مطبات على طريق العودة (3)...
نجح الساعون توا في مغادرة المكان المثير للاكتئاب،حصلوا على مبتغاهم دون وداع من أحد، فتشجع المترددون ، ومن سبقهم في عبور الجسر العسكري المنصوب لأغراض الحرب.
اندفعوا بما تبقى من طاقة لاجسامهم المنهكة بغية تحقيق غاية العبور، قصدوا السيارات الثلاث، قبل اكتمال حمولتها من التوابيت التي تبعثر الموجود منها وسط الشارع المزدحم بالمنفعلين. تحتل جميعها من أولئك العسكريين المنفعليين بجرأة لم يتيسر مثيلها في سوح القتال. يُدفع سائق السيارة الأخيرة من مقصورة القيادة ركلا، لاحتجاجه على رمي التوابيت بهذه الطريقة المهينة. يشتم من دفعه عنوة أثناء تدحرجه على أرضية الشارع التي أكلت بعض أجزاءه حرب الثمان سنوات.
لماذا تتجاوزون على حرمة الشهادة، الم تكن هي من أبقتكم أحياء؟.
يجلس خلف المقود بدلا عنه رئيس عرفاء، ضخم الجسم بكرش مدلوع الى الامام، وشاربين طويلين أخذ وقتا في رعايتهما يفوق الوقت المخصص من عنده لادامة السلاح. تتحرك جميعها بأهازيج تعبر عن فرح معجون بالخوف ووخز الضمير.
يتفرج الباقون غير المحظوظين على من فاز بفسحة وقوف داخل البدن الواسع أو من جلس على غطاء اطارها الامامي المتهرئ، أو من تعلق في بابها الخلفي شبه المفتوح.
جميعهم محسودين، وكأنهم وصلوا أهل ينتظرون باشتياق، أخذوا حماماً حاراً وتمتعوا بفراش الزوجية الوفير.
منظرهم يثير الرغبة بالتحدي، واستثمار الفرص المتاحة، هكذا هي النتائج المتوقعة لمعادلة الخسارة النفسية في الحرب.
تدب الحركة من باقي المنفعلين، يتوزعون غريزيا على شكل جماعات، تسيطر على ما تبقى من سيارت تقف في المكان بعضها يخص أناساً جاءوا يفتشون عن أولادهم المفقودين او الشهداء، لا مجال الى أي منهم للرفض أو الامتناع، فالسحب من خلف المقود أبسط انواع الرد في حال الامتناع.
سيارات صالون تقف بعيدا عن صخب الانفعال، تختفي بأصحابها من الشارع تماماً، تجنبا لفوضى الاستحواذ من قبل المنفعلين. مجموعة تتجه صوب الازقة، تلمح من بعيد عربة يسحبها جرار زراعي، يركض أفرادها بالاتجاه المطلوب، كأنهم في سباق معد خصيصا لأصحاب المسافات القصيرة، يدفعون صاحبها، يصعدون اليها دون التفكير بالخطوة القادمة والاتجاه الذي اليه يسيرون، مجبولين على ترك المكان الذي أصبح وكأنه ركن من الاركان التي خصها الاسلام جهنما للمذنبين.
يستفيق حميد من إغماءته، يسأل عما حدث، فيجيبه حسيب:
- لقد ارتطم رأسك بالارض، اثر دفعك من جندي نافسك على الجلوس جنب السائق.
- لعنة الله على هذا اليوم الاسود، ماذا سيحل بنا بعد.
- الحمد لله على نجاتك من هذه الصدمة القاتلة.
- لقد فاتتنا فرصة السيارات الاربع الناقلة لتوابيت الشهداء الى بغداد.
- لم يكن مكتوبا لنا الصعود بها، دعنا نواصل السير مشيا، عسانا بوسيلة تأخذنا من هذا الطريق. لا أطيق البقاء، دعنا نتحرك وندع أمرنا الى صاحب الأمر، قالها حسيب.
الراكبون الفائزون، وأضعافهم الماشين على الاقدام سلكوا الطريق الواصل بين التنومة ومدينة العمارة، يعتقدون بضمان النجاة، بينهم وبعيدا عنهم تتنقل سيارات عسكرية لقادة كبار، حافظوا بفطنتهم على وقودها كاملا لهذا اليوم المشؤوم، محمية بجنود وجوههم مكفهرة من شدة القلق، مستعدون، متأهبون، أصابعهم على الزناد، لم يخطر على بال أحدهم فكرة التنازل عن مكانه المريح في مؤخرة السيارة لأي كان.
عجلة آمر اللواء السادس والثلاثين تتعرض الى كمين، أعده عشرة جنود أعياهم تعب المسير، جلبوا جذع نخلة أيبستها ملوحة مياه بزلت من ايران عمدا كصفحة مكملة لصفحات القتال التي لم تنهِ الاحقاد، وضعوه وسط الطريق، أنتظروا قدوم سيارة... أية سيارة، فكانت تلك المخصصة للعميد قدمت نفسها قربانا لتخفيف الانفعال، هجموا عليها ببندقيتين متبقيتين، وبسرعة صولة لم تكن معهودة في قتال الكمائن الطارئة.
- انزلوا جميعا، قالها حامل البندقية بعد تصويب فوهتها الى صدر العميد.
- أنا آمر لواء.
- آمر لواء في الجبهة وليس في هذا المكان.
- انزل واترك السيارة، والا سافرغ ما في المخزن من اطلاقات في صدرك، وستُحسب شهيدا بأي حال من الاحوال.
يعلق أحد الجنود المشاركين في الكمين المنصوب باستهزاء:
- لا تأبه سيدي فالشهيد يحصل على قطعة أرض وسيارة، ومجموعه أنواط تؤهله وذويه لأن يكونوا أصدقاء السيد الرئيس.
وسط هذه الأجواء، يتقدم شيخ مسن، يؤشر بعصا توكأ عليها في السير الى المكان الذي هو فيه، يوقف سيارة عسكرية (لانكروزر) تنقل ضابطين من اللجنة النفسية لديوان وزارة الدفاع، يقصدان المقر التعبوي للقيادة العامة للقوات المسلحة شمال التنومة بعشر كيلومترات، يأمل في التمكن من استقطاع دقيقة واحدة من وقتهما المشبع بتوترات الطريق، متوسلا دفن بقايا جنود قَصفت سيارتهم طائرة أمريكية معادية قبل نصف ساعة من الآن، يخاف أهل القرية مسائلتهم دفنها قبل استحصال الموافقة، ويخشون عقاب الله في تركها عرضة لنهش كلاب سارعت الى المكان مدفوعة بحاسة الشم التي استنفرتها رائحة اللحم المشوي بالنار الملتهبة.
رد عليه اللواء الركن منذر:
- أدفنوهم رحمة بأرواحهم، من سيسألكم في هذه الظروف.
- سيدي، لقد أعتدنا الخوف من خيالاتنا، ثم يتقرب خطوة من العميد الجالس على اليسار، يلقي التحية ويهمس في اذنه:
- اتركوا المكان بسرعة. الطريق غير آمن، أقل ما فيه هجوم من قبل الاهالي لافراغ سيارتكم من الوقود او اجباركم على التنازل عنها واكمال المشوار مشيا على الاقدام، لقد تعرضت عدة سيارات عسكرية الى النهب قبلكم بقليل، الله هو الساتر، هو الرحيم بعباده المساكين.
يترك الضابطان المنطقة يعتريهما قلق شديد، ينقلان صورته وتقريراً مفصلا عن الحالة المعنوية المتردية لمنتسبي الوحدات المنسحبة عشوائيا الى أعضاء القيادة العامة للقوات المسلحة المتواجدين في مقر قديم لفرقة عسكرية تركته من أيام الحرب مع ايران. ينوهان بوصف دقيق عن توسلات الشيخ صاحب العصا لما يتعلق بدفن الجنود المستشهدين على الطريق، ووضعية الجنود الماشين في شوارع البصرة، وضياع المقرات، وحالة الانفعال حد الهياج التي تنبئ باحتمالات حصول شيء غير طبيعي.
- ماهو الشيء غير الطبيعي؟.يسألهم رئيس الأركان بقدر من التهكم،ويضيف.
- هل هناك أمرٌ غير طبيعي أكثر مما يحصل الآن؟.
ثم يغيّرُ لهجته من التهكم الى النقد، ويكمل قائلا:
- أنتم معشر النفسانيين تطرحون الاشياء نظريا، اعلمونا ما نفعله للحيلولة دون حصول أمر غير طبيعي عنه تتكلمون، أو تسكتون لا حاجة للكلام واثارة المواجع والظنون.
- سيدي، نحن نحلل ونعطي تصوراً قريبا من الواقع، ولا معرفة لنا بالامكانيات المتاحة للتعامل مع ما يحصل.
يهدأ قليلا ويكمل أوامره:
- لا بأس قدموا ما لديكم من مقترحات وتحاليل، انهوها بسرعة ليس لدينا ما يكفي من الوقت لسماع التحاليل.
- سيدي، نرى بداية. ألا يبقى احد في شوارع البصرة من العسكريين الذين يحملون على اكتافهم المتعبة ثقل الهزيمة، عفوا: الخسارة، وما نتج عنها من احباط، لأن بقاءهم انتقال عدوى الاحباط العدائي الى جمهور تتلقف مجساته كل المثيرات السلبية لانتاج غير الطبيعي.
يرد رئيس الاركان:
- ألم نقل لكم ياسادة انكم نظريون؟.
- إن الدولة لا تملك قطارا يسير على سكة حديد، لا تحتكم على سيارة نقل عسكرية تتنقل على طريق، ولا طائرة ركاب تطير. كيف ننقل كل هذه الجموع التي ازدحمت بها شوارع البصرة وازقتها؟.
اتركوا الامر هكذا واذهبوا مبكرا لمقرات الفيالق المعلومة، حاولوا ان ترفعوا معنويات القادة المصابين بالاحباط، قبل ان يحدث الشيء غير الطبيعي الذي عنه تتكلمون.
مغادرة المقر الاعلى دون عقاب في موقف جدال محبط أوقات الهزيمة العسكرية ، التفاتة من خالق عطوف، والوصول الى البصرة ومن ثم الى أبي الخصيب حيث المقر المتقدم للمركز النفسي بسلام في هذا المساء نعمة من الخالق الكريم.
الطريق الى المقر في أبي الخصيب، ساحلي طويل موحش، تتوالى انحرافاته يمينا وشمالا مثل أفاعى المياه المالحة، يتردد سطحه غير المستوي بين الضيق والسعة، تحجب النظر عن سالكيه تلك الشجيرات التي نمت على حافاته في سني الاهمال الاخيرة، مما يزيد من وحشة السير عليه. تبادل الحديث طوال هذا الطريق، يقلل قلق الوحشة، بدأه العميد بصوت خافت، لا يسمعه أفراد الحماية الاربعة الجالسون في الخلف، قائلاً:
- أوامر رئيس الاركان لزيارة مقرات الفيالق خارج البصرة، جاءت في وقتها المناسب.
- كيف؟. رد اللواء منذر:
- الوضع لا يتحمل التأخير، سيقع غير الطبيعي في القريب العاجل، ربما الآن على هذا الطريق الذي نسلكه وحيدين بين قرى يعيش أهلها غضب غير مسبوق ، أو في الغد من أي مكان يتواجد فيه جنود يحسون الم الانكسار،كل المؤشرات النفسية تدل على قرب وقوعه. رد اللواء:
- ألا يمكن أن تُفهمُني ماهو غير الطبيعي الذي تقصده، حتى أني لم أفهم قصدك عندما قدمت شرحا عن الموقف المعنوي لرئيس الاركان.
- معقول أبا أركان ما فهمت المقصود، دقق بوضع الجنود، وردود فعلهم الغاضب، وتجاوزهم بالسب على المسؤولين الكبار بينهم الرئيس، ستفهم واقعاً إذا لم يتم أيقاف تدهوره بقدرة قادر، فأنه سينفجرسلوكا مدمرا بالضد من الدولة في القريب.
- هل يعقل هذا؟، ألم تر أنَّ في تحليلك قدراً من المبالغة؟.
- أبداً، أحس وقوعه في كل لحظة تمر، وفي كل مكان نمر، ومع هذا دعنا ننتظر، لاننا سنراه في القريب.
- أرى من المناسب، بل ومن الضروري ارسال السيارة العسكرية مع قوة حماية كافية هذه الليلة لتبقى في الضفة الثانية لشط العرب، قريبا من المفرزة الخاصة بزوارق القيادة العامة للقوات المسلحة.
- لماذا الليلة؟، لماذا لم ننتظر الى الصباح؟.
- لتفادى أي تأخير محتمل في عبور الجسر صباح الغد، وأضاف:
- أرى أن مغادرة أبي الخصيب يفترض أن تكون الساعة السابعة صباحاً، بسيارة الواجبات التي تُوصلنا الى مرسى الزوارق، ثم الى التنومة التي تنتظرنا فيها السيارة (اللانكروزر)، ومنها نسلك الطريق الى العمارة حيث المقر الرئيسي للفيلق الرابع.
اللواء الركن منذر المسؤول الاول في المركز، احتسى جرعات القلق الذي أحسه عند رئيس الاركان ومعاونه، وأدرك حقيقة التفسير المذكور بالرجوع الى تصرف الشيخ صاحب العصا، وحوادث متفرقة على الطريق، فوافق بسببها على المقترح الذي قدمه العميد المختص في الشؤون النفسية دون نقاش، مضيفا من عنده:
- من الضروري أن يترك المقر في هذه الحالة جميع الضباط الاطباء النفسانيين الملتحقين بالمركز قبل الساعة السابعة أيضا.
- هذا صحيح، على ان يجري الالتقاء بهم في بناية الدائرة ببغداد للتداول في الخطوة القادمة، مع بقاء ضابط اداري، وبعض جنود الحماية بانتظار الاوامر اللاحقة حسب تطورات الموقف الذي لا يمكن الاطمئنان اليه.
380 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع