السيقان المتعبة من واقعة الهجوم على مركز الشرطة في محلة الجمهورية تستقطع من زمنها العابر وقتا للراحة بهدف تجديد النشاط، وكأن أصحابها خرجوا من المعركة توا يستحقون التمتع بالراحة الحتمية للتهيؤ الى أخرى في القريب.
النهب ومشاعر الانتقام تدفع أصحاب السيقان بملابسهم الرثة واسلحتهم البيضاء صوب الشعبة الحزبية، يغنون يصرخون يغطون قلقهم الهائم بعباءة الهتاف (يسقط الرئيس).
القليل منهم يفكر جديا بالسبل الكفيلة لسقوط الرئيس، بينهم كريم وسالم وبعض الموجوعين.
الشباب الذين استولوا على سلاح المركز المنهوب يلتفون حول كريم، يفتشون عن قائد يضعون على كاهله المسؤولية وباقي الهموم، مشكلتهم يريدون أن يصبحوا جميعا قادة، ويريدون في ذات الوقت أن يحمّلوا الغير مسؤولية القيادة في مثل هكذا ظروف صعبة. لقد أصبح كريم قائدا لفريق الشباب، يطالبونه باتخاذ المزيد من قرارات الاقتحام واسقاط المقرات.
النهابون لا يريدون قائدا، لا يلتزمون باصول الاقتحام، يتسابقون في الوصول لاقتناص فرص الاستحواذ على الأثمن في سجلات النهب المبعثرة بكل مكان، في الوقت الذي يسير فيه القائد المُنصب شعبيا في الأمام بحماس شديد، يجانبه في اليسار صديق الساعة سالم، المؤمن حد الجنون بضرورة الانتفاض وأسقاط الرئيس.
يلتفت القائد الى اليسار، يفتش عن الحاجة رضية يجدها تحث الخطى بطيئة، كأنها هرمت في ساعة محنة بوقع يعادل العشر سنوات أو أنها تعبت من شدة إخراج الغل بين ثنايا المكبوت. يتأخر في مشيته خطوات يخاطبها بحنو الولد المأسور:
لقد أخذتِ وأخذنا بثأرك، أبنتك وحدها في البيت، الوضع لا يساعد على بقائها وحيدة في ذاك البيت.
قبّلّها من رأسها أمام الثوار المنتفضين والنهابة العابرين، واعداً اياها العودة لمشاهدتها، ابناً لها في مكان المرحوم وليد، بعد اتمام مهمة أرادها المنتفظون.
قبل أن تودعه عائدة الى بيتها، كما أراد، أنفجرت باكية، بكاءً قاسياً من النوع الذي يقلل وجع الاحزان على قلبها المليء بالشقاء، وأومأت بطرف عبائتها الموشحة ببقايا عجين يابس، اشارة تعني الموافقة والانتظار.
تغلق الشعبة الحزبية أبوابها، يطوقها الجمهور من كل الجهات، اطلاق نار في الهواء يصدر من داخلها، للتخويف أو بقصد التخفيف عن القلق الكامن في نفوس أعضائها الحزبيين. يقترب كريم من بابها الرئيسية، يطلق رشقة من رشاش كانت كافية لفتح الباب، يدخلها مناديا بصوت جهوري لا رجفة فيه:
أخرجوا في الحال.
تخطئه رصاصة من أحد الحزبيين، يرد عليها بعشر رصاصات اردت المقابل قتيلا، يتصاعد الهتاف بموت الرئيس، يزداد الاعجاب بشجاعته والايمان بقيادته، يستسلم باقي الرفاق دون مقاومة تذكر.
انهم جميعا في موقف صراع بين الرد ونقيضه سَرّعَ من حصول الاستسلام.
الجمهور المنفعل، لا وقت عنده لقبول الاستسلام، او لا مجال في عقله المأزوم سوى التفكير بالانتقام.
لكل واحد منهم قصة حزينة مع رفيق بهذه الشعبة الحزبية، يتحين الفرصة للانتقام منه أو من غيره ترويحا لانفعالات سقطت في قعر الذاكرة من صولات الجيش الشعبي أيام الهروب من الخدمة العسكرية، جعلت الانتقام يتجمع بلحظة واحدة تلالا من المقت، ودفعت في أن يكون الرفاق كل الرفاق طعما سهلا لسلاح المنتفضين والعابثين والانتهازين.
يستمر اطلاق النار، يزداد الرفس بالأقدام، وكأن الجميع في حلبة للمصارعة بيعت فيها النتائج مسبقا. وهم كذلك يطلقون، يركلون، يشتمون، ينهبون، يكسرون، يأتي صوت رخيم من بينهم، كأنه صوت الحق ظهر في وقت الالتباس:
لا تقتلوا الرفيق جابر، انه لا يشبه الباقين، لقد انقذني من الاعدام، يندفع نحوه، ليحول دون قتله، مجازفا بنفسه في خضم الفوران.
يتدخل كريم، لانصاف صاحب الصوت وغيره، مناديا من موقعه:
توقفوا جميعا، لم نأت للانتقام.
اخرجوا من بقيَّ على قيد الحياة الى خارج البناية، سننقلهم الى الجامع، وهناك سيكون الحساب لمن ظلم فقط.
يخلع جابر بدلته الزيتوني برمشة عين، يفضّل البقاء بالسروال الذي يضعه تحتها للوقاية من البرد، يهتف بسقوط الرئيس، يذهب مع منقذه الى البيت مذعوراً، لا يكلم أحداً من أهل البيت، يدخل في غيبوبة، قيل عنها لاحقا جلطة دماغية أقعدته طريح الفراش سنة كاملة.
تُخرب البناية القائمة مقرا حزبيا رصيناً بنفس طريقة التخريب التي حصلت في المركز، تنهب بنفس الطريقة، تُحرق من ذات الشخص الذي أحرق المركز بنفس الوسيلة، فرق واحد بين الواقعتين المتزامنتين قوامه قتيل واحد في المركز، وخمسة قتلى في الشعبة الحزبية، تُركوا على أرضية القاعة المخصصة للاجتماعات نهماً للنار.
يزداد المسلحون عددا، سيارتان من موجود الشعبة أصبحت بحوزتهما احداهما نيسان باترول، والاخرى تويوتا نصف طن نقل.
تبعثر السلاح سريعا بين المهاجمين بطريقة الغنائم العشوائية،وجرى الاستحواذ على المحتويات بنفس الطريقة العشوائية، حتى لم يبق في المكان ثاقبة ورق أو قلم رصاص.
الجمع الذي يتكاثر مثل كرة الثلج المتدحرجة، ينشطر على نفسه.
أبطال جدد ينهضون من الركام.
رجال يحضرون من الاهوار.
آخرين يعودون من صولة نهب يحسبون على الثوار.
البعض يشعر أنه الاولى والاجدر بالقيادة ثوريا.
عسكريون يلتحقون فرادا بالجمع المنتفض، يعتقد بعضهم أنه الاصلح للقيادة مهنيا.
يركب سالم في سيارة أمين سر الشعبة (الباترول) جنب كريم، يشير عليه بضرورة التوجه صوب المقر الرئيسي لفرع الحزب على الطريق الواصل بين الجمهورية والقوة البحرية، يؤكد سوء رمزيته للظلم وحتمية اسقاطه في الحال.
يصلونه متأخرين، فالمقر الحزبي قد أحتلَّ من قبل الجمهور المتعطش لكسب الغنائم، كأنهم عادوا برمتهم الى الصحراء، الى زمن الكر والفر.
نساء تتنطط بين الرجال، لا تلتفت الى تحريم الاختلاط بالرجال.
رجال يدعسون أطفال.
أطفال يلهون بالرصاص المبعثر في كل مكان.
الجميع يحمل أشياء، كل الأشياء، كأنهم تعاهدوا فيما بينهم على افراغ المقر أو كنسه من كل الأشياء. أو أنهم تصوروا أنفسهم في غزوة قبيلة تنافسهم على الكلأ هم فيها منتصرون.
آخر المغادرين لهذا المقر الذي أخاف المساكين عقدين من الزمان، قبل ان تشبُ فيه النيران، أمرأة جاوز عمرها الستين، تحمل شاشة حاسوب، تحسبها تلفازاً.
يسألها سالم بدعابته المعهودة:
هل تعرفين هذا الذي تحملينه ياحاجة؟.
نعم انه تلفاز.
لا انها شاشة حاسوب.
انت تكذب، تريدني أن أتركها لتسرقها مني، وتحسب نفسك رجل أمين.
أقسم انه كذلك.
تندب حظها العاثر، ترمي غنيمتها من فوق متنها الملفوف بعباء سوداء تشققت من فرط القدم وكثر الاستعمال. تتلقفها أرض الشارع المكسية بالقار لتهشمها قطع متناثرة.
توقت المرأة ذات الحظ العاثر قليلا، كأنها تريد أن تبرر فعلتها، فنطقت بعبارات لم يفهم منها سوى كلمة ظالم، وأكملت سيرها باتجاه القوة البحرية مع آخرين تسير واياهم في صفوف غير متجانسة على أمل الفوز بغنيمة من أملاك الظالم لا تكون شاشة حاسوب.
361 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع