حدث هذا ليلة الكريسماس...
نحن في ديسمبر من عام 1992 . المكان فندق سلطان وسط العاصمة الاردنية . دخلا غرفتهما وهما في قمة السعادة , لقد أقتطعا تذكرتي السفر , وبحوزتهما تأشيرتي دخول رسمية صادرة من السفارة البولندية .
وبعد أربع وعشرين ساعة سيطيران لا محال من عمان الى القاهرة ومن هناك الى بودابست حيث محطتهما الاخيرة وارشو . ومن هناك سيتوجهان الى مدينة صغيرة على الحدود الالمانية بانتظار قدوم مهرب عراقي كردي, يقلهما سرا وفي جنح الظلام وبواسطة دراجة بخارية , الى الجانب الالماني , حيث الاصدقاء ينتظرون قدومهما بفارغ الصبر . لتنتهي آنذاك كل مشاكلهما .
احتفلا ليلتها احتفالية صغيرة . خلدا بعدها الى النوم , بانتظار ساعات اليوم التالي البهيج . وفي الهزيع الاخير من الليل , استيقظ صديقه على ضحكاته العالية , التي مزقت صمت الفندق . في نفس الوقت ارتفع طرق شديد على باب الغرفة , وصوت يصرخ من وراء الباب .
ـ ما هذا الضحك ؟ . الناس نايمة يا جماعة .
فهرع الصديق الى فتح الباب مفاجئا عامل الفندق بالقول .
ـ انه يحلم كما ترى
فيما راح يوقظه بشدة وهو يردد
ـ أصح .. أصح . ماهذا الضحك ؟
فأستيقظ هو مذعورا وجال ببصره الى من حوله , مستغربا وجود عامل الفندق فوق رأسه, متسائلا بأحتجاج
ـ ما الذي يجري ؟
أخذا مكانهما في الطائرة, ومن القاهرة استقلا طائرة تابعة للطيران الهنغاري , توقفت في بودابست أربع ساعات ثم واصلت طيرانها الى وارشو . كان هناك الى جانبهما عراقي آخر ولبناني واحد وستة من الشباب المصري . وبدون مقدمات أصر الامن البولندي على عدم دخول اي عربي , وظل يجهل سبب ذلك حتى اليوم . فتقدم هو الى رجل الامن محتجا وهو يصرخ بوجهه .
ـ إن تأشيرة دخولنا حقيقية وصادرة من سفارتكم ببغداد
ورجل الامن البولندي يتجاهل احتجاجه , كما يتجاهل صرخات بقية الركاب العرب .وهنا أطلق الامن البولندي بأثرهم كلبا بوليسيا مخيفا , دفع بهم الى الممر المؤدي الى نفس الطائرة التي أقلتهم. وماأن اطمأن الكلب الى جلوسهم على مقاعدهم , حتى تراجع عن باب الطائرة. دقائق واعلنت مضيفة الطائرة عن الاقلاع وطلبت من الجميع شد الأحزمة. في التو طفرت من عينيه دمعة ساخنة, شعر صديقه بها فبادره قائلا بمرارة .
ـ انها ضحكة الامس التي انقلبت اليوم الى بكاء . كنت خائفا منها الا انني فضلت السكوت حتى لا أخيفك وقتها .
غاب عن الجميع ... وكم كان يتمنى وقتذاك, ان يجهش بالبكاء وبصوت عال, حتى يسمعه من في الطائرة ... فينتبهون الى حجم مأساته, كمن يستدر عطف من حوله. وهو يعلم حتى لو شاركوه البكاء, فسيظل البكّاء الوحيد في هذه الدنيا .
حطت الطائرة في مطار بودابست ثانية . كان ذلك ليلة عيد الكريسماس. حيث ُتُشل حركة الطيران بشكل ملفت للنظر, في دول المعسكر الاشتراكي السابق آنذاك, الى ساعة متأخرة من ليلة العام الجديد . وهذا يعني بقاء الجميع في المطار ما يقرب من خمسة ايام. جميع الركاب العرب لا يملكون مبالغ تكفي لشراء تذاكر على خطوط شركات طيران أوروبية أخرى. . هو وصديقه كل ما تبقى لديهما فقط مائة دولار . إذن عليهما البقاء في المطار ريثما تواصل الشركة الهنغارية طيرانها بعد الأعياد . الجميع استنجدوا به , فشعر بمسؤولية تجاه أخوانه العرب , ولم يجد حلا إلاّ التفاوض مع ممثل الشركة الهنغارية في المطار, الذي اقترح عليهم المبيت في معتقل يقع في الغابة, على بعد ثلاثة كيلومترات من المطار, خاص بحرس الحدود يودعون فيه المتسللين والمجرمين. إلاّ ان ما حدث ان حراس المعتقل عاملوهم معاملة المجرمين . مرد ذلك يعود الى عدم قيام ممثل الشركة بشرح الأمر للحرس .
كانت درجة الحرارة في الغابة تصل الى 20 درجة تحت الصفر . إلا ان الجو داخل المعتقل من الدفء ما جعل الجميع يخلد الى النوم . يتذكر جيدا كيف انه انتفض من نومه صباحا على هرج ومرج ساد المعتقل , ولما خرج من غرفته مسرعا, شاهد احد الشباب المصري ويدعى يسري, بين ايدي الحرس. وسيدة هنغارية في خريف العمر تؤشر الى يسري, دون ان يفقه شيئا من لغتها . تبين له فيما بعد بأنها خادمة تأتي كل صباح لأغراض تنظيف المعتقل, وان يسري حاول التحرش بها. لطالما اضفى هذا يسري على ايامهم البهجة والسرور. كان يعاكس حتى الحارس المناوب خارج اسوار المعتقل. فيقذفة من داخل المعتقل, بمصيدة صنعها من الاستك والورق على انفه, ليستشيط الجندي غضبا , خاصة في هذا الجو البارد جدا. كثيرة كانت مشاكل يسري, الا انه كان يقف حائلا بينه وبين الحرس في كل مشكلة, لإحساس الحرس بان له احتراما بين النزلاء العرب . كان ينظر بإعجاب الى الجندي الهنغاري المرابط خارج المعتقل , حيث الثلوج تغطي الاشجار بغلالة بيضاء , والجندي ثابت في مكانه , يستمد صرامته من العسكرية الشيوعية , التي هي سمة المعسكر الاشتراكي وقتذاك , والتي تفتقر لها باقي جيوش الدنيا .
انزوى مع صديقه في غرفة لوحدهما في المعتقل ... انتبه الى الكتابات على الجدران , كانت كلها بالعربية , وبتوقيع معتقلين عرب , قضوا في هذه الغرفة بالذات فترات طويلة. قرأ معاناة الجميع بفضول الصحفي والسياسي المتابع . كلها تحكي هروبهم من طغيان الانظمة العربية . ولعل اكثر ما لفت نظره , ان قرأ معاناة مواطن سوري في هذا المعتقل هو وزوجه وطفلتهما , يقول فيها بالنص : جحيم حافظ الاسد ولا جنة اوروبا . فأرتعد خوفا, ومالبث ان قال لصديقه متسائلا .
ـ هل هذا يعني اننا سنعيش ما عاشه أخونا السوري ؟
إن تصرفات حراس المعتقل , قد أرعبت الجميع , حتى هو المتماسك الثابت , توجس الخيفة , من ان يكون ممثل الشركة الهنغارية قد نسيهم . الى جانب ان حراس المعتقل يتغيرون كل 24 ساعة , ولم يستطع التفاهم معهم بسبب جهلم التكلم بغير اللغة الهنغارية .
كم كانت لحظة كبيرة كبر الدنيا , عندما هل عليهم ممثل الشركة مساء اليوم الاخير من عام 1992 , يزف لهم بشرى الرحيل . وفي مطار القاهرة دام توقفهم ما يقرب من عشرين ساعة . حاول خلالها الخروج من المطار والذهاب الى القاهرة . مدينته التي لطالما عشقها عشقا يكاد يقرب من عشقه لبغداد . الا انه كان يجابه برفض من قبل أجهزة الامن المصرية . ولا يسمع منهم غيرعبارة ( ممنوع وليس الامر بيدنا . انها اوامر حكومية ) . كم تمنى وقتذاك ان يشتم بصوت عال , وعلى الملأ كل من يقف وراء هذه القطيعة بين ابناء الشعب العربي الواحد . إلا انه آثر الصمت , واكتفى بالتجوال في اروقة
المطار . وظل على هذا الحال حتى ساعات الصباح يتوق شوقا الى الجري , في احياء الزمالك ومصر الجديدة وخان الخليلي والموسكي والحسين . وفجأة ينتبه الى النداء الداخلي الذي يدعو ركاب شركة عالية الاردنية بالتوجه الى الطائرة .
1104 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع