أُسرٌ لها تاريخ سلسلة من المقالات تكتبها جنان النعيمي و تتناول فيها لمحات من تاريخ العوائل العراقية العريقة التي ساهمت في صنع التاريخ الحديث وكان لها دور في بناء العراق ما قبل الأحتلال.
بقلم جنان النعيمي
متخصصة بالتاريخ والآثار
المقال السادس: من الشخصيات العراقيه والرموز التي لا تتكرر، والتي أنجبتها هذه الأمة ،هي شخصية الزعيم جميل محمود عبيد الخزرجي الذي ولد في بغداد وترعرع في منطقة رأس القرية. هذه المنطقة تشكل مربعاً تسكنه آنذاك أبرز العوائل العراقية العريقة. تحد هذه المنطقة من الجنوب شارع الوثبة وجهة الشمال منطقة الشورجة التجارية للاستيراد و التصدير. الجهة الغربية لها كان شارع الرشيد بينما من الجهة الشرقية شارع الجمهوري. تشتهر هذه المنطقة بمركز تجاري يقع مقابل جامع الخلفاء وأيضاً الشركة العامة للكهرباء الوطنية.
لمنطقة راس القرية اليوم أزقة ضيقة لبيع المعدات الكهربائية والصناعية قريبة من ساحة الغريري. بينما كانت سابقاً في زمن عزها منطقة راقية فيها أجمل البيوت واجمل منطقة للعوائل العراقية. ومن الطريف ذكره هنا ان هذه المنطقة كانت الموطن الذي ظهرت فيه أغنية (يا الزارع بزر نكوش، أزرع لنا حنّة) .. وتتلخص الحكاية التي تروى في سياق الأغنية أنه في العشرينات و الثلاثينات من القرن الماضي كان البغداديون من أصحاب الوجاهة يعقدون مجالس السفر: كلما سافر أحدهم وعاد فتح بيته لأستقبال الضيوف فيروح يحدثهم عن سفرته وعن الغرائب التي التقى بها وعاشها في غربته وما جرى له وما انواع الثقافات واللغات والتقاليد الغريبة عن المجتمع البغدادي وما شابه. وكان يحضر تلك المجالس وجوه مختلفة من علية القوم من ذوي العلم و الفضل والشعر والأدب و السياسة حيث يتجاذبون أطراف الحديث و تدور نقاشات حول أمور الساعة وأمور مختلفة تستمر إلى ساعة متأخرة من الليل وكانت تتخلل هذه المجالس فترات جميلة من العزف والمقام والبستات البغدادية التي تضفي على هذه الجلسات روحا من المرح والسعادة.
في شارع النهر المحاذي لنهر دجلة في منطقة رأس القرية كان هناك بيت بغدادي عتيق تطل إحدى واجهاته على النهر ومدخله يؤدي إلى زقاق ينفذ إلى شارع الرشيد في الموقع المجاور للاورزدي القديم. وكان ذلك البيت يحتوي على حديقة غنّاء مزدانة بأنواع الورود والازهار من جميع الأصناف. و كان صاحب الدار احد وجهاء بغداد الذي كان يرتاد مجلسه كل يوم مجموعة من عشاق ورواد الأدب والفن والشعر إلى جانب ذلك كان صاحب الدار يقيم الحفلات الغنائية والموسيقية بين الحين والآخر.
في إحدى الأمسيات وعندما اجتمع الناس بانواعهم وأصنافهم في تلك الدار حضر احد الاصدقاء الذي كان في سفر فعاد من إسطنبول. رحب به صاحب البيت. فراح ذلك العائد من اسطنبول يخبر صاحب الدار انه قد احضر معه هدية جميله، وأخرج من جيبه كيسا صغيرا وأخذ يزرع محتوياته في حديقة الدار. إستغرب صاحب الدار متسائلا عن هذه البذور فأجابه الصديق انها بذور البزرنكوش. وأنه نبات جميل ذو رائحة عطرة. فقال له صاحب الدار:
"ياصديقي يازارع البزرنكوش، ازرع لنا حنة، لأن الشيب قد غزى رؤوسنا."
وصادف أن الفرقة الموسيقية و قارئ المقام كانوا موجودين، فاعجبهم الكلام وراحوا يغنون بصوت واحد: يازارع البزرنكوش ازرع لنا حنة.
في هذه الخلفية وفي هذه المنطقة البغدادية العريقة نشأ جميل الخزرجي في بيت والده في راس القرية من عائلة عريقة ذات أصول عربية من آل خزرج. توجع أصولها الى المدينة المنورة، وهاجروا من هناك الى العراق.
وكان والد جميل الخزرجي أحد العناصر المهيبة من ال خرزج. وهو محمود عبيد الخزرجي. كان تاجرا دائم السفر إلى الهند لجلب البضائع. وهو أول من ادخل الطرومبيل الى العراق. والطرومبيل هو السيارة القديمة. وكان يجلب البضائع والاقمشة الفاخرة من الهند وكانت لديه مغازة كبيرة لبيع الأقمشة الرجالية، وفي الطابق الثاني من المغازة كان يوجد معمل للخياطة كبير، يخيط فيه لوجهاء المجتمع والباشوات و العسكريين الكبار.
وكانت زوجة محمود الخزرجي من أشهر النساء وكانت معروفة بالإنسانية والجاه حيث ساهمت في توليد النساء وكانت تعطي كل مولود ملابس (تجهز للطفل الملابس الكافية ) و تعطي نقود عبارة عن ربية (أي تعادل اليوم 200 دولار في العراق) وكانت امرأة حقانية وملتزمة حيث ولدت جميل (الذي صار زعيماً) وطارق (وهو تاجر سكن ألمانيا والنمسا وكان وكيل سيارات للعراق) وأحمد (طبيب في الطب العدلي) رحمة الله عليهم.
كان جميل باشا قد ولد 1917 ودرس في مدرسة العوينة. أمّا الثانوية فدرسها في المركزية ثم الكلية العسكرية . تخرج جميل الخزرجي برتبة ملازم ثاني في البصرة قسم المشاة ثم نقل إلى راوندوز ثم إلى كركوك ثم في معسكر المنصورية في محافظة ديالى ثم نقل إلى بغداد في ثورة 1958. شارك الزعيم في حرب فلسطين 1948. وشارك في حركات مايس ثورة رشيد عالي الكيلاني 1941 تحت امر اللواء عبد الكريم محمد. وكان الزعيم جميل محمود أمر الفوج الثالث اللواء التاسع عشر. وايضا شارك في حركات النزاع في حرب الشمال وأيضا شارك في ثورة عبد الكريم قاسم وكان زميله وصديقه في معسكر المنصورية1958-1963. وكان يحضر جميع اجتماعاتهم ومؤتمراتهم ونضالهم السري.
عام 1963 أحيل الزعيم جميل محمود عبيد الخزرجي إلى التقاعد مع مجموعة من الفوج بالكامل وبعد شهر طلبوا منه الرجوع إلى الخدمة لكنه رفض ذلك. وانشغل بالكتابة والقراءة وكان لديه مكتبه غزيرة تحوي على آلاف الكتب القيمة، والف العديد من الكتب منها حول الخلفاء الراشدين.
أوصى قبل وفاته بالتبرع بالكتب لجامع القزازة في شارع الربيعي في زيونة. وأدى مناسك الحج أكثر من تسع مرات وكانت يذهب الى الحج بالسيارة، وذلك لايمانه بأن الأجر يأتي على قدر المشقة. وكان ياخذ زملائه الضباط معه لأداء مناسك الحج. أصيب آخر مرة بجلطة ورغم ذلك اكمل مناسك الحج وعند رجوعه توفي.
قلد هذا الرجل الشجاع عدة اوسمه لدوره البطولي في عدة مناسبات.
1.نوط الشجاعة في حرب فلسطين 1948
2.نوط الشجاعة لمرتين في حرب الشمال
3.وانواط شجاعة في ثورة 1958 ومنحت له رتبه عميد
توفي الزعيم جميل عام 1973 .
من الناحية الاجتماعية كان قد تزوج من السيدة الفاضلة ناهد مجيد صالح القحطاني ..
وانجب منها القاضي سعد جميل تخرج من كلية الحقوق واصبح محاميا ثم مدير التسجيل العقاري في الرصافة ثم التحق بالمعهد القضائي وحصل على درجة قاضي. أصبح قاضيا في ديوان الرئاسة توفي 1993.
وانجبت أيضا محمود جميل محمود الذي درس في كلية الهندسة في الجامعة التكنولوجية وامتهن التدريس في المدارس الصناعية، 1971 في إعدادية صناعة البصرة واستمر التنقل في الحركات التدريسية واحتل منصب مدير إعدادية صناعة الكوت 1973-1975 ومدرسا في صناعة الكرخ وثم إعدادية صناعة الكهربائية في بغداد قرب مستشفى الكندي وبعدها نقل مديرا إلى إعدادية صناعة ام المعارك ثم إعدادية صناعة الرصافة في زيونة ثم أحيل إلى التقاعد بعمر 63 وهذه العائلة تمتاز بحسن السلوك والسيرة الحسنة وساهموا ببناء العراق من ضمن العوائل العراقية الأصيلة ..
1439 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع