فمكانة المدرس تستمد من مكانة التعليم الذي يشهده بلدنا، كما كان المنهاج المدرسي يترجم الأهداف و الاتجاهات التربوية للمجتمع و منبثقا من حاجات البيئة التي يعيش فيها الأفراد و من متطلبات تنميتهم، بل لقد كان العرف جاريا على أن يضع الأب الخطوط العامة لطريقة تعليم ولده و تهذيبه.
فمنذ الايام الاولى للاحتلال، شهد التعليم وفي جميع مراحله، تخريبا منظما وتحوّل في أحيان كثيرة إلى تجهيل ولم يعد تعليما، فقد تعمد قصف المدارس، و صدرت قوائم بأسماء 15500 عالماً وباحثاً وأستاذاً جامعياً، واعداداً هائلة من المعلمين، وسرحتهم من الخدمة بدعوى علاقتهم بحزب البعث، واعداده، كما شهدت حالات الاغتيال والقتل والترصد المتلاحق للقامات الأكاديمية المعروفة، واستهداف للمعلمين، وحتى الطلاب لم يسلموا من الاعتقالات والقتل، من قبل ميليشيا تابعة لإيران، فتحت لها السياسة الامريكية المجال الرحب، والتي لاحقت العشرات من القامات الاكاديمية وقامت بتصفيتها، لذلك فقد شهد العراق في ظل الاحتلال تدميرا في جميع المجالات بما فيها الجانب التعليمي، الى جانب ما جرى من تغيرات جذرية على المناهج المدرسية والجامعية الخادمة للفكرة المذهبية، مما أطاح بجهد وخبرات الكوادر السابقة التراكمية، ورفع من نسب الأمية لمعدلات قياسية خطيرة، كلها شكلت انتكاسة صارخة للمستوى التعليمي بكافة مراحله، بغية تنشئة جيل جاهل غير قادر على مواجهة مخططات الاحتلال واذنابه ولا التصدي لمشاريعه، وربما من أبرز تلك المظاهر: شمول قطاع التعليم بنظام المحاصصة الطائفية ضمن العملية السياسية التي فرضها الاحتلال على العراق، حتى بات قطاع التعليم خاضعا للبيع والشراء كبقية المناصب في العراق، وتولى إدارة العديد من مفاصله أناس لا علاقة لهم بالعلم والتعليم.
أن إعادة الهيبة للمدرسة العراقية أمر لا يستقيم دونما رد الاعتبار لرجل التعليم، و تمتيعه بحقوقه كاملة، لما يبدل من جهود في سبيل شحد الهمم و صقل المواهب و تربية الذوق و إعداد جيل قادر على تحمل المسئولية حاملا لقيم إنسانية متعدددة.
كتب الاعلامي والشاعر القدير الاستاذ حميد سعيد مقالة مهمة عنوانها " سقوط مشروع التجهيل " مبينا ان الطائفية خربت العراق ومن ادارها قد ادى الى مشروع التجهيل، اقتبس جزأص من المقالة " إن مشروع التجهيل الذي عملت على تكريسه وتحقيق أهدافه وتنشيط أدواته في التخريب الاجتماعي والثقافي، قوى جاء بها الاحتلال، وهي بهذا الشكل أو ذاك من أدوات نظام الملالي ومخططه التخريبي في العراق، يستهدف الأجيال الشابة التي نشأت في ظل نظام فاسد وجهول، لتكون هذه الأجيال بعيدة عن ثقافتها الوطنية وتوجهاتها التحررية التنويرية وعن فضائها القومي والتزاماتها الدينية الرصينة، لذا فقد واصل معمّمون فاسدون وجهلاء وهم من الكثرة مما يلفت النظر، نشاطهم التخريبي ليس من خلال المنابر والمساجد فحسب، بل من خلال شاشات التلفزيون وأثير الإذاعات، بنشر روايات تجافي الحد الأدنى من العقل والمنطق ولا تتوفر على أي شرط من شروط الرواية التاريخية أو الدينية، بل تناقض معظم هذه الشروط، ومنها شرط النقد التاريخي والعقلي، ومعظم هذه الروايات تنتسب إلى الحكاية الساذجة أكثر من انتسابها إلى الرواية بشروطها المعروفة، وهذه الحكايات تهدف إلى الاستهانة بالعقل، وتكريس انفصاله عن الحقيقة، كما تهدف إلى إثارة خلافات وانشقاقات ليست بين الأديان أو الطوائف، بل وأيضا داخل الطائفة الواحدة والأسرة الواحدة".
ما قام به المحتل الجهل وما بعده من السلطة السياسية والدينية الطائفية من ممارسات الانحدار بالعملية التعليمية، و الفساد، وانسداد الأفق بإيجاد حلول جذرية للمشاكل السياسية، والطائفية، وتغلغل نظام الملالي في ايران، واجهاض القيم الوطنية، وغياب العدل، والصحة ، مانراه في عراق اليوم، من صحوة ووعي لدى الكثير من شباب الانتفاضة، ومن النساء والطلاب وحتى المعلمين والاساتذة التي كشفت وعرت تلك الممارسات، لقد تصاعدت الممارسات السلمية لانتفاضة العراقيين بالرغم من تعرضهم للاعتقال والقتل بالاختطاف او بقنابل الدخان المسيل للدموع والرصاص الحي في اجسادهم النبيلة، هذه الانتفاضة انهت مايسمى بالعملية السياسية الدينية الطائفية، وهي مستمرة حتى تحقق جميع اهدافها النبيلة، ان كل شخص نزل إلى الشارع يشعر بأنه مسؤول شخصياً عن نجاح الأنتفاضة، ولن يتراجع قبل أن تتم تلبية مطالبه، لقد خرجت العنقاء وانتشر وجودها، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
435 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع