احداث سجني بغداد والكوت ...
حادثة سجن بغداد حزيران 1953
كان سجن بغداد يضم قسم خاص بالمسجونين الشيوعيين يطلق عليه مديرية بأسم "مديرية سجن الشيوعيين" أدارها عبدالجبار أيوب، وعلى الرغم من الاجراءات الصارمة المتبعة، جَرت فيه حوادث هروب وأضطرابات ، ولاسيما أنها جرت قبل وصوله الى عمله، ولهذا سبق أن أقترحت مديرية شرطة بغداد على مديرية الشرطة العامة منذ الحادي والثلاثين من تموز1952،بنقل هذا السجن الى خارج العاصمة، لتسهيل مهمة الاجهزة الامنية في السيطرة على السجناء وعدم هربهم، وظلّ ذلك الطلب مهملاً، الا أن طلب السلطات العسكرية العرفية في 18 كانون الثاني 1953 بضرورة تشديد الرقابة على السجناء الشيوعيين، وخاصة بعد عثورها على رسائل ذات مضمون خطير على الأمن العام، وما جرى في سجن الكوت من هرب (أربعة عشر) شيوعياً، على الرغم من ألقاء القبض على أغلبهم، وحادثة هرب ثلاثة سجناء شيوعيين من سجن بغداد عام 1952، كان من بينهم أبراهيم الحريري في أثناء مقابلة السجناء لعوائلهم، وهما أضافة للحريري سليم عبد الغني الجلبي وصادق جعفر الفلاحي وذلك في مساء 31 آذار 1953.
تلك الحوادث جعلت القيمّين على أمور السجون يعترفون أن هناك ضعفاً إدارياً، ودفعتهم الى تغيير نظام الزيارة التي أصبحت تتم بمكان مكشوف يسهل مراقبته بدقة أكثر، فضلاً على تجديد المساعي لنقل السجناء الخطرين الى سجن نقرة السلمان، أما الباقون فينقلون الى سجن الكوت، الا أن مجلس الوزراء أتخذ قراراً بنقلهم الى سجن بعقوبة.
وتسلمّ أدارة السجن عبد الجبار أيوب في الرابع من نيسان 1953، وكان الرجل صارماً مع الشيوعيين وأراد أن يجردهم من أي مكتسبات حققوها في إضرابهم السابق بان يكونوا قرب ذويهم، ولهذا فأنهم أبدوا تذمرهم وأمتعاضهم عندما أبلغهم إن القرار أتخذ لتهيئة أسباب الراحة لهم.
الا إن مدير السجون العام أدرك أحتمالية تمرد السجناء على قرار النقل، فأجتمع صبيحة يوم 18 حزيران مع وزير الشؤون الاجتماعية وأعلم نائب رئيس الوزراء ومدير الشرطة العام بالامر لاتخاذ الترتيبات الضرورية في أثناء عملية نقل السجناء، ويؤكد الموقف الحرج السيد داود سلمان وكيل متصرف لواء بغداد حينذاك، الذي حضر الى السجن في الساعة الواحدة وأربعين دقيقة ظهراً، بعد إخطار مدير السجون العام لمتصرف بغداد، ورأى كيف إن الشرطة كانوا بوضع قلق ومضطرب جراء تجمهر السجناء الشيوعيين في باب السجن وأصرارهم على مقاومة قرار التسفير وأبدى لهم وكيل متصرف بغداد كلمات النصح والارشاد، من دون فائدة، أذ بدأ (مائه وأربعة وستين) سجيناً شيوعياً يهتفون بسقوط حكومة جميل المدفعي، وشملت شعاراتهم نوري السعيد والتحقيقات الجنائية، ومدير السجن عبد الجبار أيوب، ثم تحركوا وأغلقوا أجنحة السجن على أنفسهم، وحطموا كل ما وقعت عليه أيديهم من القوارير ومواسير المياه وأدوات الطبخ .
فرضت قوات الشرطة، المدججة بمختلف الاسلحة والتجهيزات، طوقاً على السجن وإحتلوا سطوح السجن، وبدأوا برمي السجناء بالحجارة والقنابل المسيلة للدموع، فضلاً على توجيه خراطيم مياه رجال الاطفاء على باب السجن وحيطانه لفتحه، بعد أن استمرت المواجهة ساعة وربع الساعة، وأمام قوة الماء المتدفق بدأ البناء بالتهاوي حتى سقطت الباب ، فهجمت الشرطة على السجناء، رد عليهم السجناء بما تيسر لهم من زجاج النوافذ وأدوات المطبخ، فسقط عدد من الجرحى، كان بينهم أسماعيل أحمد المرشح للجنة المركزية أيام فهد، وهادي عبدالرضا، ضابط الارتباط أيام وثبة كانون الثاني 1948،إضافةً لجرح (واحد وثمانين) سجيناً (، ونقل الجرحى الى مستشفى الكرخ لمعالجتهم وغصت ردهة السجناء والموقوفين السياسيين بالجرحى ويعترف الطبيب ضياء خونده، مسؤول الردهة أن أصابات بعضهم كانت بليغة، وتركزت الاصابات على الرأس، كسوراً في الجمجمة أو جرحاً في فروة الرأس.
لم يمر ذلك الحادث من دون أن يكون له صداه،فقد إستنكرت الاحزاب السياسية العراقية المعارضة وإحتجت على الحادث، وطالب حزبا الوطني الديمقراطي والاستقلال بتشكيل لجنة تحقيق لمعرفة حيثيات الحادثة ودوافعها.
أما الحزب الشيوعي فقد عد ماجرى، ما هو الا خطوة مرسومة في السفارتين الامريكية والبريطانية ببغداد للقضاء على السجناء السياسيين وطالب بإسقاط الوزارة ومحاسبة المسؤولين عن سفك الدماء، وطالب الهيئات الدولية والاحزاب الشيوعية في العالم برفع صوتها إستنكاراً للمجزرة التي عدّوها من "الجرائم التاريخية الشنيعة" ضد السجناء وهم داخل السجون وفي غرف وزنزانات السجون "وأنهم لم يقوموا بعمل ما يؤدي الى تهديد أو هدم نظامهم الاستعماري الاقطاعي المتفسخ".
نددت منظمة راية الشغيلة بالحادث ووصفته بأن تقتيل السجناء السياسيين لم يكن بسبب رفضهم الانتقال الى سجن بعقوبة، بل كان مكيدة إجرامية مدبرة سلفاً إذ إن طلب السجناء تقديم نقل زملائهم سجناء نقرة السلمان البشع حتى فوجئوا بأن نيران البنادق والرشاشات تحصدهم حصداً.
ودعا الحزب الشيوعي ملاكاته وأعضاءه الى النزول الى الشارع بأي ثمن حاثاً إياهم على تنظيم المظاهرات وأن يحشد كل عضو عشرة مواطنين ليتظاهروا من دون موافقة مسبقة من الحزب، وأمام هذه الحالة المتأزمة إتخذت متصرفية لواء بغداد اجراءاتها التي تحول دون قيام المظاهرات.
حادثة سجن الكوت آب 1953
لم تخفت صيحات الاستنكار والتنديد لحكومة جميل المدفعي السابعة بما جرى في سجن بغداد تجاه الشيوعيين حتى جرى في سجن الكوت ,مع الشيوعيين بالتحديد , مواجهة اكثر دموية، ولما كانت المواجهتان قدّ تمّتا بين حزيران وآب 1953 فأَنهما تثيران مدى حدة المواجهة بين السلطات الحكومية والحزب الشيوعي العراقي.
ففي الوقت الذي إنفجرت الحوادث بسجن بغداد تذمراً على قرار نقلهم فأن ماجرى في سجن الكوت قد أبتدأ بشكوى قدمت في الخامس من تموز 1953، الى أدارة السجن حول قلة الطعام وإحتجوا بمرارة على أساليب التعذيب الجسدي الذي تعرض له الشيوعيون، تلك الشكوى عدتها السلطات المختصة محاولة للاساءة الى الحكومة والتشهير بها، ولذلك وصلت الى سجن الكوت يوم السابع والعشرين من تموز محكمة خاصة أعضاؤها من بغداد تحمل تعليمات صارمة بمعاقبة مقدمي العريضة، عقد المجلس العرفي العسكري في غرفة مدير السجن جلسته صبيحة الثالث من آب وأصدرت أحكاماً بحق مقدمي العريضة بعد أن أستدعتهم واحداً بعد واحد بعد أن وجهت لهم تهمة قراءة الاناشيد الثورية.
ومن جهتها وبدلاً من تلبية مطالب السجناء بزيادة كمية الطعام أخذت أدارة السجن بقطع الماء والطعام والكهرباء عنهم، وذلك لتحطيم معنوياتهم، ، مما دفع السجناء الى حفر بئر ماء داخل السجن بمشورة احمد علوان، أحد ملاكات الحزب الشيوعي في البصرة، ولم تفلح محاولات أثنين من السجناء الشيوعيين "محمد عبداللطيف وحسقيل قوجمان" في تخفيف نسبة الاملاح في ماء البئر، وتولى شيوعي أخر (أكرم حسين) تدبير أمور الغذاء للسجناء.
إن التنافر إشتد بين السجناء وإدارة السجن، تطور بإعتلاء رجال الشرطة سطح السجن ورميهم السجناء بالحجارة فلجأ السجناء الشيوعيين الى مكبرة صوت لايصال صوت أستغاثتهم الى سكان مدينة الكوت.
ومع كل وسائل الترهيب , سواء كان بالرصاص والتهديد بالموت جوعاً وعطشاً,وبين الترغيب, صدرت أرادة ملكية بأطلاق سراح عدد من السجناء الشيوعيين,الا أن السجناء رفضوا الاذعان لمثل تلك السياسة، ولاسيما أن السلطات الرسمية إشترطت لأطلاق سراح السجين التخلي عن أفكاره، وأتسعت دائرة الاغراء بالعفو عن التائبين من المبادئ الشيوعية.
لم تنفع كل تلك الوسائل، بل وصل الامر الى استخدام الرصاص ضد السجناء، يوم 18 آب، مما أدى الى مقتل صبيح مير، من منظمة راية الشغيلة، وتبعثر دماغه على جدران قاعة السجن، وجرح سجين آخر لم تسعفه إدارة السجن الا بعد تسليم السجناء لجثة صبيح مير الى ادارة السجن.
وأصدر الحزب الشيوعي العراقي بياناً وصف فيه الحادثة بأنها "مذبحة جديدة تقيمها حكومة المدفعي- السعيد المجرمة بحق السجناء السياسيين الاحرار في سجن الكوت،.... الشرطة تستمر في أطلاق الرصاص على السجناء العزل في مساء الاربعاء وصباح الخميس وقد مات احد السجناء العزل.. حياة السجناء في خطر،... الشرطة تقطع الماء والطعام عن السجناء وتنصب رشاشاتها على سطح السجن..".
ونظم الحزب الشيوعي مظاهرات تندد بالحادث وتطالب بإقالة حكومة المدفعي وإلغاء الاحكام العرفية، الا أن السلطات الحكومية كانت حازمة في مهاجمة المتظاهرين وأعتقال (أثنين وعشرين) متظاهراً.
وأمام هذا الحزم الذي أبدته السلطات الامنية و معاناة السجناء وتردي أوضاعهم الصحية، فاتح السجناء إدارة السجن بإنهاء الحصار الغذائي عنهم، الا إن إدارة السجن لم تستجب لمطلبهم، وإستمر الحال حتى الثاني من أيلول1953 إذ بدأت مفاوضات أنتهت بالسماح بدخول وتفتيش السجن للبحث عن الاسلحة التي يعتقد أنها بحوزة السجناء.
كان التفتيش إستفزازياً ودقيقاً إذ أستمر بين الساعة الثالثة والنصف ظهراً حتى الخامسة الا ربعاً من صباح اليوم التالي، صودرت من خلاله رسائل ومناشير وأدوات حادة.
وما فجّر الموقف مجدداً هو أن أدارة السجن طلبت أسماء (خمسة عشر) سجيناً يطلب نقلهم، وكانت أدارة السجن قد أحتجزت ممثل السجناء (اكرم حسين) وممثلاً آخر معه، وبعد تقديم الطلب ساد صمت رهيب، وكرر مدير السجن (هادي الجاف) طلبه، وفي الثالث عشر من أيلول أصر السجناء على مطلبهم بإعادة الوفد المفاوض اولاً، ومن جانبه أصدر مدير السجن أوامره للشرطة بأتخاذ الاجراءات ضد السجناء، فهاجموا السجناء بالهراوات والمسدسات، وأطلقت الشرطة من فوق سطح السجن النار عشوائياً بعد إطفاء الضوء، تلك المواجهة الاعنف من نوعها بين السجناء الشيوعيين العزل من السلاح و قوات الشرطة المدججة بالاسلحة النارية تمخضت عن مقتل ثمانية شيوعيين و جرح أربعة وتسعين، من مجموع (مائة وثلاث وعشرين ) سجيناً شيوعياً، كما أصيب (أثنى عشر) شرطياً و (ستة عشر) سجاناً ببعض الخدوش.
وإذا كانت مواجهات الثامن عشر من آب قد قتل فيها أثنان من السجناء الشيوعيين "صبيح مير ووحيد منصور"، فأن القتلى الشيوعيين يوم الثالث عشر من أيلول هم "أحمد علوان وجبار الزهيري ورؤوف صادق الدجيلي وعبدالنبي حمزة ويحيى عباس البارح وهادي جواد ومحسن حداد وحسن مهدي حبيب", وبمعنى آخر فأن التضحيات تضاعفت بين صفوف الشيوعيين الامر الذي يؤشر تزايد حدةّ المواجهة بين السلطة الحاكمة والشيوعيين.
وأتخذت السلطات الحكومية وراء المجزرة البشعة قراراً بنقل باقي السجناء الى سجني بعقوبة وبغداد المركزي، وقام عبد الجبار أيوب مدير سجن بغداد "بمتطلبات الضيافة من التعذيب العشوائي بحق السجناء".أصدر الحزب الشيوعي بياناً أستنكر الحادثة، معلناً عدد القتلى في سجني بغداد والكوت مشيراً الى أن قتلى سجناء الكوت بلغ ثمانية و (50) جريحاً.لم تمر تلك الحوادث الدموية دون أن تلقي بظلالها على حكومة جميل المدفعي إذ كثرت المطالبات عدم استخدام السلاح ضد السجناء، وتوجه المفتش الاداري بوزارة الداخلية ومفتش الشرطة الى الكوت لاجراء التحقيق ورفعا تقريراً مطولاً عن الحادثة.
المصدر : المدى
الكاتب: د.سيف عدنان رحيم
1038 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع