١٦تشرين الثاني ١٩١٦ (دگة) عاكف بك في الحلة
واقعة عاكف التي يطلق عليها الأهالي الذين عاشوا تلك الواقعة المؤلمة بـ (دگة عاكف) وليست واقعة لأن كلمة (دگة) باللغة العامية تدل على التعسف والظلم والمأساة والعنف التي ألحقها الجيش العثماني بقيادة قائدهم (عاكف بك) وكانت الواقعة الأولى في يوم 24/8/1916 والواقعة الثانية في يوم 16/11/1916 وبمناسبة مرور مئة عام (قرن من الزمن) على تلك الواقعة التي لا زال أهالي الحلة يتذكروها عن أجدادهم بألم وحسرة ومرارة.
كان العراق مستعمراً للدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى التي دخلت الحرب بجانب ألمانيا ضد دول الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية). ولما كان العراق خاضع للدولة العثمانية فإنه تحمل مآسي وويلات تلك الحرب ومن تلك المآسي مشاركة أبناء الشعب العراقي وتجنيدهم في تلك الحرب التي كان العراق لا ناقة له فيها ولا جمل لأنها كانت حرب استعمارية من أجل تقسيم دول العالم بين الدول الرأسمالية لاستغلال خيراتها وجعلها أسواقاً لتصريف السلع والبضائع التي تنتجها المصانع الرأسمالية.
كان العراقيون يهربون من المشاركة في تلك الحرب ومن ضمنهم أبناء مدينة الحلة، وكانت الحكومة التركية ترسل شرطتها (الجندرمه) لملاحقة الهاربين من الحرب وإلقاء القبض عليهم. وكان الهاربون من أبناء الحلة يختفون في درابين وأزقة محلات (الجامعين وجبران والطاق). وكان أهالي المحلات يساعدون الهاربين ويخفونهم في بيوتهم وفي أحد الأيام أطلق (الجندرمه) النار على أحد الهاربين وعلى البيوت التي اختفوا بها فنشبت معركة بالأسلحة النارية بين (الجندرمه) وأهالي المحلات فقتل أحد رجال (الجندرمه) ففرضت الحكومة التركية في مدينة الحلة منع التجول على تلك المحلات للبحث عن القاتل ولم تعثر عليه وفي يوم 24/8/1916 دخل القائد العسكري العثماني (عاكف) مدينة الحلة بقوة عسكرية كبيرة واستدعى (مختاري المحلات في الحلة) وأمهلهم مدة (24 ساعة) على أن يجلبوا له أسماء جميع الهاربين من المشاركة في الحرب (الأفرارية) وعندما عجز (مختارو المحلات من جلب أسماء الهاربين) دفعت صلافة وعنجهية ذلك القائد (عاكف) أن يدخل بقواته العسكرية يوم 27/8/1916 محلات (الجامعين وجبران والطاق) فتصدى له أبناء تلك المحلات بقيادة السيد أحمد السالم وتوت ونشبت معركة دامية بين أبناء تلك المحلات والقوات العثمانية قتل على أثرها كثير من الجنود العثمانيين مما أجبر القائد العثماني (عاكف) على الانسحاب من تلك المحلات والهرب من المعركة وغادر مدينة الحلة مع من بقي من الجنود عن طريق نهر الحلة بواسطة السفن إلى مدينة سدة الهندية ومن هنالك ذهب إلى مدينة المسيب التي فيها ثكنة عسكرية كبيرة كان يمارس عمله فيها. حينما سمعت عشائر خفاجة واليسار القريبة من مدينة الحلة فأثارت النخوة والغيرة لديهم لما فعله العثمانيون بأهالي الحلة فقرروا الذهاب والانضمام إليهم ومساعدتهم في محاربة العثمانيين. كانت تلك المناطق من مدينة الحلة تحيطها سور من الطين (الطوف) وتوجد في تلك الأسوار أبواب للدخول منها إلى مدينة الحلة مثل (باب المشهد وباب في منطقة الجبل قرب العلاوي وباب مجاوره إلى مرقد العلامة (ابن النما) وباب الحسين). وحينما جاء رجال العشائر وأرادوا الدخول إلى مدينة الحلة من باب الجبل منعهم الجندرمه الذين كانوا يحرسون تلك الباب من الدخول إلى مدينة الحلة فنشبت بينهم وبين رجال العشائر معركة بالأسلحة النارية فقتل جميع رجال الجندرمه الذين كانوا يحرسون باب الجبل. على أثر تلك المعركة تألف وفد من وجهاء الحلة لمقابلة قائممقام مدينة الحلة من أجل تهدئة الأمور وعودة السلام إلى المنطقة وكان قائممقام مدينة الحلة (مصطفى بك المميز) فاستقبلهم بالسب والشتم والإهانة والكلام المشين فنشب شجار عنيف بين أعضاء الوفد والقائممقام مما دفع أحد أعضاء الوفد (الحاج علي الشيخ حسن) ثأراً لكرامتهم بالذهاب إلى مجموعة من الرجال الشجعان فذهبوا إلى بيت القائممقام واقتادوه مشياً على الأقدام إلى أحد العربات التي تجرها الخيول المتوجهة إلى بغداد التي كان يطلق عليها اسم (الكاري) وطرده من مدينة الحلة وحينما علم الوالي التركي على العراق بالنبأ وكان في ذلك الوقت في مدينة كرمنشاه أرسل برقيه إلى القائد (عاكف) يأمره بالتحرك بسرعة للقضاء على العصاة الحليين وفي يوم 13/11/1916 وصل مع جيش كبير مجهز بالمدافع والأسلحة الثقيلة وكانت طائرة تحلق فوق الجيش إلى حدود مدينة الحلة، وحينما علم وجهاء الحلة تألف منهم وفد ورجال الدين لمقابلة القائد (عاكف). فاستقبلهم (عاكف) واستعمل معهم المكر والخديعة حيث أخبرهم بأنه ينوي المرور بمدينة الحلة والذهاب إلى مدينة البصرة لمقاتلة الجيش البريطاني الذي ينوي احتلال العراق. وحينما عاد الوفد إلى مدينة الحلة وطمأن أهاليها عن نية القائد عاكف بالمرور بمدينة الحلة والذهاب إلى مدينة البصرة لمحاربة الانكليز. فتألف وفد كبير من وجهاء الحلة وتوجه إلى (مشهد الشمس) في باب الحسين الذي يعسكر فيه الجيش العثماني وقد رفض السيد أحمد السالم وتوت الذهاب مع الوفد وقرر مغادرة مدينة الحلة إلى مدينة النجف الأشرف حينما علم بنية (القائد عاكف) المرور بمدينة الحلة لأنه مطلوب من قبل عاكف وكلامه ووعوده مجرد خداع ومكر. وحينما وصل وفد وجهاء الحلة إلى منطقة (مشهد الشمس). وبدلاً من مواصلة الجيش مسيرته نحو مدينة البصرة قام بعملية التفاف حول أعضاء الوفد ومحاصرتهم ومنعوهم من العودة إلى مدينة الحلة وجاء عاكف راكباً على أحد الخيول يحيط به مجموعة من الجنود العثمانيين وقال لأعضاء الوفد (إن أهالي الحلة عصاة وجناة ومتمردين ونحن جئنا لضبط مدينة الحلة ومعاقبة الجناة والعصاة وإنكم سوف تبقون ودائع لدينا حتى تتم مهمتنا وإذا تعرض جنودنا لسوء أو أذى سوف تكونون أنتم المسؤولين عن ذلك).
وحينما علم أهالي الحلة نوايا عاكف الجهنمية المجرمة غادر الكثير منهم بيوتهم إلى القرى والمدن المجاورة هرباً من القتل والتعذيب والسجن والإبعاد الذي سوف يمارسه الجيش العثماني ضدهم. فدخل إلى مدينة الحلة فوج من الجنود العثمانيين بصحبة مختاري المحلات فاحتل دور الحكومة ومخافر الجندرمه والثكنات العسكرية والأماكن المرتفعة والبنايات العالية التي تشرف على المدينة وبعد أن تم له ذلك أعلن عاكف أن جميع أهالي الحلة عصاة وجناة ولكن مرحمة صدرت من الباب العالي في إسطنبول بالعفو عنهم باستثناء المجرمين الذين سوف ينالون العقاب. وفي يوم 16/11/1916 نادى المنادي على جميع أهالي الحلة عدم مغادرة بيوتهم لأن مدافع الجيش العثماني سوف توجه لتدمير ثلاث محلات في مدينة الحلة (الجامعين وجبران والطاق). فساد الخوف والرعب والهلع النفوس وقد هرع وغادر من بقي من أهالي تلك المحلات دورهم واستمر القصف المدفعي وتساقط القنابل على بيوت المحلات الثلاث لمدة ساعتين مما أدى إلى تهديم عشرات البيوت وبعد توقف القصف المدفعي دخلت سرايا الجيش العثماني تلك المحلات فعاثت بالبيوت بعد أن كسروا وخلعوا الأبواب تدميراً بالقنابل اليدوية وسلبوا ونهبوا جميع أثاث البيوت أو حرقوها وقد سبيت تلك المحلات تدميراً وتخريباً ثلاثة أيام حتى يوم 19/11/1916. ثم بدأت عملية إلقاء القبض على كل مشتبه به وأمر عاكف بتشكيل محكمة عسكرية فأصدرت أحكام الإعدام شنقاً حتى الموت على (127 رجلاً) وكان من بين المحكومين الحاج علي الشيخ حسن وثلاثة من إخوانه ومحمد سعيد وملا إبراهيم الجبوري وولده عبود وجبار الحساني وحسين حمادي الحسن وقد بلغ عدد القتلى الذين قتلهم الجيش العثماني من أهالي الحلة ألف وخمسمائة إنسان كما نفي (231 رجلاً) من أهالي الحلة إلى جزيرة برنكهام وفي يوم 27/11/1916 أصدر الباب العالي في إسطنبول عفواً عاماً عن بقية المتهمين.
المدى/فلاح أمين الرهيمي
358 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع