ربيع الهروب الجماعي للشعب الكردي في ٣١ آذار ١٩٩١
يجهل الكثير من أبناء الشعب العراقي تفاصيل أحداث الانتفاضة الشعبية والهجرة المليونية التي حصلت في شهر آذار من عام 1991 في كردستان , حيث سقطت بنتيجتها محافظة السليمانية يوم 7 آذار كما وسقطت محافظة أربيل يوم 11 آذار وجاء دور محافظة دهوك لتسقط يوم 13 آذار وكانت محافظة كركوك قد اختارت يوم 21 آذار لتقوم بانتفاضتها وتتحرر من قيود النظام وتفشل كل الاستعدادات العسكرية والأمنية الهائلة التي اتخذها(علي حسن المجيد)في هذه المحافظة والذي تعهد للرئيس العراقي السابق(صدام حسين) بالدفاع عن المدينة ومنع سقوطها بكل الوسائل ولم يستطع الوفاء بتعهده وخابت آماله واختار طريق الهروب للنجاة بنفسه بعد سقوط المحافظة بيد قوات البيشمركة والجماهير المساندة لها في ذلك اليوم التاريخي.
تحدثنا بالتفصيل عن أحداث الانتفاضة وتفصيلات وقائعها من خلال مقال نشرته صحيفة الزمان في عددها (5372- 5373 ) في 21- 22 آذار 2016 تحت عنوان شاهد على الأحداث يروي لـ ( الزمان) أسرار تنشر للمرة الأولى عن انتفاضة مدينة أربيل في عام 1991 كما نشر المقال في موقعي مجلتي ( الكاردينيا ومعارج الفكر ) والمقال هو تلخيص لمشاهداتي ومعايشتي لأحداثها بحكم مسؤوليتي وقت وقوعها , حيث كنت برتبة عقيد شرطة وبمنصب نائب مدير شرطة محافظة أربيل.
كاتب المقال عندما كان نائباً لمدير شرطة محافظة أربيل
سقطت مدينة أربيل بجميع أقضيتها ونواحيها بيد قوات البيشمركة ولم يبق أي أثر لسلطات الحكومة المركزية في بغداد فيها وقامت الجبهة الكردستانية وهو ائتلاف مشكل من الأحزاب الكردستانية بتشكيل لجان متعددة في مختلف الاختصاصات لإدارة شؤون المحافظة وكما هو الحال في محافظتي السليمانية ودهوك من خلال قرارات وبيانات أذيعت من الإذاعات المحلية المستحدثة التابعة لقسم من هذه الأحزاب وكانت تتضمن العديد من الأمور في مجال الوضع السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والإداري الجديد في المحافظة , تضمنت احدى هذه البيانات الطلب من الموظفين العودة الى دوائرهم لغرض مزاولة أعمالهم المعتادة ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى تعرض أغلب بنايات دوائر الدولة لعمليات النهب في محتوياتها من الأثاث والمستلزمات وتبعثرت الكثير من الأضابير والأوراق والمستمسكات الرسمية التي تخص عمل هذه الدوائر وقسم منها له علاقة بحقوق المواطنين بالإضافة الى قيام المواطنين الغاضبين ومن ضمنهم أهالي الأشخاص الموقوفين في مبنى شرطة الموقف والتسفيرات في أربيل بالهجوم على البناية المذكورة وإطلاق سراح جميع الموقوفين فيه دون تمييز.
جميع قطع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة والتي تركها الجيش العراقي بعد استسلامه اصبحت في حيازة المواطنين والذين قاموا بالتصرف بها حسب رغباتهم , ويظهر بأن الأحزاب الكردستانية عند سيطرتها على المحافظات المذكورة لم تكن قد فطنت إلى موضوع جمع هذه الأسلحة والاحتفاظ بها والاستفادة منها لاحقاً وقد تداركت هذا الخطأ في أحداث عام 2003 عند قيام قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق وإسقاط نظام الرئيس العراقي السابق ( صدام حسين).
استمرت حالة الهدوء والسكينة في المدن الكردستانية لعدة أيام لحين ورود معلومات تفيد بقيام تشكيلات من الحرس الجمهوري بهجوم واسع على كردستان بعد منتصف شهر آذار عام 1991 وكانت (خانقين) أول مدينة كردية تمكن الجيش العراقي من إعادة السيطرة عليها , كما وتمكن في 19 آذار من إعادة السيطرة على مدينة ( طوز خورماتو) بعد قتال عنيف مع قوات البيشمركة .
توجهت القوات العسكرية العراقية بعد ذلك إلى مدينة كركوك وحصلت معارك على أطرافها في منطقة( تازه خورماتو) وقرية ( يارمجه) كما تعرضت مدينة كركوك ليلة 27/ 28 آذار إلى قصف مدفعي عشوائي وتزامن ذلك مع تحرك هذه القوات نحو المدينة من عدة اتجاهات وقد تصدت قوات البيشمركة لها ببسالة في معركة استمرت لمدة ساعتين مما اضطر هذه القوات بسبب اختلال التوازن بين طرفي المعركة في العدة والعدد إلى تخلي القوات المدافعة عن المدينة وانسحابها منها وسيطرة القوات الحكومية عليها بالكامل.
نعود للحديث عن وضع مدينة أربيل ومواطنيها فبعد انتشار الاشاعات خلال الأيام 25- 26 آذار تزامناً مع هجوم الجيش العراقي على مدينة كركوك ووصول طلائع العوائل الهاربة منها إلى مدينة أربيل والذين بلغ عددهم ما يقارب المائة ألف مواطن بات من المؤكد أن تكون الوجهة القادمة لهذه القوات هي مدنتي السليمانية وأربيل .
بعد انجاز القوات العراقية سيطرتها الكاملة على مدينة كركوك تحركت بإتجاه محافظة السليمانية وأربيل , حيث تحركت باتجاه المدينة الأخيرة في محورين بإتجاه مدينة ( ألتون كوبري) من محوري كركوك – ألتون كوبري والدبس ألتون – كوبري , على أثره توجه عدد من قوات البيشمركة يساندهم مجموعة من المواطنين للدفاع عن المدينة المذكورة حيث اشتبكوا مع تلك القوات في مناوشات استمرت لمدة يومين , وبسبب عدم التكافؤ في التحضيرات من حيث العدة والعدد انسحب المكلفون من مهمة الدفاع عنها.
استمرت القوات العسكرية الحكومية بعد ذلك في تقدمها نحو مدينة أربيل ووصلت إلى أطراف المدينة من الجهة الجنوبية يوم 29 آذار وهي بدلاً من أن تقوم بحملة توعية لمواطني المدينة من خلال إلقاء المناشير بالطائرات المروحية أو من خلال الإذاعة المركزية أو نصب إذاعة محلية لغرض الطلب من المواطنين البقاء في مساكنهم وعدم مبارحتها وبأن القوات الحكومية لا تنوي شراً بأحد وإنها أي الحكومة العراقية قد أصدرت عفواً عاماً عن الجميع , نعم بدلاً من ذلك وكعادتها في الغطرسة والغرور وهي في أسوء حالات الفشل والاندحار السياسي والعسكري وينطبق عليها قول الشاعر: (( أسد علي وفي الحروب نعامة))حيث بدأت القطعات العسكرية المحاصرة لهذه المدينة من الجهة الجنوبية كما ذكرنا بقصف عشوائي لمختلف قواطع ومحلات المدينة بالمدفعية والهاون , مما تسبب في وقوع الكثير من الضحايا في صفوف المواطنين الأبرياء وهذا السلوك الشائن للحكومة شجع المواطنين على تصديق الإشاعات من أن الحكومة سوف تستعمل الأسلحة الكيميائية من أجل احتلالها وإعادة سيطرتها عليها لا سيما وهي صاحبة سوابق في هذا المجال بالنسبة لسكان المحافظات الثلاثة .
كان مواطنو مدينة أربيل يعيشون حالة من الترقب ممزوجة بنوازع القلق والخوف من مستقبلهم المجهول وكانت قوات البيشمركة تحث المواطنين على الصمود والاستعداد لمواجهة القوات المهاجمة , اشتد القصف على المدينة ليلة 30/ 31 آذار وبدأ سكانها تحضيراتهم من أجل تركها والتوجه إلى المناطق الجبلية شمالها عن طريق أربيل – شقلاوة وأربيل – كويسنجق وبمختلف الوسائل المتاحة ( سيارات الصالون, سيارات الركاب, سيارات الحمل , التركترات, الحيوانات , مشياً على الأقدام) منعت قوات البيشمركة المواطنين أول الأمر من الخروج من المدينة إلا أن اشتداد الزخم الهائل للمواطنين تاركي المدينة وهم في أشد حالات الهلع والخوف واستغلالهم لكافة منافذ المدينة ومسالكها الخارجية في الشوارع المبلطة والنيسمية حال دون ذلك.
دخلت طلائع القوات العسكرية الحكومية الى مدينة أربيل مع بزوغ فجر يوم 31 آذار وكان يوماً يشبه يوم الحشر في بعض جوانبه حيث كنت ترى الناس هائمين على وجوههم شيباً وشباباً ونساء وأطفال لقد كان منظرا مؤلماً لشعب قرر الهروب من المصير الذي كان ينتظره وترك كل شيء مسكنه وحاجياته.
لم أنم في تلك الليلة وكذلك كان حال عائلتي وحال جميع العوائل حيث كنا نسمع دوي انفجار القنابل وإطلاق العيارات النارية , واستمر الناس في التشاور مع أقربائهم في كيفية التصرف في تلك المحنة المقبلة والاتفاق على وقت ترك المدينة واختيار الطريق الذي يسلكونه مع تحديد الوجهة .
خرجت مع عائلتي المكونة من زوجتي و اطفالي الخمسة وأهلي وأقربائي في الساعة السابعة من صباح ذلك اليوم المشؤوم مستقلين السيارات التي كنا نملكها من صالون وسيارة ركاب (كوستر) وبيكب وقلاب ونحمل معنا ما خف وزنه وغلى ثمنه .
بالنسبة لي تركت منزلي على وضعه دون أن أصطحب معي شيئاً سوى ما كنت أملكه من مال بسيط معي قدره (40 ) أربعون ألف دينار وذكريات سنين حياتي وأقصد صور العائلة وقد أوصيت البعض من أقاربي ومعارفي الذين قرروا البقاء في المدينة وعدم مبارحتها أن يحاولوا جهد إمكانهم الحفاظ على مكتبتي وما تحتويه من كتب.
نداءات الجبهة الكردستانية التي تحث على الصمود والمقاومة لم تلق أذناً صاغية لا من البيشمركة ولا من السكان المدنيين , لقد كانت مسيرة يصعب وصفها حيث جموع حشود المواطنين الهاربين المنتشرين في السهل الممتد من أربيل شمالاً باتجاه جبل (سه ربه ن) الذي تقع عليه مدينة صلاح الدين (بيرمام) وهم بكثافتهم غطوا جميع مساحة هذا السهل الكبير المترامي الأطراف , من اختار الهروب راجلاً لعدم حصوله على وسيلة أخرى كان أسرع في المسير من الذين كانوا يستقلون السيارات بسبب شدة الازدحام وتراكم هذا العدد الهائل منها في هذا المكان وعلى جميع المنافذ الصالحة للمرور ...
العوائل تتعاون فيما بينها في حمل الأطفال والشيوخ والمعوقين وكانت الطائرات السمتية العراقية تحوم فوق جموع الجماهير الهاربة وبدلاً من أن تلقي عليهم الطعام وتحثهم على العودة إلى مساكنهم وتزرع في قلوبهم الأمان والاطمئنان من خلال إلقاء المناشير ... نعم بدلاً من ذلك فقد أخذت إحدى هذه الطائرات تطلق نيرانها باتجاه جموع المواطنين الهاربين واختلط صوت الانفجارات وإطلاق النار مع أصوات الناس , فالرجال رافعي أكفهم للسماء يستنجدون بالباري عز وجل لإنقاذهم من هذه المحنة وأن تمر عليهم هذه اللحظات بسلام وعويل وصراخ النساء والأطفال يملئ الأرجاء , منظر وموقف لا يمكن أن أنساه ما دمت حياً , كنت داخل سيارة الصالون ( برازيلي) مع بعض أقاربي وعائلتي والبعض من أقاربي في سيارة الكوستر .... يا له من منظر لموقف تقشعر له الأبدان فالناس في العراء دون وجود أي مخبأ أو عارض يحميهم من القصف لحظات مرت كأنها دهر من الزمن , توارت الطائرات عن الانظار إلى قاطع أخر وكان هذا مبعث ارتياح لدى الناس, كانت نتيجة القصف والرمي من قبل الطائرة المروحية العراقية في المنطقة التي كنت فيها إصابة سيارة صالون برازيلي وبداخلها رجل وامرأة وقد فارقا الحياة وعلى بعد مسافة قريبة منا شاهدنا سيارة نقل أشخاص (منشأة) وهي مصابة بصاروخ وجميع ركابها كانوا بين قتيل وجريح.
ما دمنا نتحدث عن الطائرات المروحية ودورها في إخماد الانتفاضة الشعبية في عام 1991 وقبل أن يفوتني أود أن أذكر الملاحظتين التاليتين:
الأولى: لكي أكون منصفاً في ذكر الحقائق فلا بد لي أن أشير الى حقيقة مفادها بأن الطائرات المروحية العراقية المحلقة في سماء المنطقة لو قامت جميعها وبشكل مستمر في إطلاق النار على حشود الجماهير لكانت النتائج كارثية و لتسببت في قتل الآلاف منهم حيث أن أية إطلاقه تطلقها هذه الطائرات لا بد من أن تصيب إنساناً ولو كان الرمي عشوائياً.
الثانية: سماح الولايات المتحدة الأمريكية لقوات الحرس الجمهوري بالعبور والتوجه إلى المدن العراقية واستخدام الطائرات المروحية وقد تقرر ذلك ضمن اتفاقية ( خيمة سفوان) وهي الاتفاقية التي أقرت فيها الحكومة العراقية بالهزيمة وخسران الحرب وكانت بين ممثلي دول التحالف برئاسة الجنرال (نورمان شوارتسكوف) وممثلي الحكومة العراقية برئاسة الفريق (سلطان هاشم) والذين كان حضورهم فقط من أجل التوقيع على وثيقة الاستسلام وعرض طلب الحكومة العراقية للسماح لها باستخدام الطائرات المروحية لغرض تنقل المسؤولين العراقيين وحجتهم في ذلك هو تدمير الجسور وطرق المواصلات من جراء العمليات العسكرية التي صاحبت حرب تحرير الكويت وتبين بعد ذلك زيف هذا الإدعاء والنوايا الحقيقة للحكومة العراقية في الاستعداد من خلال استخدام هذه الطائرات في قمع الانتفاضة الشعبية في عموم محافظات العراق التي شملتها هذه الأحداث.
خيمة سفوان عام 1991
نعود لنستكمل مسيرة الهروب السلحفاتية حيث قطعنا مسافة تقدر باثني عشر كيلو متراً من مدينة أربيل وقبل الوصول الى منعطفات صلاح الدين البالغة عددها أربعة عشر منعطفاً لشارع ذو ممر واحد وأصبحت حالياً خمسة منعطفات لشارع ذو ممرين , نعم قطعنا هذه المسافة القصيرة بثلاثة ساعات ووصلنا مدينة صلاح الدين في الساعة الواحدة من بعد ظهر ذلك اليوم حيث لاقتنا صعوبات جمة ومشقة في اجتياز منعطفاتها , جلب انتباهي في هذه المدينة قيام إحدى العوائل الهاربة بترك أحد أفرادها وكان رجلاً مسناً ومقعداً لعدم تمكنهم من حمله معهم بعد أن قاموا بوضعه على فراش في جانب الطريق وترك بعض الخبز والماء له , كما لاحظت هروب أفراد الجيش الذين اختاروا البقاء في مدينة أربيل مع جموع الهاربين خوفاً من بطش السلطات الحكومية العراقية بهم بسبب عدم عودتهم إلى أماكن سكناهم ووحداتهم العسكرية .
انحدرنا من المدينة المذكورة باتجاه قرية (كوري) سالكين منعطفاتها وعند وصولنا هذا المكان أصبح الطريق سالكاً بعض الشيء بسبب اجتياز الكثيرين لمنطقة الازدحام , واصلنا المسير مروراً بقضاء شقلاوه وناحية حرير ومن ثم وصلنا ناحية خليفان والتي كانت وجهتنا الأخيرة وكنا منهكين من هذه الرحلة الصعبة والشاقة والمحفوفة بالمخاطر وفور وصولنا ذلك المكان شعرنا بالأمان النسبي بعد أن ابتعدنا عن مكامن الأخطار وانشغلنا في جرد جميع الأفراد الهاربين من مجموعتنا لغرض التأكد من سلامة وصول الجميع وكانت المفاجئة تخلف خمسة شبان من عوائلنا وكان أحدهم ولدي الكبير ( ديار) وبهذا الخبر خيم شعور من القلق والخوف على مصيرهم مما حدا بنا الى قطع استراحتنا والانتقال للوقوف على الشارع العام المار من وسط المدينة ومشاهدة جموع الناس وهم يقطعون ذلك الشارع بالسيارات وسيراً على الأقدام وكنا نستفسر من الذين نعرفهم عن مصير الشبان المذكورين والذين تبين فيما بعد بأنهم قد خرجوا من أربيل سيراً على الأقدام لعدم توفر أماكن في وسائط النقل التي كانت بحوزتنا.
استمرت حالة عدم الارتياح والقلق لدينا وجميع أقربائنا على مصير المذكورين وبعد انتشار الاشاعات حول قيام الجيش العراقي بقتل الكثير من المواطنين بعد دخوله مدينة أربيل وتعقبه للمواطنين الهاربين , كانت حالة القلق تزداد بمرور الوقت وعدم وصول الشبان أو وصول أي خبر عنهم مع استمرار أمهات وشقيقات وقريبات المذكورين بالبكاء في قرية ( زارگلي) والتي تقع في مدخل ( گلي علي بيكَ) .
لم نستطع النوم في تلك الليلة لصباح اليوم التالي حيث وصل الشبان الخمسة فرحنا بوصولهم واستقبلناهم بالأحضان وبدموع الفرح وهم يرون لنا ما حصل لهم من صعوبات وأذى ومشقة في هذه الرحلة سيراً على الأقدام.
بالرغم من تركنا لمدينة أربيل ووصولنا إلى ناحية خليفان والتي تبعد عنها مائة كيلو متر إلا أنه لا بد أن نعود إليها لنتحدث عن ما حصل لمواطنيها الذين اختاروا وفضلوا البقاء فيها ولم يتركوها وكان عددهم يقارب الثلاثون بالمئة من نسبة سكانها الذي كان يبلغ في ذلك الوقت مليون نسمة , كانت أوامر الحكومة العراقية صريحة لقيادة القوات العسكرية العراقية المكلفة بإعادة السيطرة على المحافظات الثلاثة ( أربيل , السليمانية , دهوك) وذلك من خلال منحهم صلاحيات حرة غير محدودة في التصرف وعدم التهاون واستعمال أقصى حدود الشدة والحزم وحسب ما يقرره كل ضابط مسؤول عن كل قطاع من قواطع المدينة لذلك اختلفت الروايات عن معاملة القطعات العسكرية التي أعادت سيطرتها على المدينة من قاطع إلى آخر وحسب سلوك وأخلاق وضمير الضابط المسؤول عن كل قاطع.
قامت القطعات العسكرية في بداية دخولها المدينة بالقبض على عدد كبير من شبان المدينة ورحلتهم إلى مناطق مخمور والموصل وانقطعت أخبارهم ليومنا هذا ومن المؤكد قيام هذه الجهات بتصفيتهم لا لذنب اقترفوه سوى كونهم من المواطنين الذين كانوا ينتمون الى عوائل معروفة الولاء للحكومة العراقية على طول الخط ومسيرة حياتها أو كونهم من العوائل التي لا دخل لها في السياسة ومشاكلها واختاروا البقاء لاعتقادهم من أنهم في مأمن من الإجراءات الحكومية لكونهم أبرياء ولم يبدر منهم ما يشكل خرقاً للقانون العراقي.
لا شك بأن الجريمة الوحيدة التي أقترفها هؤلاء الشباب هو خطأهم وسوء تقديرهم للأمور وعدم هروبهم مع بقية مواطنيهم ودفعوا حياتهم ثمناً غالياً لهذا الخطأ ومن المؤكد بأن عوائلهم تشعر بالندم والإحباط على مصير فلذات أكبادها والذين استمروا لفترات طويلة ينتظرون عودتهم دون جدوى.
استمرينا في البقاء في القرية المذكورة لمدة خمسة أيام وقررنا بعدها على أثر الاشاعات التي كانت تتداول عن عزم السلطات الحكومية العسكرية التقدم وإعادة سيطرتها على كافة المناطق في كردستان.
خرجنا يوم 5 نيسان متجهين صوب الحدود الإيرانية وعددنا يربو على الاربعون شخصاً من الرجال والنساء والأطفال وكان الطريق سالكا نوعا ما حيث مررنا بقضاء الصديق وكان هذا اسمه في تلك الفترة وقبلها قضاء راوندوز وفي الوقت الحالي قضاء سوران ولحين وصولنا الى مفرق ناحية كَلاله حيث تكدست السيارات وأصبح المرور مستحيلا في الشارع الجبلي الضيق ذو الممر الواحد , بقينا تلك الليلة في ذلك المكان وفي العراء وكان الجو بارداً وممطر في بعض الاحيان.
بصعوبة بالغة وصلنا مشارف قضاء جومان وبقينا فيه ثلاثة ليالي في العراء ولا شيء يحمينا من البرد والمطر سوى غطاء بسيط من النايلون كما أود أن أشير أن ربيع تلك السنة تميز بكثافة الامطار وبرودة الجو , تركنا ذلك المكان ووصلنا بصعوبة الى ناحية رايات بعد يومين من المسير البطيء والنوم داخل السيارات وبالرغم من قصر المسافة بين المدينتين .
من هذا المكان ونظراً لاستحالة مرور السيارات لتكدسها جراء قيام السلطات الإيرانية بإغلاق منفذ( حاج عمران ) الحدودي وعدم السماح للسيارات وراكبيها بالمرور إلا بعد التدقيق في هوياتهم وتفتيش السيارات بشكل دقيق هذه الحالة أرغمتنا على ترك سياراتنا وإكمال المسير نحو الحدود الإيرانية سيراً على الاقدام وكانت المسافة بين المدينتين (رايات – حاج عمران) تقدر بعشرة كيلومترات , كما قرر قسم من أقربائي العودة لعدم تحملهم عناء السفر.
كانت مسيرة شاقة خاصة بالنسبة للنساء والأطفال الصغار لا يمكن أن انساها وأنا احمل طفلي الصغير (بيار) البالغ من العمر سنتان وكنا نشكو الجوع والعطش والإرهاق , كنت أسير لفترات وأعطي لنفسي قسطاً من الراحة ولكي افسح المجال لأهلي وأقربائي من اللحاق بي وإكمال مشوار المسيرة المجبرين عليها دون رغبة منا جميعاً , لقد كان منظراً مؤلماً لا يحتمل لنفسي وعائلتي وأقربائي والناس جميعاً الهائمين على وجوههم نحو وجهة لا يرغبونها ولكن الحياة أثمن شيء لدى الانسان بعد اجتيازنا لنقطة الحدود الإيرانية باشرنا السير مع حشود الناس سيراً على الأقدام متجهين نحو مدينة ( خانه) الإيرانية والتي تبعد خمسة عشر كيلو متراً , ووصلنا الى مرتفعاتها المطلة عليها وكان النزول من هذه المرتفعات صعباً للغاية لاسيما وأنا احمل طفلي على صدري بحيث وصلت الى اسفلها وهي المدينة وشاهدت الجماهير الغفيرة من اهلها وهي مدينه كردية وهم منشغلين بمشاهده المنظر الذي يثير الشفقة والألم , كانوا يستقبلون جموع الناس الواصلة الى ذلك المكان بالترحاب وعرض خدماتهم عليهم في تقديم الطعام وإيجاد مأوى لهم وفعلا اصطحبوا الكثيرين الى مساكنهم وتقاسموا معهم المكان والطعام .
كانت وجهتنا نحن مدينه أشنوية وهي من المدن الكردية القريبة من الحدود العراقية الشيء الذي جلب انتباهي في الفترة التي كنت موجوداً فيها في المدن الكردية الإيرانية هو تشابه اللهجات والعادات ونمط الملابس فيها مع مثيلاتهما من المدن الكردية في العراق المتاخمة جغرافياً لها .
سبب اختيارنا التوجه نحو المدينه المذكورة هو وجود ابنة خالتي مع زوجها وأولادها فيه منذ عام 1975 حيث اختاروا البقاء فيها بعد انهيار الحركة الكردية نتيجة توقيع اتفاقية الجزائر نفس العام وقامت الحكومة الإيرانية بتخصيص قطع أراضي في المدينة المذكورة تم توزيعها على اللاجئين الاكراد لبناء دور سكنية لهم وكانت غالبيتهم من البارزانيين لذلك سميت المحلة ب (بارزان آباد).
أعود لمعاودة شرح حالتي الصحية والنفسية عند وصولي الى مدينة (خانه) حيث التعب والإنهاك جعلني اسقط على الارض وطفلي معي وهب جموع من الناس الحاضرين لمساعدتي في النهوض إلا انني شكرتهم وطلبت منهم تركي على هذي الحالة لكي استريح من التعب , اسفل قدماي اصابها التقرح بسبب السير على قدماي طوال هذه المسافة وكنت اشعر بألم شديد من جراء ذلك , من حسن حظي كان بجانبي عند محل سقوطي شخص يبيع البيض المسلوق والخبز فصحت فيه ورجوته أن ينجدني ببعض البيض والخبز والماء لأنني سأموت جوعاً , لا ادري كم بيضة اكلت أنا وطفلي الجائع.
انتظرت لحين وصول اهلي وبقية أقاربي وبوصولهم اصبح الظلام يخيم على المكان وبرودة الجو ترعش ارجلنا المتعبة , استأجرنا سيارة باص كبيرة وطلبنا من سائقها ايصالنا الى مدينة اشنوية ووصلناها في الساعة الحادية عشر ليلاً.
المرحومين الفنان الحاج مكي (علي افندي) وقريبي تمر أحمد شهباز في مدينة أشنويه آذار 1991
بعد السؤال والاستفسار من أهل المنطقة عن مسكن قريبي (تمر احمد شهباز) تم ايصالنا إليه من قبل شخص كردي عراقي يسكن نفس المحلة قمت بالطرق على الباب لعدة مرات وبقوة فتحت ابنة خالتي وتعرفت عليها بالرغم لعدم مشاهدتي لها منذ ما يقارب العشرون عاماً تفاجئت بنا وهي تشاهد جموعنا ولم تتعرف علينا لظلام الليل وهي تقول من انتم وماذا تريدون دفعتها بيدي وأنا أدخل الدار مناديا باسمها الوقت ليس وقت الاستفسارات دعيني انام دخلت الدار وألقيت بنفسي على ارضية احدى الغرف المفروشة بالسجاد نمت ليومين كاملين من شدة التعب والنعاس . بعد النهوض من النوم باشرت بالسلام على اهل الدار وشاهدت أهلي وأقاربي قد قاموا بتوزيع الاعمال فيما بينهم رجالا ونساء كل حسب اختصاصه وقدرته لكثرة عددهم والذي كان يربوا على الثلاثين شخصاً.
في صباح احد الايام بداية وجودي في المدينة المذكورة حضر احد اطفالنا وابلغني بأن شخصا يطلبني وهو واقف في باب الدار اندهشت يا ترى من يطلبني ومن يعلم بوجودي في هذا المكان لدى خروجي تفاجئت بصديقي الفنان الكوميدي الكردي المشهور( الحاج مكي (علي افندي) وبعد القبلات الحارة والسلام اخبرني بأنه علم من بعض الاصدقاء بمكان وجودي في المدينة وأنه حضر ليراني ويطمئن على احوالي وصحتي وأنه قد قرر تعيني مديراً لأعماله , استغربت من كلامه متسائلا ... أي أعمال ... ؟ طلب مني أن أغير ملابسي وأكون في نفس الشياكة والمظهر الذي كنت عليه في أربيل وبعد مصاحبته سأكون على علم بمهمتي وعملي معه دخلنا سوق المدينة وكانت المفاجئة خروج أغلب اصحاب المحلات والدكاكين على طول مسيرتنا في شوارع المدينة يرحبون به ويبدون اعجابهم به وبأعماله الفنية في التمثيل حيث كانت الحكومة العراقية قد وجهت مرسلات محطة تلفزيون كركوك باللغة الكردية نحو المناطق الكردية في ايران لمقاصد سياسية وكان سكان هذه المناطق يتابعون ما تبثه هذه المحطة وخاصة التمثيليات التي كان يقوم ببطولتها ممثلنا القدير المرحوم (الحاج مكي) والمشهور بـ (علي افندي ) حيث كان جميع سكان المدينة المذكورة والمدن الكردية الاخرى يتسمرون امام شاشات التلفزيون عند عرض احدى تمثيليات هذا الفنان في أيام السبت كل اسبوع.
الممثل الكوميدي الكردي الشهير المرحوم الحاج مكي ( علي أفندي)
الكثير من سكان المدينة كانوا يتنافسون في توجيه الدعوة لممثلنا المشهور للغداء أو للعشاء , عندها استفسر مني - هل توصلت الى المهمة التي أنوي تكليفك بها ؟ اجبته كلا... فرد علي قائلا : ((أخي مهمتك أن تقوم بتنظيم هذه الدعوات من حيث مواعيدها وأماكنها )) وطلب مني شراء دفتر وقلم لهذا الغرض وقد رفض صاحب محل القرطاسية استلام مبلغ الدفتر والقلم واعتبرهما هدية منه.
وعندما كانت الدعوة توجه للمذكور لحضور الغداء او العشاء كان يطلب من الشخص موجه الدعوة مردداً ( أخي راجع مدير أعمالي) وعندما كنت أبين لهذا الشخص بأن مواعيدنا (مقبطة) لمدة خمسة ايام قادمة( كمواعيد الاطباء) وبإمكاننا الحضور في اليوم السادس لم أكن أتصور بأن لهذا الرجل كل هذه الشعبية المفرطة في الحب والاعتزاز والإعجاب بشخصيته المحبوبة وكان شخصا خفيف الظل وصاحب نكته وهنا اذكر وقبل عودتنا للعراق قرر وجهاء وشيوخ وأغوات هذه المدينة إقامة وليمة جماعية كبرى لنا على شرف هذا الفنان في احدى مزارع هذه المدينة الجميلة وكان الحديث بعد انتهاء تناول الطعام يدور حول الزواج بأكثر من امرأة واحدة وكان معظم الحضور من المضيفين متزوج لأربعة او ثلاث مرات وأقلهم قد تزوج لمرتين وعرضوا بالمناسبة على فناننا أن يزوجوه من فتاه جميلة كردية من مدينتهم وعلى أن يتحملوا كافة تكاليف الزواج , فرد عليهم وكان المعروف عنه بأنه كان يخشى زوجته بعض الشيء قائلا - وهذا صدام الذي معي ماذا افعل به - استغرق جميع الحضور بالضحك من هذا التشبيه بين صدام حسين وزوجته من حيث كون الاثنين مصدر خوف ورعب ولا يمكن مخالفتهما .
كاتب المقال مع البعض من أقاربه يتوسطهم الفنان الكوميدي الحاج مكي في مدينة أشنوية الإيرانية
بتاريخ 5 مايس وبعد التحضيرات والاستعدادات قررنا العودة الى كردستان العراق من اجل ذلك استأجرنا سيارة باص كبيرة وبعد توديع الاقرباء والأصدقاء الذين كسبنا ودهم وصداقتهم في هذه الفترة القصيرة كنت اتردد على مكتبة (نالوسي) وصاحبها (شيخ عزيز) والشيء الذي أثار استغرابي في هذه المكتبة هو كثرة الكتب باللغة العربية بالرغم من كون جميع سكان المدينة من الاكراد طلب مني الشيخ في أحد الايام أن اخلصه من كتاب باللغة العربية يحتفظ به منذ فترة طويلة دون ان يسأل عنه أي شخص , ومن أجل ذلك تسلق درجاً وكان الكتاب في الرفوف العليا من المكتبة وطلب مني مساعدته في انزال الكتاب لكونه كان مجلداً كبيراً الذي تبين بعد ذلك بأنه مجموعة القوانين المدنية للعالم المصري ( عبد الرزاق السنهوري ) اعتبره هديه وبأنه يشكرني لو خلصته منه وبعد الالحاح عليه من قبلي وافق على استلام مبلغ بالنقد الايراني يساوي أربعة دنانير بالعملة العراقية لا زلت احتفظ بهذا المجلد وقد نقشت عليه ذكرياتي هذه , اشتريت مجموعة كتب منه وكنت احملها معي عند عودتنا إلى العراق والذي وصلناه عن طريق منفذ( حاج عمران) الحدودي , وكنا نرى الكثيرين من الأكراد العراقيين يعودون معنا في نفس الطريق , وصلنا إلى ناحية خليفان – قرية زاركَلي في الساعة الخامسة من عصر اليوم المذكور وبذلك انتهت رحلة العذاب والشقاء واجتمع شملنا جميعاً مع الأهل والأقرباء .... وترسخت مجريات هذه الرحلة القاسية في أذهاننا ولا يمكننا نسيان العذابات النفسية والجسدية التي قاسيناها من بداية مراحلها ولآخر لحظة من وصولنا إلى أرض الوطن.
معاناتنا كانت محور أحاديث المشاركين فيها في مساء ذلك اليوم في مجلس الأقارب الذين فضلوا البقاء ولم يشاركونا في هذه الرحلة لحسن حظهم وعندما جاء دورهم في الحديث تلك الليلة تركزت على ذكر الأحداث ذات الصلة بهذه الهجرة الجماعية وتداعياتها ونجملها بما يلي:-
أولاً - تعرضت مدينتا السليمانية ودهوك لنفس ما تعرضت له مدينة أربيل عند مهاجمتهما من قبل الجيش العراقي الذي تلقى الأوامر من مصدر واحد وبشكل موحد حيث قصفتا بالمدفعية ابتداء من يوم 29 آذار مما حدا بسكان المدينتين تركها والتوجه إلى المناطق الجبلية ومن ثم توجه سكان مدينة السليمانية إلى الأراضي الإيرانية وسكان مدينة دهوك إلى الأراضي التركية بسبب وقوع المدينتين المذكورتين على حدود هاتين الدولتين.
ثانيا- نتيجة دخول القوات العسكرية العراقية إلى مدينة أربيل وقصفها قبل ذلك بالطائرات المروحية والمدفعية بأشكالها كانت مقتل وجرح العديد من سكانها وتناثر جثثهم في في شوارعها وأزقتها بالإضافة إلى قيام هذه القوات بإلقاء القبض على عدد كبير من شبابها الجالسين أمام دورهم عند مداهمتها قواطع المدينة ومحلاتها وتجميعهم في بناية مديرية شرطة المحافظة ومن ثم نقلهم بسيارات باص كبيرة أعدت لهذا الغرض إلى جهة مجهولة , وكان عددهم يربو على الثلائمائة شاب بقي مصيرهم مجهولاً لفترة طويلة , واخيرا اعترف النظام قبل سقوطه بتصفيتهم ونشر أسمائهم في الصحف الرسمية بدعوى مشاركتهم في أعمال( الشغب والغوغاء ) دون أرشاد ذويهم على أماكن دفنهم.
الأمهات اللاتي لازلن يذرفن الدموع على فلذات أكبادهن من ذلك اليوم المشؤوم وليومنا هذا وسبقتهن أمهات كثيرات في مفارقة الحياة كمداً وحصرة .
صورة تجمع الشابين الشقيقين الشهيدين ( أركان وعدنان جلال أسعد شيتنه)كان الأول ( أركان ) والذي على يمين الصورة من مواليد 1973 وفي الصف السادس الإعدادي العلمي اعتقلته القوات العسكرية العراقية ( قوات العابد) عند اجتياحها مدينة أربيل يوم 31 آذار 1991 مع شابين شقيقين من أبناء محلته هما (سفين وكامران عثمان ) وكانا طلاب في المرحلة الإعدادية حيث كان جالساً أمام داره معهما في محلة الضباط واقتيدوا مع بقية شبان المدينة المعتقلين في ذلك اليوم إلى جهة مجهولة وجرت تصفيتهم جميعاً.
الثاني على يسار الصورة ( عدنان) من مواليد 1976 طالب في الصف الثالث المتوسط استشهد في نفس ذلك اليوم بالقرب من داره من جراء القصف العشوائي للطائرات المروحية العراقية.
الشهيدين (سليم وعمر علي عبد الله ) الأول من مواليد عام 1974 والثاني من مواليد 1969 قبض عليهما من قبل القوات العسكرية العراقية داخل مدينة أربيل يوم 2/4/1991 وتم تصفيتهما مع بقية الذين قبض عليهم في ذلك التاريخ , الأول كان طالباً في الصف الرابع الإعدادي والثاني كان خريج المعهد الفني في مدينة أربيل.
ثالثاً- معظم منتسبي دوائر قوى الأمن الداخلي ( الشرطة, المرور, الجنسية, الدفاع المدني) من الضباط والشرطة تركوا دوائرهم ومدنهم إلا عدد قليل منهم اختار البقاء ومن ثم عاد الكثيرون تدريجياً بعد اطمئنانهم من عدم اتخاذ السلطات الحكومية أية إجراءات قانونية ضدهم وإعادتهم إلى وظائفهم ولم يكن هذا التصرف من جانب الحكومة العراقية بدوافع إنسانية وبقناعة لديها بل أجبرها على ذلك كثرة أعداد الهاربين واستحالة اتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم جميعاً ومراعاة الظروف السياسية والعسكرية التي كانت سائدة في ذلك الوقت .
استمر عدد لا يستهان به من الضباط في المحافظات الثلاثة في مقاطعة الدوام وفضلوا البقاء في المناطق خارج سيطرة الحكومة لحين سحبها لإداراتها منها, وتجدر الاشارة بأن عدد الضباط المقاطعين للدوام والعودة إلى مركز المحافظة من منتسبي مديرية شرطة محافظة أربيل بلغ ستة عشر ضابطاً وكاتب المقال كان أحدهم.
قمة جبل كورك وعند المرصد الفلكي في 21 نيسان 1991 مجموعة من ضباط شرطة محافظة أربيل والذين استمروا في مقاطعتهم ولم يلتحقوا بدوائرهم لحين انسحاب الإدارات الحكومية من كردستان وهم من اليسار : 1- الملازم الأول نجاة قادر 2- المقدم غازي خضر 3- العقيد محي الين محمد 4- المقدم عبد الله محمد سعيد 5- المقدم جمال طاهر بكر 6- النقيب مجيد عولا أومر 7- مضيفنا في ذلك المكان هاشم شيخ محمد خليفاني .
رابعاً- بعد أن سيطرت قوات الجيش العراقي على مدينة أربيل يوم 31 آذار 1991 استمرت في تقدمها واستطاعت إعادة سيطرتها على ناحية صلاح الدين يوم 4 نيسان وبعد ثلاثة أيام واصلت تقدمها نحو قرية كوري الواقعة بين صلاح الدين وشقلاوه بشكل لم تضع هذه القوات في حساباتها ما أعد لها من مفاجئة من قبل قوات البيشمركة المتحصنين في مضيق كوري حيث أمطروا القوات العراقية المتقدمة بوابل من الصواريخ أصابت الدبابات التي كانت في المقدمة وتدمير ثمانية منها وهروب جميع الضباط والجنود من هول المباغتة والمفاجئة ووقوع خسائر في الأرواح وتدمير الآليات والمدافع والدبابات التي لا زالت معروضة في ساحة المعركة نفسها... هذه المعركة أجبرت الحكومة العراقية على التخلي عن متابعة العمليات العسكرية بعد أن أيقنت عدم جدوى ذلك والكلفة الباهضة والنتيجة الخاسرة لمثل هذا العمل.
حفيدة كاتب المقال (لارا) وهي تقف أمام دبابتين من التي تم اعطابها في معركة مضيق كوري عام 1991
خامساً- على أثر فشل الحكومة العراقية وقواتها في إعادة السيطرة على المدن والقصبات خارج مركز المحافظات الثلاثة , اختارت الدخول في مفاوضات مع الحركة الكردية ممثلة في أحزاب الجبهة الكردستانية وقد جرت هذه المفاوضات في بغداد وعلى أعلى المستويات من الجانبين لعدة أشهر ودون نتيجة.
سادساً- تم نشر صور الهجرة الجماعية الضخمة على طول الحدود الإيرانية والتركية والتي كانت تعبيراً عفوياً صادقاً لهذا الشعب. قامت وسائل الإعلام في كافة انحاء العالم بنشر هذه الصور وتسبب ذلك في خلق رد فعل عالمي نحو هذه المأساة وكانت نتيجته صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم (688) في 5 نيسان عام 1991 وتضمن إنشاء منطقة آمنة لكرد العراق شمال خط العرض 36 وبذلك صح القول الدارج:( رب ضارة نافعة).
سابعاً- وبمناسبة الحديث عن سحب الحكومة العراقية لإداراتها من كردستان نرى من الضروري أن نوضح الجوانب التالية ذات الصلة بهذا القرار :
1- أصبحت الحكومة العراقية من خلال جهازها العسكري والأمني في كردستان غير قادرة على السيطرة على الأوضاع بعد حصول المتغيرات الجديدة في دعم الشعب الكردي وتقييد فعاليات هذه الأجهزة وسيطرة قوات البيشمركة فعلياً على إدارة المحافظات الثلاثة .
2- اعتقاد السلطة العراقية المركزية ممثلة برئيسها ( صدام حسين) بأن سحب هذه الإدارات من كردستان سيؤدي إلى خلق حالة من الفوضى والإرباك وعدم اقتدار الأحزاب الكردستانية من إدارة أمورها بسبب انعدام الخبرة الإدارية لديها والإمكانيات المالية بالإضافة إلى توقعاتها من نشوب خلافات بين هذه الأحزاب ربما تصل إلى حالة الاقتتال الداخلي وانهيار الأوضاع الأمنية بشكل يستوجب معالجة الوضع من خلال عودة النظام وسلطاته إلى كردستان بناءاً على رغبة أبناء الشعب الكردي ودون معارضة من الأطراف الخارجية وهذا لم يحصل بالرغم من ابتلاء مواطنيها بفترة حرب داخلية قاسية تقارب السنتين شكلت أصعب مرحلة يمر بها الإقليم في مستقبله والانجازات التي تحققت بسبب الانتفاضة الشعبية والهجرة المليونية في عام 1991.
3- قرار سحب الحكومة العراقية لإداراتها من كردستان كان قراراً رسمياً ومعنوياً فقط أما من حيث واقع الأمور فإن الدوائر والمؤسسات الحكومية المدنية والأمنية ( الشرطة ) بقيت على حالها مع استمرار موظفيها الأكراد بالدوام فيها وعدم انصياعهم لأوامر الحكومة المركزية في الانسحاب والدوام في الدوائر الجديدة التي هيئتها لهذا الغرض في محافظة نينوى(الموصل) بالنسبة لدوائر محافظتي ( أربيل ودهوك) ومحافظة التأميم ( كركوك) بالنسبة لمحافظة (السليمانية).
4- انسحب جميع موظفي الدوائر من العرب من كردستان إلى الدوائر الجديدة في العاصمة بغداد ومحافظتي نينوى والتأميم أما الموظفين المدنيين الأكراد فليس لدي معلومات دقيقة عن عدد المنسحبين منهم ولكنني أجزم عدم وجود أي موظف سوى قلة من الذين انسحبوا بسبب انتمائهم لتنظيمات حزب البعث أما فيما يخص ضباط ومنتسبي الشرطة الأكراد العاملين في دوائر قوى الأمن الداخلي ( الشرطة , المرور, الجنسية , الدفاع المدني) فإن عدد المنسحبين لا يتجاوز عدد أصابع اليدين × 2 , في المحافظات الثلاثة .
أرجو أن أكون قد وفقت في سرد أحداث هذه المأساة وأرجو المعذرة في حال أطلت عليكم الحديث حيث أحاول الكتابة عن الأحداث وتفاصيلها بتجرد وبمصداقية انصافاً للتاريخ ورغبة في توثيق الأحداث الجسام التي مرت بشعبي للأجيال القادمة باعتباري فرداً عشت في خضم تفاعلات وقائعها المسرة والمحزنة وللذين لم يعايشوها أو لم يطلعوا عليها أو عايشوها واطلعوا عليها ليقارنوا بين ما تكون في ذهنهم عنها وبين ما أكتب ويختاروا الصحيح بعد تحكيم ضمائرهم .
من يقرأ مقالتي هذه وعندما نذكر الجوانب السلبية من المسيرة السياسية للرئيس العراقي السابق(صدام حسين) والتي كانت نتائجها تدمير العراق وإذلال شعبه قد تدفع البعض للتساؤل وباللهجة البغدادية المحببة إلى نفسي (( ليش ذوله اللي جوي بعده أحسن منه؟؟)) الغالبية تقارن بين زمنين في جوانبه السلبية القاتمة حبذا لو جرت المقارنة بين زمنين وتقييم كل حالة على حده من حيث حسناتها وسيئاتها , وبذلك ربما تكون المقارنة أكثر انصافاً وابتعاداً عن الهوى لطرف معين ومع ذلك فإنني لا أبرئ نفسي عن السهو والخطأ والنسيان والتمس مساعدة القراء الأحباء لي ومسامحتي وتصحيح ما وقعت فيه من خطأ وسبحان من لا يخطأ سوى الله العلي القدير .
958 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع