محاكم الميدان في آخر الزمان (9)

    

      محاكم الميدان في آخر الزمان (9)

  

  

يمضي الوقت سريعا.

كل فعل ينحرف عن المالوف ينبت وقعه سريعا.
وكلاء الموت ينتشرون بين الناس سريعا.
يدخل الثوار العماريون أزقة البصرة وشوارعها، قادمين من الأهوار، مدججين بسلاح قصبها المنتصب بهواء الانتفاض،كأنهم أبقوه جاهزا لهذا اليوم الموعود.
تتهاوى المقرات الحزبية بضربات متوالية، مثل قطع دومينو مرصوفة لأغراض اللهو الطفولي.
يتعارف الصديقان كريم وسالم ويقتربان من بعضهما خلال الساعتان اللتان مرتا ثوان معدودات، يتعاهدان على المضي الى الامام في مشروعهما لتهديم الرموز الشاخصة للحكومة حتى آخر المشوار.
يشير كريم على صديقه بترك مقر الفرع الحزبي اذ لا فائدة من البقاء في باحته وعضو القيادة قد وصل بغداد، وأنتهت سلطة الحزب في المحافظة، يؤكد ضرورة الاسراع بانهاء سلطة الامن الابشع والاهم بالنسبة للبصريين.  
يرد سالم اعترافا بعسكرية الصديق وخبرته جنديا في الجيش العراقي:
أنت الاعرف بالقتال، خبرتك جلها قتال.
يلقى اجابة فاصلة تؤكد على ضرورة التشاور بعد التعاهد في السير سوية الى نهاية المشوار، والاقرار بأن مهاجمة مركز أمني يحتاج الى مزيد من الشباب المسلحين، وجمهور متحمس ذي حيوية مكبوتة.
يرتأي الذهاب الى الجامع لمعرفة ما حل بالحزبيين المأسورين، وحشد الشباب باتجاه الهدف القادم... استخبارات القوة البحرية.
يقتربان من الجامع.
الشباب القادمون، رافعو الرايات يدفعون الحزبيين الماسورين صوب الجامع، المنظر من بعيد زفة عرس، لعروس أخذت من أهلها فصلية. المنظر من قريب سبيٌ بابلي لاسرى يهود  أنتزعوا من أسوار القدس.  
يطلبون من المؤذن المقيم في الجامع بترخيص من الاوقاف فتح الباب.
ينزل عند رغبتهم يتعثر في طريقه من شدة القلق.
يطلب دقيقة واحدة لجلب المفتاح.
يدخلون سباياهم السبعة الناجين من الموت أعترافا بتدخل القدر، مربوطة أيادي بعضهم بحبال، وآخرين بكوفيات حمراء، كانوا يلفون بها رؤوسهم في نوبات الحراسة. وجوههم مصفرة، مذهولين، لا يقوون على اخراج الكلمات من حناجر ترتجف خشية النحر.
يصعد المنبر شاب غريب، بملابس نظيفة لم تتسخ بوحل الشارع، ولحية سوداء أزيلَ شعر حافاتها من الوجنتين بملقط حاد، حوله اثنان غريبان أيضا، يصغرانه بالعمر، مسلحان تسليحاً جيداً، توحي وقفتهما الى جنبه باهميته القيادية، وهم حماية قائد كبير، فزادوا بوقفتهم الانطباع بانه الاقوى والاكبر في هذه البقعة من أرض البصرة التي تتقسم محالها وجوامعها ومخلفات عسكرها بين الاقوياء.
حث على الجهاد بلهجة بصرية جنوبية واضحة المعالم مؤكدا على هذا اليوم الذي أنتظره طويلا:
(انه يومنا الذي انتظرناه، لقد انتهى الطاغوت، انتهى القهر والاستعباد، لا بد من الاستمرار بالسير على طريق الجهاد للقضاء عليه في مهده).
يختم خطبته القصيرة بعبارة الله أكبر.
تتعالى من بعده الاصوات مرددة (الله أكبر) كأن الحضور في موسم حج.
يدخل كريم وزميله المصلى، يلتفت حوله المؤذن، وباقي الشباب، يهتفون باسمه من أسقط مركز الشرطة والشعبة الحزبية.
يبارك الغريب جهده المبذول وتضحيته الفائقة، يوعده بالأجر العظيم . يصعد سلمتين من سلالم المنبر، يلحقه  كريم، يهمس في أذنه بعض الكلمات، ثم ينزل واقفا مع الآخرين.  
يكمل الغريب خطبته بحدة أشد من الاولى:
(أعمال الجهاد لم تنتهِ بهروب الكافر عضو القيادة، ولا باستسلام بعض الحزبيين هنا وهناك، علينا المواصلة حتى قطع رأس الافعى... الله أكبر).
يعطي الكلام الى كريم صاحب المقترح الذي يحدد الخطوة القادمة باتجاه الاجهزة الامنية التي تقاوم حتى الان، مشيرا الى أن البصرة لن تنعم بالهدوء ومنتسبو هذه الاجهزة باقين في مقراتهم.
يؤيده الغريب بشدة طالبا فتح المكبرات المضخمة للصوت، يريد التأكيد على الجهاد.
يتداعى الجمهور من جميع الشوارع القريبة، حتى أصبح الجامع مركزا للحشد والتطويع، وأصبحت احدى غرفه محكمة ميدان شرعية.
يُنَصَبْ الغريب نفسه رئيسا لها، يلتفت نحو المؤذن الحاج فتحي يطلب منه الجلوس الى جنبه عضوا ثانيا لهذه المحكمة، يدير وجهه صوب شاب يتصدر الصف الاول ليكون العضو الثالث.
ينزل المؤذن عند رغبته مذعورا من ما يجري في جامعه الذي تعين فيه مؤذنا من قبل وزارة الاوقاف، ووكيلا للأمن، يزودها بالتقارير الدورية عن المصلين حتى يوم أمس الذي ختم آخر تقرير له بدخول مصلين الى جامعه من خارج محلة الجمهورية بينهم عسكريين هاربين من جبهة القتال.
تبدأ اولى المحاكم الشرعية للانتفاضة، لاولى وجبات الحزب المتهم كل أفراده بالكفر واضطهاد المواطنين الآمنين. يطلب من أحد مرافقيه قائمة بالأسماء المؤشرة ازائها كفار مشركين.
ينادي بصوت أجش على الأول ماجد علي سليم، يريده أن يتقدم الى الامام، يذكر اسمه ودرجته الحزبية.
يذكر الاسم (ماجد علي سليم أمين سر الفرقة) بفواصل بين الكلمات تؤشر توقعه النهاية المحتومة موتا في الحال.
يلتفت رئيس المحكمة صوب الجمهور المرصوف في الداخل، يسألهم كشهود اثبات اذا ما كانوا يعرفون هذا الكافر، ومذا يعرفون؟.
يأتيه الجواب من كل الجهات اتفاقا على أنه المسؤول عن فرق التطويع الخاصة بالجيش الشعبي في الحرب، وهو من قاد المداهمات، وأعتقل وقتل طوال فترة الحرب، وكفر بالمقدسات... يستحق الموت.
يلعنه رئيس المحكمة علنا، يحمله مسؤولية الموت الأسود لآلاف البصريين، يحكم باعدامه في الحال دون الاستماع الى الدفاع في محكمة ليس فيها اي نوع من الدفاع .
يتقدم المتبرعون لتنفيذ الحكم وهم كثر، يسبقهم حميد جاسم، يطلب أن يكون المنفذ الوحيد، وأن يكون التنفيذ بطريقته الخاصة، لان المتهم أعدم شقيقه قبل أربع سنوات. تتداول المحكمة بالأمر، يحصل على الموافقة، يجلب مدفأة نفطية علاء الدين الانجليزية القديمة، يتركها مولعة لدقائق، يرش على غطائها قطرات ماء من سبابته اليمنى، يتأكد بلوغها أعلى درجات الحرارة، يضعها جنب العمود الوسطي لقاعة المصلى، يجلب المحكوم بالموت، يجلسه على غطائها المتوهج، يلف الحبل على جسده والعمود الاسمنتي باحكام يبقيه دون حراك.
يخاطبه بعصبة واضحة المعالم (إبق في مكانك هكذا حتى يحترق قلبك، مثلما حرقت قلب والدتي باعدامك محمود).
يتلوى الرفيق من فوقها، يحاول بحركته التخلص من نار طالت اليتيه، يجد غير حميد، آخرين يشتهون فعل القتل تحت تأثير عدواه الجماعية... يمسكون به من كل جانب، يضغطون على جسمه من الأعلى، ينتشون برائحة الشواء.     
يقف المتهم الثاني في المكان باشارة من الرئيس، يشهد الجمهور عند نطق الاسم انه ضمن فرق القبض على الهاربين من الخدمة العسكرية، يُلعن أيضا، يُحَمل مسؤولية استشهاد آلاف من الابرياء أيضا. يحكم كذلك بالاعدام.
يتقدم الثالث والرابع ثم السادس، وسط هتاف الجمهور المطالب بمزيد من الانتقام.
التهم الموجهة واضحة تشملهم جميعا، فالحزب في العقدين الأخيرين مثقل باعمال يرى الجمهور المنفعل عقابها إعدام.
السابع بدرجة نصير، وقع ارضا حال نطق الاسم، قضى بالسكتة القلبية، لم يسلم جسده الغض من سبع رصاصات أطلقها احد المتبرعين الساعين الى الانتقام.
ينشغل كريم ومعه سالم بجمع المتطوعين، هدفهم استخبارات القوة البحرية، السيارتان الوحيدتان لا تكفيان لنقل المتطوعين، يتقدم رجل بلحية غزاها الشيب مبكراً، يطلب الانتظار لدقائق يجلب خلالها سيارة حمل كبيرة تابعة لمصلحة الموانئ مبينا انها سيارة هينو، وهي بعهدته وهو سائقها الرسمي، وهذا يومها، خدمة للثوار.
يشد الغريب من ازر كريم وسائق السيارة. يخرج من حقيبة كان يحملها علما اخضر، يطلب من  كريم وضعه على السيارة التي يستعملها، لكي يفرق المجاهدون بينه ثائرا وبين اتباع النظام.
تدخلَ سالم المعروف بانتمائه للمنطقة وكثر معارفه فيها قبل الخروج من الجامع، يسأل الغريب:
من أنت؟. انك لست من أبناء الجمهورية!.
يضحك الغريب بثقة عالية، يؤكد أنه إبن الجمهورية وكذلك اباه، يقدم نفسه بصوت عال تملأه الثقة ( انا علي بن الحاج مرتضى البقال في شارع عشرين، سُفرنا الى ايران والعائلة عام 1979، وانا في العاشرة من عمري، وقد استقر أهلي بعد التسفير في السيدة زينب من ارض دمشق، وهؤلاء الموجودون معي هم أيضا من ابناء المنطقة، جميعنا مقاتلون تابعون لقوات الفرقان المعارضة للنظام الكافر، نعمل في هور الحمار منذ خمس سنين، لقد دخلنا منه الى البصرة فجر اليوم).
يتعالى التصفيق والهتاف، وكأنه لم يفارقهم كل هذه السنوات.
يسمع المؤذن، القصة كاملة، يتبرع في أن يكون هذه المرة شاهد أثبات، تأمل أن تكون شهادته الميدانية أمضى وقعا من كتابة التقارير:
نعم أنه ابن الحاج مرتضى، أنا أعرفه حق المعرفة.
يتعالى التصفيق ثانية يصحبه قدر من التكبير، يلتف حوله الجمع، كأنه من سينجز مهام التحرير.
البداية مريحة، فيها أمل قوي باكمال فعل التحرير، يؤشر الى أحد مرافقيه بتنظيم صفوف المتطوعين المجاهدين وجعل الجامع مقرهم التعبوي حتى ورود التعليمات.     
تقف سيارة الحمل في مكانها قرب الجامع، كانت ممتلئة بالشباب قبل وصولها اليه، يعلق كريم على بابها اليمنى علما أخضر. يصعد مجاهد من جماعة الفرقان جنب سائقها في الوقت الذي يأخذ سالم مكانه خلف مقود السيارة الثالثة، ويكون كريم في المقدمة بسيارة أمين سرالشعبة الباترول. يتجهون جميعا الى القوة البحرية.
المنظر غير مألوف، سيارة الحمل لم تعد ملامحها معروفة من كثر المتعلقين بجوانبها، وغيرهم من لم يسعفه الحظ بالصعود أو لم يجد مكانا للتعلق، أمتطى دراجة هوائية، ومن لم تكن له  عجلة هرول بنفس الاتجاه كأنهم في غارة نهارية على مرابع قبيلة يناصبونها العداء عشرات السنين.
يحضر مهدي بائع النفط بعربته النفطية إثر سماع التكبير والدعوة الى سقوط الديكتاتور، لا يرغب ان يكون بعيدا عن مجرى الاحداث وفرص الفوز بالغنائم. يحرر الحصان، يركبه حاسرا دون سرج، يركله بكلتا قدميه، يغير به خببا ليجاري سيارة الحمل في سيرها غير السريع.
القوة البحرية ليست بعيدة، الامل بغنيمة من اسلحتها ومعداتها كبير. الحصان هذا اليوم لم يُخلق الى جر العربة، خصصه مهدي للكر وكسب المغانم مثلما فعل الاجداد.
لا احد يحرس الباب النظامي، ابريق الشاي مازال على المدفأة النفطية، كأن الحراس استشعروا قصد المنتفضين، فتركوا الباب مشرعة، لمن يريد الدخول. دخولها اسهل من ذاك الذي جرى في مركز الشرطة.
مقر القيادة يعرفه سالم وكذلك مكان الاستخبارات. يعطي اشارة الانعطاف الى اليمين، يخفف كريم من السرعة، تتبعه سيارة الهينو.
يؤكد السائق على أن المقر في اليمين ثم يلتفتُ الى البدن الخلفي، لم يجد من الراكبين الراغبين بالقتال عددا يزيد عن العشرين.
يحاول المجاهد طمأنته:  
لا تشغل بالك، أغلبهم حضر لكسب المغانم، ستجدهم يتكاثرون عندما ندخل المقر، حتى لا يمكنك التعرف عن الاماكن التي يخرجون منها، انهم لا يفكرون مثل كريم، ولا مثل علي وسالم، يومهم هذا مخصص للمغانم لا غير.  
يؤكد السائق بثقة العارف أن لهم الحق، غالبيتهم معوزون عاطلون عن العمل، والبحرية كنز لا يستهان به لتعويض المال الذي يُفترض أن يأتي من العمل.
مقر القيادة كان قد اخليّ تماما قبل ساعة، لم يبق أحد من ضباطها والجنود، سوى ملابس عليها رتب عسكرية واضحة، تبعثرت بين الغرف والممرات، استبدلها أصحابها بملابس مدنية ليسهلوا على أنفسهم الاختلاط بجمهور ثائر وآخر غازٍ يسيرون معا في نفس الطريق وان أختلفت الاهداف، قريب منه مقر الاستخبارات البحرية بات يحترق بفعل أصحابه لطمس أية وثائق تدينهم، ولابقاء سجل الوكلاء والمعتمدين بعيداً عن متناول الجمهور الساعي للانتقام، التفاتة تأتي بوقتها تُنجز تماما قبل هذا الهجوم بدقائق، لا احد باق في هذا المقر. يختفي الجميع بنفس طريقة التبخر في دقائق معدودات.
توقف كريم ومن بقي معه لالتقاط الانفاس والتفكير بالخطوة القادمة مؤكدا قرب المديرية الخاصة بأمن البصرة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

782 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع