مظاهرة جسر الشهداء
الكاتب : غازي السامرائي
يوم أن حدثت المعاهدة المشؤومة (بورت سموث) عام 1948، والتي قضت بتسليم العراق إلى بريطانيا والتحكم في خيرات ومصير الشعب على الأصعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية كافة وأن يبقى العراق لا يملك من أمره شيئاً.
كان الوضع المحلي والعربي يمر بمرحلة غليان، فبريطانيا تسعى لإعادة نفوذها في الشأن العراقي عبر هذه المعاهدة، ودولة بني صهيون تعلن على أنقاض الأبرياء والمستضعفين في أرض فلسطين المسلمة، والحكومات العربية كما عهدها الناس دوماً، لا خيراً تنفع ولا شراً تدفع، في تلك الأجواء التي صاحبت إعلان الموافقة على الاتفاقية عمَ الغضب أرجاء العراق، وقاد تلك الشعلة الجماهيرية المراقب العام للإخوان المسلمين الشيخ محمد محمود الصواف (رحمه الله)،
إذ اصدر توجيهاً إلى أتباع الجماعة ان يقودوا المظاهرة من مدينة (الاعظمية)، تتقدمها عمائم كلية الشريعة ويعلوها الهتاف العتيد (الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا)، وبعد أن وصلت المظاهرة إلى منطقة الكسرة تلاحمت الجموع من جميع مناطق الرصافة وسارت نحو القصر الملكي، ومع اقترابها من منزل الشيخ الصواف هاتفين له بالخروج، حيث حملته الأكتاف وسارت به نحو البلاط الملكي، ولم تزل حنجرة شاعر الدعوة وليد الاعظمي (رحمه الله)، تصدح في الجموع.
ولا ينفع الحق المجرد أهله إذا لم يكن يحميه جيشٌ ومدفعُ
وبعد أن وصل المتظاهرون ساحة القصر الملكي خرج رئيس الديوان الملكي د. عبد الله النقشبندي وهو نجل الشيخ مصطفى النقشبندي، وخاطب الحاضرين سيخرج لكم الوصي الآن، وسيعمل على تنفيذ مطالبكم، وما هي إلا دقائق قليلة حتى أصبح الوصي مع الجموع وجهاً لوجه سائلاً إياهم ماذا تريدون فأجابته الجموع: "نريد إسقاط المعاهدة، وتحرير بلادنا من الانكليز وغيرهم"،
فقال الوصي: "لكم ما تريدون، واذهبوا إلى رئيس الوزراء وطالبوه بما طالبتموني به، وسآمره بذلك"، وسارت الجموع نحو مجلس الوزراء وهنا برزت مواقف أصحاب الدعوة في تأجيج روح الجهاد والتحدي حيث تسابق كل منهم لبث روح الحماسة، في نفوس المتظاهرين.
وصلت الجموع إلى مجلس الوزراء وفوجئوا بالأعداد الكبيرة للشرطة حول المجلس وعندما طالبوا (صالح جبر) بالخروج رفض ذلك، واصدر أمراً بضرب بشدة المتظاهرين لتفريقهم، عند ذلك قصدت الجموع الغاضبة جسر الملك غازي للانضمام إلى أهل الكرخ الذين منعوا من العبور إلى الضفة الأخرى.
في هذه الأثناء التف الشباب الملتزم حول الشيخ الصواف حفاظاً عليه من الضرب والاهانة، وأوصلوه إلى بيته بسلام، بينما كانت الشرطة تطلق النار من مئذنتي جامع (المرادية) و(الوزير)، على المتظاهرين الذين يقصدون الجسر الذي تحول اسمه بعد هذه الأحداث إلى (جسر الشهداء) حيث ارتفع في هذه الملحمة البطولية عددٌ من الشهداء، وأصيب بعضهم الآخر بجروح.
لم تنتهِ الإجراءات القمعية عند هذا الحد، بل اعتقلت الشرطة عدداً من شباب المظاهرة وفي مقدمتهم طلبة كلية الشريعة، وأُودعوا السجن، وهناك حدثت تجربة دعوية هي الأول من نوعها آنذاك.
فعندما أودع الشباب الملتزم في سجن (السراي)، وضعوا في زنزانة واحدة من المجرمين وأصحاب السوابق، ولما وجدوا طلبة العلم في حالة من الاخوة والتعاون والالتزام بشعائر الإسلام اقتربوا منهم وبدؤوا يتعرفون على أحكام الدين، وبذل الشباب المسلم جهداً في اقناعهم بالإقلاع عن معاصيهم والانضمام إلى صلاة الجماعة، ولم يمضِ أسبوع على التوقيف في السجن حتى التحق العصاة بقافلة التائبين.
وفي تلك الأثناء اتصل الشيخ الصواف بمفتي العراق الشيخ امجد الزهاوي (رحمه الله) راجياً منه التدخل لإطلاق سراح الاخوة الموقوفين، استجاب الشيخ للطلب واتصل بالوصي، وقام الأخير بالاتصال بمدير شرطة السراي واخبره بالموضوع، فأجابه المدير بأنه يريد أسماءهم لان الموقوفين كُثر، عندها قال الشيخ للوصي: "أفندي أنا لا اعرف أسماءهم ولا عددهم انتم اسألوهم، من يعود لأمجد أطلقوه"،
عندها جاء مدير السجن قائلاً: "مَن منكم يعود للشيخ أمجد؟
فصرخ الجميع طلاباً ومحكومين نحن نعود إليه"،
فقال مدير السجن: "اني اعرف ان فيكم متهمين بجرائم وسيحالون إلى المحاكم"،
فقال له الشيخ إبراهيم المدرس ممثلاً عن الشباب: "يا أخي لقد نصحناهم فهداهم الله سبحانه، وتعهدوا بعدم العودة إلى ضلالهم وتابوا توبةً نصوحاً وعاهدونا على المحافظة على الصلوات الخمس، وفعلاً حافظوا معنا على صلاة الجماعة ، وهل العقوبات الصادرة ضدهم في المحاكم إلا للردع والإصلاح؟
فاقتنع وأطلق سراحهم ومزق أوراق التحقيق".
ملحوظه / للأخوة قراء مجلة الگاردينيا تود رئاسة التحرير أن تقدم نبذة مختصره عن الشيخ أمجد الزهاوي للاطلاع عليها وهي :أمجد محمد سعيد الزهاوي
تاريخ الولادة:1300 هـ/1882 م
مكان الولادة:بغداد
تاريخ الوفاة:15 شعبان 1386 هـ/17 نوفمبر 1967م
مكان الوفاة:بغداد
الجنسية:عراقي
العمل:عالِم دين وفقيه وداعية
اللقب:الزهاوي
أمجد الزهاوي رئيس رابطة علماء العراق، وهو أبو سعيد أمجد بن الإمام محمد سعيد مفتي بغداد بن الإمام محمد فيضي الزهاوي، بن الملا أحمد بن حسن بك بن رستم بن خسرو بن الأمير سليمان بن أحمد بك بن بوراق بك بن خضر بك بن حسين بك بن الأمير سليمان الكبير رئيس الأسرة البابانية والذي أنشأ حفيده إبراهيم باشا بابان مدينة السليمانية وسماها باسم جدهِ سليمان. وهو من ذرية الصحابي خالد بن الوليد المخزومي، ومن بناته، الحاجة نهال أمجد الزهاوي.
ولد أمجد في بغداد عام 1300 هـ، الموافق عام 1882م، وبها نشأ وتعلم القرآن ودرس على أبيه، وعلى يد علماء عصره.
وتخرج من كلية الحقوق ومعهد القضاء العالي بإستانبول عام 1906 م، واشتغل حاكما في الموصل، ثم نقل إلى بغداد.
ومن أشهر أساتذته محمود شكري الآلوسي، وعبد الوهاب النائب، وعباس حلمي أفندي، والعلامة غلام رسول الهندي.
وقد كرس حياته لطلب العلوم الشرعية كالفقه والأصول، وله آراء شرعية وفتاوى مقبولة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
جاب الأقطار وشد الرحال لمختلف الدول الإسلامية في سبيل الدعوة إلى الله.
أنيطت به وظيفة حاكم في محاكم العراق.
ووظيفة رئيس المجلس التمييز الشرعي.
وعمل استاذا في كلية الحقوق.
وكان يحاضر في دار العلوم العربية والدينية وله كتاب (الوصايا والفرائض).
أنيطت به بعد وفاة مفتي العراق الشيخ قاسم القيسي، مهام الفتوى إلا أنه رفضها رسميا.
استقر أواخر أيامه في خدمة العلم والتعليم وكان له مجلسه الخاص في المدرسة السليمانية الذي يختلف إليه فيه مختلف العلماء والأدباء وطلاب العلم، والكل بين سائل ومشتكي ومستفتي فلا يرد طلب وما عرف عنه غير السعي في خدمة الناس وعمل الخير والأخلاص لله. وكان كثير المطالعة يحب البحث والمراجعة لكتبه، حيث يذكر عنه مطالعته للكتب قبل وفاته بساعة.
لم يكن الشيخ أمجد ينتمي إلى حركة أو حزب أو كيان، بل كان يحب الكل، ويعمل مع كل من يعمل للإسلام أوينفع المسلمين وكان يساهم مع كل الناس ومع كل الجهات لإنجاز العمل الخيري الإسلامي حتى انه كان يقول ((لست مغفلاً حتى يخدعني أحد أنا اعمل مع كل من يعمل للإسلام))، ولقد أخبر الشيخ أحمد حسن الطه عنه قائلاً : (هو كان معروفاً أنه لا تابع لأحد، لأنه موضع ثقة الكل فصيح القول بإنه كان متبوعاً لا تابعاً، وبأنه يؤيد ما هو حق، ولا يكابر، وكان يرتفع أن يثير قضية جزئية خلافية، ويترك الامر، فإذا سأل الناس أجاب بما هو حق. ثم يضيف الشيخ أحمد قائلاً: ليس هو من الاخوان، لأنه أقدم منهم فكان هو موثقاً للإخوان، (وكان يصف حركة الإخوان المسلمين في مصر، بكونها فتحاً مبيناً)، وسمعته مرة يقول عن الاخوان في العراق (ولكن بعض الاخوان استعجلوا وكسروا الركية فطيرة)).
كان الشيخ عضواً مؤسساً لعدة جمعيات إسلامية مثل جمعية الأخوة الإسلامية، وجمعية رابطة علماء العراق.
كما أنتخب رئيسا لمؤتمر العالم الإسلامي بالإجماع وهو من المؤسسين لرابطة العالم الإسلامي في مكة، وكان كثير الاهتمام بقضايا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حيث سافر لمختلف أقطار الدول الإسلامية على نفقته الخاصة مثيرا للهمم وشارحا للمصيبة وجامعا للتبرعات ومحذرا من العاقبة الوخيمة المترتبة على تقصير الحكومات والمسؤولين في البلاد العربية والإسلامية بقضية ساعته وهي قضية فلسطين.
ترأس ستة جمعيات إسلامية في وقت واحد، فكان يحمل روح الشباب وهو شيخ كبير، ساهم في نشر الوعي الإسلامي والدعوة إلى الإسلام.
معاناته في العراق وهجرته
كانت الأوضاع السياسية بالعراق في الستينيات تنبئ باقتراب حدوث تغيير سياسي كبير، وكانت إرهاصات حدوث انقلاب عسكري تتزايد، حتى قامت حركة يوليو 1958م، بقيادة عبد الكريم قاسم، وألغيت الملكية وأعلن قيام الجمهورية العراقية. وقد أستقبلت الأوساط السياسية والشعبية هذا الانقلاب بابتهاج شديد سرعان ما تبدد مع صعود الشيوعيين ومحاولتهم الاقتراب من عبد الكريم قاسم الذي رحب بهم في البداية لعدم وجود قاعدة سياسية أو حزبية يتكئ عليها في ممارسة الحكم، إضافة إلى صراعه مع الضباط الوحدويين مثل عبد السلام عارف.
أدى اقتراب عبد الكريم قاسم من الشيوعيين إلى احتقانات سياسية عسكرية كبيرة استغل بعضها أحد قادة الجيش وهو "عبد الوهاب الشواف" للقيام بحركة انقلاب مضادة في الموصل، عرفت بحركة الشواف ساندته فيها القوى المختلفة الرافضة للشيوعية، غير أن فشل الحركة تسبب في حدوث مجازر قام بها الشيوعيون، وكان الشيخ محمد محمود الصواف قد أصدر مجلة "لواء الأخوة الإسلامية" التي وجهت انتقادات حادة للشيوعيين، وعندما ضاقوا بالنقد هاجموا المجلة وأحرقوا مكتبها ومطبعتها بعد 7 أعداد فقط من الصدور.
كانت الحركة الإسلامية تنتقد نظام حكم عبد الكريم قاسم؛ بسبب صعود الشيوعيين، وانتقاص الحزب الشيوعي العراقي لدين الإسلام عقيدة وشريعة، وصدور قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 الذي ألغى كل القوانين الإسلامية المتعلقة بقضايا الأحوال الشخصية، ومنع تعدد الزوجات، وأعطى المرأة حق الطلاق والمساواة في الإرث مع الرجل؛ فوقف الإخوان لهذا القانون بالمرصاد، خاصة بعد أن أصبح لهم وجود سياسي عند حصولهم على حكم قضائي بإنشاء حزب، وتم لهم ذلك في (ذي القعدة 1379 هـ/ أبريل 1960م) وترأسه نعمان عبد الرزاق السامرائي الذي أصدر جريدة "الفيحاء"، وكان نقد الإخوان شديدًا للشيوعيين، وكان لهم دور بارز في إحباط المشروع الشيوعي في العراق، وعند اشتداد طغيان الشيوعية في العراق هاجر الشيخ أمجد إلى المدينة المنورة وسكن فيها مدة من الزمن ثم عاد إلى بغداد.
وفاته
توفي أمجد الزهاوي في يوم الجمعة 15 شعبان 1386 هـ، الموافق 17 تشرين الثاني 1967م، وشيع في موكب مهيب يوم السبت، وحضره أعلام بغداد وسار فيه العلماء والوزراء ووفود من رجالات العشائر العراقية، وطلاب المعهد الإسلامي ولقد أم الناس بالصلاةِ عليه تلميذه الشيخ عبد القادر الخطيب إمام جامع الإمام الأعظم ودفن في مقبرة الخيزران، قرب قبر عمهِ الشاعر جميل صدقي الزهاوي، وألقى كلمة في تأبينه محمد محروس المدرس، ثم تلاه واعظ بغداد العلامة شاكر البدري.
534 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع