عندما ألّف الشيخ الحنفي جمعيّة لمكافحة البغاء سنة ١٩٤٨
لم يكن الحنفي عالماً اجتماعيا ًبالمعنى الأكاديمي الذي تحمله كلمة (عالم) من معانٍ ومدلولات... كما أنه لم ينتم ِ إلى أي مدرسة من مدارس السلوك أو التفاعل الأجتماعي... إنما خبراته الاجتماعية تراكمت من مصادر عدة أبرزها علاقاته وتفاعلاته مع الناس والهيأة الاجتماعية وسفراته المتعددة والخبرات التي تجمعت لديه من خلال النقلات الاجتماعية التي أكتسبها وثقافته الدينية الوعظية وما تحمله من مبادئ خلقية وقيم وسلوك اجتماعية،
أي أن أفكاره وآراءه الاجتماعية قد اكتسبها من(مدرسة الحياة) التي قال عنها"والحياة مدرسة تدرس الأحياء وقائع الحياة بأسلوب النظرية الصينية"تعلم السباحة في السباحة"فهي تكلمك في الجوع والشبع والخوف والأمان والظلم والعدل لا سمع الأذن على وجه الشرح والتعريف وإنما تذيقك ذلك وتريك منه ما تشاء رأي العين ولمس اليد فمن أحسن تعلم دروسها تعلم الكثير وهكذا يظل الإنسان يتعلم حتى إذا بلغ من العلم غاية بعيدة مات..".
في عام (1948) أشترك الحنفي مع الحاج محمد فؤاد الآلوسي والشيخ عبد الحق النقشبندي في تأسيس جمعية (الخدمات الدينية والاجتماعية). وقــــد ترأس الحنفي هذه الجمعية من عام (1948 – 1958). وهي جمعية وطّنت نفسها على معالجة المشاكل الاجتماعية، ولها مجلة شهرية تنشر كل نشاطاتها.
أما مركزها العام، فيقع في منطقة العيواضية متخذة من جامع الأمير عبد الآله مقرا ًلها وكان من بين أهدافها السعي لمكافحة المشاكل والعلل الاجتماعية وحث الحكومة على اتخاذ التدابير التي تشجع الزواج وتحمي النسل وتصون نظام الأسرة. والتعاون مع المؤسسات الحكومية والأهلية في سبيل اتخاذ تدابير الضمان الاجتماعي لصيانة العاملين من ويلات البطالة والمرض والشيخوخة.
ويـذكـر الحنفي سبب تأسيس هذه الجمعية فيقول في مذكراته"كنت ُ جالسا ً في أحد الباصات الكبيرة ذات يوم (في زمن الأربعينيات) والازدحام بالغ أشده، وكان بين القوم حدث صغير يكلم زميلا ً له مراهقاً في أمور من الأدب المكشوف دون أن يجد هذا الحدث ولا زميله ما يدعو إلى الحياء من الكثرة التي كانت تصغي إلى كلامه غير المهذب، وكان علي أن أفكر ثانية في هؤلاء الناس في الباص، وهم يؤلفون بكثرة أصنافهم مجتمعا ً قائما ً بنفسه، ما بالهم يرضون أن يتحداهم صبي صغير بمثل تلك الوقاحة المطلقة دون أن يجد بين الرجال من يتبرع بنصيحة صغيرة يدفع بها شخصية الصبي الصغير إلى السداد، لقد كان كل واحد من القوم يخاطب نفسه بأن شيئا ً من كل هذا لا يعنيه أصلا. إن هذه الجناية المزدوجة حفزتني إلى البحث في سلوك الأحداث".
لذا قام الحنفي بعد تأسيس الجمعية بإجراء دراسات في هذا الموضوع متنقلا ًبين بغداد والبصرة وبيروت والكويت وكراجي، وكتب نتيجة ذلك تقارير وأبحاثا ًلا تزال مودعة في أضابير هذه الجمعية التي أغلقت عام (1958). ونظرا ً لتعذر الوقوف على أضابير وسجلات هذه الجمعية، لذا من الصعب الإطلاع على تلك الأبحاث والتقارير ومن الصعب أيضا ً تقييمها وبيان الرأي بصددها... إلا أنه كما يبدو قد كرر بعض الآراء والأفكار عن موضوع الأحداث وسلوكهم فضلاً عن التشرد والبغاء في مقالات ومؤلفات أخرى.
ومن ضمن فعاليات الجمعية إجراء مقابلات مع الشخصيات البارزة ومنها مقابلة مع الملك (فيصل الثاني) يوم الثالث عشر من كانون الأول 1954 ودامت هذه المقابلة ما يقرب من (15) دقيقة، حيث رفع الحنفي إلى جلالته شكر الجمعية بمناسبة صدور الإرادة الـــملكية بـــتمليكها عـرصـات أمـيـريـة، كـمـا قـدم إلـيـه مـجـمـوعـة مـن مـنـشـورات الــجـمـعـيـة.
كما تمكنت الجمعية من مقابلة الأمير (عبد الآله) في البلاط الملكي في يوم الثامن والعشرين من آذار 1955، ودامت هذه المقابلة نحو عشر دقائق، حصلت الجمعية في إثرها على امتياز أعطاها صفة المنفعة العامة.
أصدرت الجمعية كرّاسين كانا من تأليف الحنفي أيضاً، الأول أصدرته عام (1952) بعنوان (كيف عالجنا مشكلة البغاء) سمته الكتاب الأزرق، وقد ضم جهود الجمعية في سبيل معالجة مشكلة البغاء في العراق. والثاني عام (1953) بـعـنـوان (مشاكل اجتماعية لم تحل بعد) سمته الكتاب الأصفر ضم جهود الجمعية ومساعيها في سبيل معالجة مجموعة من المشاكل الاجتماعية من بينها التشرد والعزوبة والأسر الفقيرة.
أما بالنسبة للكرّاس الأول، فتناول موضوع البغاء من خلال توضيح معنى البغاء وكيفية معالجته. والبغاء يعني نوعاً من الرق والمتاجرة بالعرض وهو محرم في الإسلام وتنكره التقاليد الاجتماعية في كل أمة كما تنكره النظم الحديثة. وتحريمه في الإسلام لم يكن شيئاً غير مستند إلى حكمة، وحكمة تشريع التحريم هي الأضرار التي تنشأ عن البغاء بما ينشر من أمراض فتاكة وما يفسد من الأنساب ويفسد من الكرامة والشرف هذه الحكمة التي نزلت بسببها آية التحريم قبل أربعة عشر قرناً، أصبحت اليوم نفسها في القرن العشرين مــثــار اهتمام المجتمعات الحديثة بإنقاذ البشرية من هذه العاهة الاجتماعية.
وكان من رأي الحنفي في المعالجة أن لا تكافح هذه المشكلة الخطيرة بالطرق السطحية الشائعة التي يقتصر أصحابها على الدعوة إلى نقل المبغى من مكان إلى مكان آخر، أو مطاردة البغايا من منطقة إلى منطقة أخرى، أو إبداء السخط الشديد لشيوع هذا المنكر من دون أن يكون ذلك مصحوباً بتفكير جدّي في معالجة المشكلة معالجة جدية. لذا اتجهت الجمعية في مكافحتها للبغاء إلى طرق وأساليب من شأنها أن تضع الحل النهائي لهذه المشكلة. إذ قامت بدراسة عدد كبير من التقارير الرسمية وغير الرسمية التي وضعها بهذا الشأن الخبراء والباحثون، كما تتبعت ما نشر في الصحف من دراسات وآراء في هذا الصدد، واطلعت على مجموعة من الأنظمة واللوائح المتخذة لهذا الغرض بل إنها ألفت لجنة من بين أعضائها عهدت إليها القيام بمهمات تحقيقية في داخل المبغى العام.
ومما يجدر ذكره، أن الجمعية حصلت على إحصاء رسمي من مديرية الصحة العامة في بغداد عن الأمراض الناشئة عن البغاء بين سنتي (1949 – 1950) في جميع ألوية العراق، ووقفت على القوانين المعمول بها في سوريا ومصر لمكافحة البغاء واتصلت بجمعية الاتحاد النسائي في مصر في صدد التعاون معها في هــذا الشأن.
ولم تكتف الجمعية بهذه الجهود والاتصالات، بل إنها عمدت إلى أساليب أخرى غير مسبوقة، فقد دعت إلى مقرها بجامع الأمير عبد الآله في منطقة العيواضية عددا ًمن المسؤولين لدعوات شرب الشاي مع أعضائها ودراسة هذا الموضوع بعيدا ًعن رسميات الدواوين الحكومية ومن بين الذين لبّوا دعوة الجمعية السيد (سعد عمر) وزير الشؤون الاجتماعية في الثاني عشر من كانون الثاني 1950. والسيد (حسين جميل) وزيـر العدلية في الرابع عشر مـن كانون الثاني 1950.
وماجد مصطفى وزير الشؤون الاجتماعية في الحادي والثلاثين من تشرين الثاني 1950.
والسيد عبد الجبار فهمي مدير شرطة لواء بغداد في الثاني عشر من أيار 1951. والدكتور عبد الجبار الريزه لي مدير الخدمات الاجتماعية العام في الرابع من حزيران 1951.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن دار البغاء العلنية الوحيدة ببغداد كانت تقع في محلة الميدان (وسط بغداد) ومدخلها الرئيس مفتوح الأبواب نهارا ً وليلا ً على أهم شارع في العاصمة وهو شارع الرشيد. وإن هذه الحالة هي عكس ما هي عليه في المدن الكبرى المماثلة لبغداد من حيث الأهمية الاجتماعية، إذ لا تجيز لأماكن البغاء العلنية فتح أبوابها على شوارعها الرئيسة بل تضعها في أماكن منزوية في شوارع ضئيلة الأهمية من الوجهتين الاجتماعية والمرورية، وهذا الأمر مهم في نظرنا"لأن وجود المبغى العام في المكان الذي هو فيه ببغداد يكون ذا سمعة سيئة للمجتمع من جهة، كما أن شدة المرور للطبقات كافة في هذا الشارع أمر يجعل المبغى العام من حيث موقعه بمثابة الإغراء لـحديثي السن والمراهقين من الجنسين من جهة أخرى، وعلى العموم يمكن القول إن جمعية الخدمات الدينية والاجتماعية وعلى الرغم من أهدافها النبيلة ودوافعها الأجتماعية الصادقة، إلا أن التوفيق لم يحالفها في حل كل المشاكل التي تصدت لمعالجتها أو اقترحت الحلول للنهوض بها وذلك بسبب ضعف إمكاناتها المالية ومحدودية نشاطها واقتصارها على مركز مدينة بغداد.
أغلقت هذه الجمعية بعد ثورة 14 تموز 1958 بقرار من وزير الداخلية آنذاك (عبد السلام عارف) وقد أحتج الحنفي على قرار الإغلاق ونشر مقالات متعددة في الصحافة ضد هذا القرار متعجباً من أن أحدا ً لم يعترض عليه فيقول"لماذا أغلقت هذه الجمعية وما حيثيات إغلاقها وهدر وجودها ومعاقبتها"وأضاف مندداً"إن مثل هذه الأحداث تكثر في ساحة الأمة وليس فيها جهاز قضائي أو إداري يندد بذلك... ذلك أن الأمة لا مفكّر فيها يصرخ بأعلى صوته أو يدندن بينه وبين نفسه بأن الوزير لا يملك الحق الذي زعم أنه يملكه، فيغلق جمعية أو يعطل جـريـدة أو يسـجـن سـجـيناً .
المصدر/ المدى - عن رسالة (جلال الدين الحنفي وأثره الثقافي في المجتمع العراقي) أنوار ناصر حسن.
1270 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع