د. منار الشوربجي
ما مصير «الحلم الأمريكي»؟!
التحولات الكبرى التي تشهدها الولايات المتحدة اليوم، ستكون لها تأثيراتها بعيدة المدى، التي لن تقتصر على السياسة والاقتصاد، وإنما تمتد لتشمل النسيج الاجتماعي ذاته.
فقضية الهجرة ليست مجرد واحدة ضمن عشرات القضايا التي تريد إدارة ترامب إحداث تحولات راديكالية بشأنها. فتلك التحولات، في قضية الهجرة تحديداً، جوهرها إعادة تشكيل العقل الجمعي، بخصوص الأسئلة الكبرى المتعلقة بالهوية ومعنى التقدم.
فالسردية الكبرى التي ترويها أمريكا عن نفسها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة مركزية عرفت «بالحلم الأمريكي». فلأن الحرية والفردية في القلب من «القيم السياسية الأمريكية»، هناك «فرص لا نهائية» متاحة لكل من تطأ قدمه «أرض الأحلام».
فهو قادر على تحقيق أي شيء تصبو إليه نفسه، من الثروة والنجاح، إلى تحقيق السعادة له ولذويه، بشرط واحد فقط، هو الجهد الشخصي والعمل الشاق والمثابر. وهما وحدهما السبيل لصعود السلم الاجتماعي دون سقف، وتحقيق كل الأحلام، بغض النظر عن الدين والعرق وبلد النشأة.
وأمريكا، وفق هذه السردية، «بوتقة» تصهر كل القادمين إليها، فيذوبون في «الكل» الأمريكي، ما يصنع «الاستثنائية» الأمريكية. فالكل يعمل عملاً شاقاً ومنجزاً، يحقق الرخاء والتقدم للمجتمع.
وتعبير «الحلم الأمريكي» استخدمه أول مرة المؤرخ الأمريكي جيمس آدامز، في كتاب شهير صدر في ثلاثينيات القرن العشرين. ورغم أن ذلك «الحلم» أسطورة كبرى، كان واقع الثلاثينيات نفسه ينفيها، بدءاً من الفصل العنصري.
ومروراً بنقض المعاهدات مع ممالك السكان الأصليين، ووصولاً للتمييز ضد المهاجرين الإيرلنديين والألمان والإيطاليين والصينيين واليابانيين، فإن التعبير لاقى رواجاً كبيراً.
وباتت تستخدمه الدبلوماسية العامة الأمريكية لعقود طويلة. فبالمنطق المادي أو البراجماتي، كان لأمريكا مصلحة في الترويج له، إذ ظل المهاجرون يمثلون العقول والسواعد التي أسهمت، ولا تزال تسهم، في النهضة بشتى المجالات.
لكن ما إن استقرت أوروبا، البيضاء بالضرورة، وحققت تقدماً صناعياً واقتصادياً واجتماعياً، لم تعد لدى أبنائها الحاجة للهجرة لأرض جديدة. ومن هنا، غدت الغالبية الساحقة في موجات المهاجرين الجدد، تأتي من جنوب العالم، الذي تعرض لنهب استعماري دمر مقدراته، وسحق شعوبه، ما دفعها للبحث عن فرص أفضل، عن طريق الهجرة للشمال.
وقد لعب التغير في التركيبة السكانية للولايات المتحدة، دوراً محورياً في إحياء النعرات العنصرية، التي لم تختفِ يوماً، وإنما ظلت تحت السطح. وبات الخطاب السياسي للعنصرية يستخدم مفردات شفرية «كالقانون والنظام العام»، ومكافحة «الجريمة والمخدرات»، ومحاربة عابري الحدود «بطرق غير مشروعة».
بينما الموضوع الجوهري، هو لون بشرة المهاجرين الجدد! ورغم أن الولايات المتحدة تعاني نقصاً حاداً في العمالة في قطاعات حيوية، فإن الهجرة يتم تصويرها اليوم باعتبارها «سيلاً» من البشر «يسرقون» الوظائف من الأمريكيين.
وتلك العنصرية التي تلبس رداء «الهجرة»، تضرب ما يسمى «الحلم الأمريكي» في مقتل. فبعد أن كان الأمريكيون يطلقون على أنفسهم «أمة المهاجرين»، وردد كل رئيس أمريكي منذ فرانكلين روزفلت فخره بأجداده الذين هاجروا لأمريكا، صارت «الهجرة» كلمة سيئة السمعة.
وترحيل المهاجرين لم يقتصر بالمناسبة على الجمهوريين ولا على ترامب. فهو مشروع تبنته أمريكا منذ عهد أوباما، الذي أطلق عليه المدافعون عن المهاجرين «القائد الأعلى للترحيل»، بدلاً من «القائد الأعلى للقوات المسلحة»، لأنه قام بترحيل 3 ملايين مهاجر!
أما الجديد في حالة ترامب، فيتعلق بجوانب ثلاثة، أولها محاولات فرض الحزبية فرضاً على حملات طرد المهاجرين. فالوحشية المتبعة في استهداف السلطات أماكن تجمع المهاجرين في المدن التي يقطنها أغلبية من الناخبين الديمقراطيين.
بينما لا تطال ولايات حدودية أغلبية أصواتها تذهب للجمهوريين. وتتزامن تلك الوحشية مع الجانب الثاني، وهو اختراع برنامج يعرف «بالهجرة الطوعية»، أي تشجيع الهجرة العكسية مقابل حفنة من الدولارات.
ولا طوعية في إجبار المهاجرين على الاختيار بين أمرين، كلاهما مر، إما حفنة الدولارات أو الاعتقال والترحيل القسري لدولة لا يعرفها! أما الجانب الثالث، الذي لا يقل أهمية، فهو القصف المنظم للمؤسسات الأكاديمية الأمريكية التي ظلت دوماً تقوم على اجتذاب العقول الأجنبية والاستثمار فيها، من أجل خدمة التقدم الأمريكي في شتى المجالات. باختصار، لم تعد أمريكا معنية حتى بالتظاهر بأن هناك ما يسمى «الحلم الأمريكي»!
724 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع