سبات خلف الأبواب المغلقة...
سنحتفل بيوم اللغة العربية. لابد أن نحتفل بلسان لغتنا العربية. القرآن الكريم لغته عربية. هكذا هي العبارات التي استهل بها الوزير توجيهاته المركزية الى المدير العام، رئيس اللجنة المشرفة على تهيئة الفعالية الفنية للاحتفال بيوم اللغة العربية.
يعيدها في ذاكرته مرارا بعد تخطيه عتبة المكتب الخاص بالوزير، يبتسم مع نفسه فرحاً بالتكليف، لان الاحتفال بالاصول العربية غير وارد في حسابات اليوم. يشرع بالتنقل بين هذه الدائرة وتلك، يحث المدراء المعنيين على الالتزام بالمواعيد المثبتة في الجدول الخاص باجراءات الاحتفال. يكتب تفاصيل العمل واسماء المدعوين ونوع الهدايا وكلمات الترحيب، يعي قدرة موظفيه المحدودة، ويعي أن زملائهم الصاعدين على دكات الوظيفة دفعا من قاعدة السلم الى أعلى درجاته، لا يعطون من أنفسهم مثقال جهد عابر، ولا يبادرون من ذواتهم قليل رأي وافر، جل حساباتهم تتعلق باليوم الذي يحل فيه الراتب، يغلقون فيه سجلا كان مفتوحا، ويفتحون آخر بانتظار غلقه نهاية الشهر في دورة حياة رتيبة.
يحل اليوم الموعود للاحتفال، تأحذ اللوحات الفنية الخاصة بالمناسبة مكانها فوق المساند الخشبية في القاعة المجاورة كواحدة من الفعاليات الخاصة بالاحتفال، يحضر كبار الوزارة، رؤساء دوائرها، المدراء العامون، العديد من الموظفين، وبعض المدعوين من خارجها على وفق قائمة رُتبت بشكل دقيق من رئيس اللجنة المشرفة.
يبدأ الاحتفال بآيات من ذكر الحكيم أختارها بنفسه أيضا، ومن بعدها يتصدر الواجهة العريضة شعراء شعبيون، يمدحون بأوزان مديح سُجلت بأسمائهم قبل عقد من الزمان، غيرّوا فيها الرموز وابقوا المعاني صالحة لكل زمان. يشيد كبير المدعوين في بضع كلمات باللغة العربية وأهميتها في التاريخ البشري، يُذَكِّر الموجودين في القاعة الفارهة أن العربية لغة أهل الجنة، يتعالى التصفيق مصحوبا بنشوة التفضيل على الغير من باقي الاقوام التي لا تتكلم العربية، وكأنهم ضمنوا الجنة بمجرد النطق بلغة أهلها.
توزع الشهادات التقديرية على ضيوف الوزارة، تصل الى من كان له باع في اللغة العربية، تُمنح الجوائز والهديا، سيل ممتد من الجوائز والهدايا، لا فرق في المفهوم، فكلاهما تقدير للمقامات الرفيعة. يعلق الجالس في الصف الثاني غير المشمول بالهدايا بعد ان إبتلع لعابه بصعوبة قائلا (نحن نحب المقامات، نُجلها في كل الازمنة والاوقات).
يلتفت اليه آخر من المشمولين، يخزره بنظرة عتاب، وكأن لسان حاله يقول (لو استلمت هدية لما تكلمت) ينتهي عتابهما المكتوم عند حدود النظرة فقط، فالاحتفال لا يتحمل أكثر من العتاب شزرا في النظرات.
يقص الوزير ذاك الشريط الأحمر لقاعة المعروضات الفنية، منهيا العزل الاحتفالي بينها وبين القاعة الرئيسية، يصفق الحضور بحرارة تقديرا للفن أو مجاملة للوزير لا أحد يستطيع التفريق بالنوايا في مثل هكذا مواقف. يلقي نظرة على اللوحات المكتوبة بالخط العربي الجميل، يسمع الشرح المقدم من كل فنان باسهاب، يشيد بالفن وأصحابه المرموقين، يقف معهم، يتصورمعهم، يُشعرهم بنعمة الانجاز وثمرة الجهد عرضا لفنهم الرفيع أمام النخبة في المعرض الخاص.
يقف الفنان كريم أمام لوحاته الثلاث مزهوا بنظرات المارين قربها وتعليقاتهم الايجابية على انسجام ألوانها، يكلم زميله في الجوار (سنبيع جميع اللوحات هذا اليوم، مازال الفن في عراقنا بخير).
يعود الوزير الى القاعة الرئيسية، يكمل ما بدأه من أحاديث الفن واللغة وأهمية التراث لشعب توحده اللغة العربية.
يحتل السيد وصفي، مكانه في الصف الاول، يرقب ما يجري، يشيح بنظره الثاقب يمينا والى الشمال كمن تزاحمت في عقله الافكار، يهمس في اذن صاحبه القريب من جانبه الايسر، منتقدا هذا التجمهر حول الوزير، يصفه بالسلوك الأنتهازي الموروث من الزمن السابق، يذم الزمن السابق، ورجال طالما وقفوا على أبواب مسؤوليه يستجدون الرضا وتعزيز المقام. يؤشر بأطراف اصابع يده اليمنى الى أحدهم بدرجة تقارب درجته الوظيفية العالية قد تقدم من الوزير طالبا التصوير معه في وضعية خاصة، يراها تجاوزا على أصول التعامل مع كبار المسؤولين، يكمل تجوال نظره الى آخر يقف في الصف الخاص بطالبي التصوير.
يتحرك في مكانه، كأنه لا يستطع تحمل الابتعاد عن متعة التوثيق أو كأن التاريخ سيغادره دون ترك بصماته الخاصة بالعظمة على مسيرة له توثقت بصور أخرى مع وزراء آخرين من أزمنة أُخرى، ويمكن أن تكون الضنون التي لبسته قد صورت له الواقفين في الدور أقل شأنا منه، فأندفع الى الامام ليعلي من هذا الشأن المهزوز. حشرَ نفسه بين الوزير وبين الواقفين في الدور، لم يكتفِ بوضعية واحدة لأغراض التوثيق، لوَّحَ للمصور باشارة الاستمرار بالتصوير لأكثر من صورة وأكثر من وضعية، ختمها بابتسامة في وجه الوزير وبقول لمن حوله (انها مناسبة لم تتكرر) يبادله الوزير ابتسامة تبدو باهتة.
يهدأ بعد اللقطة الثالثة، كأنه أنتصر على الآخرين فالحصيلة ثلاث صور بثلاث وضعيات، يعود الى كرسيه ضاحكا، تلاحقه نظرات استغراب من البعض دون أن يعيرها أي اهتمام، يكلم صاحبه الذي لم يتحرك من مكانه عن أهمية الصورة لتوثيق التاريخ، وعن الذكريات التي تبقي الناس في وهج الخلود. تعاوده دورة الرياء من جديد، ينتقد فيها التدافع والوقوف في الدور من أجل الصورة لمن لا يعي أهميتها، يُفضل الاقتحام وسيلة عملية لمثل هكذا مواقف. يسكت قليلا، يرقب الحضور، يبدأ حملة جديدة من الذم الموجه للتجاوز والفساد. وهو هكذا مستمر في الكلام يرصد حركة توجه حثيث من قبل الكبار صوب القاعة التي تضم المعرض ولوحاته الفنية الجميلة.
الفنانون الذين يقفون أمام لوحاتهم، يحاولون تقديم الايجاز عن كل واحدة منها بفخر واعتزاز، لا يكملون الايجاز، فالكبار المارين من حولهم لا يعيرون الاهتمام وربما لا وقت لديهم يكفي للسماع، ثم انهم جاءوا في الاصل لأمر لا علاقة له بالايجاز.
تعاود السيد وصفي تلك الحركة المغزلية في المكان، ينهض ثانية، يشق طريقه وسط الكبار الذين يتدافعون عند اللوحات، يعود من غزوة التدافع بغنيمة قوامها لوحتان احداهما آية قرآنية والأخرى حديث نبوي. يجلس في مكانه باسترخاء غير مسبوق، يبدأ تقديم الشرح الى زميله الذي لم يبرح المكان، يحمد الله على تمكينه اللحاق بآخر لوحتين، يصف التهافت على اللوحات لمن سبقه من الكبار بالسلوك الهمجي، ويصف قيمة اللوحتان الدينيتان المستولى عليهن بالعظيمة، يقدر حاجته لهما في تزيين غرفة الصالون في بيته الجديد ومكتبه في الوزارة بمنتهى الاهمية. ينتظر خروج الوزير من القاعة، يتبعه حاملا غنيمته لوحتان، يتعقب رتل من حاملي اللوحات المغصوبة، وعيون أصحابها الفنانيين مازالت شابحة تودعهم باستهزاء.
يبقى صاحبه مشدوها في مكانه، يتمتم مع نفسه كأنه يكلمها همسا:
متى بدأت التدين وانت الى يوم السقوط من رواد النوادي الليلية؟.
هل نسيت غرفة نومك التي كنت تزينها بصور الرئيس واقفا وجالسا، وراكبا صهوة حصان؟.
ما هذا التلون السريع، وكيف استطعت تغيير ثوبك واقناع المعنيين بالوزارة أنك متدين؟. وكيف استطعت استبدال صور الرئيس في بيتك ومكتبك بآيات من القرآن؟.
ينتبه أحد الاصدقاء القدامى في مروره القريب الى بعض الكلمات التي تخرج من فمه متناثرة، يسأله فيما اذا كان يعاني شيئا غير طبيعي.
أنت تكلم نفسك؟
لا من قال أني أكلم نفسي؟.
لقد سمعتك تكلم نفسك.
دعني أكلم نفسي، سأبقى أكلمها، أَشعر اني غريب وسط هذا الجمع، ألم تراه جمع من المتدافعين يعتقدون أنفسهم في غزوات نهب مثل التي كانت تؤطر حياة الصحراء قبل مئات السنين؟؟.
انهم لم يتغيروا منذ مئات السنين!.
يخرجان معا في آخر الركب، يهمس الصديق في اذنه قائلا( أنت الذي لم تتغير).
يجيبه نعم أنا الذي لم أتغير، ولن أتغير، سأترك الوظيفة قريبا لأهرب من هذا التغير.
يدخل مكتبه الذي يحتل ركنا في الطابق الخامس، يكتب طلب الاحالة على التقاعد لاسباب صاغها بدقة متناهية تتعلق بعدم القدرة على مواكبة التغير.
يضع القلم الذي كتب به طلب الاحالة على ورقتها الممهورة بتوقيعه، ويغادر مشيا الى البيت.
414 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع