رائحة الأصناف المتعددة للطعام تختلط مع بعضها، حتى لم يعد الصائم قادرا على تمييز أي صنف يكون الأحسن، وأي نوع هو الأشهى، ليبدأ به أولا، بعد خمس دقائق فقط، موعد المدفع التقليدي للافطار.
تلاوة آيات من الذكر الحكيم مسجلة بصوت عبد الباسط عبد الصمد، تبثها الفضائية العراقية منذ نصف ساعة، تعطي المكان قدرا من الهدوء والخشية.
المطبخ القريب لا يسع الأم الحنون، والاستاذة الجامعية المقتدرة، وهي تعطي التوجيهات المتكررة، للآنسة منى المتكاسلة بنقل الجاهز منه الى الطاولة الموجودة في غرفة الطعام، بسبب دلعها المفرط، وانخفاض مقدار السكر في الدم بعد يوم صيام طويل.
واقفة تتأمل السماء، وهي تنتظر اللحظات الأخيرة لوضع حساء العدس في أربعة صحون لأفراد الأسرة الأربعة.
جميعهم صيام.
لا تقترب من شذى، ولا تعترض على عدم مشاركتها في استعدادات الطبخ والتقديم، كذلك لا تعلق على شدة انهماكها في مراجعة الموضوع المطلوب لامتحان مادة التشريح قبل دقائق من الفطور.
تقدر حالة الزوج المتعب من الصيام في جو حار، والمشغول بمسألة الانتقال الى البيت الجديد وبسيارة الحمل، التي يخشى أن يتأخر سائقها عن الحضور في موعده الساعة العاشرة صباح الغد، تأسيسا على الاتفاق الذي تم معه ظهر هذا اليوم وحسب عنوان البيت الذي ثبته بورقة أعطاها له أثناء الاتفاق، للبدء بنقل المفيد من الأثاث، أو أن يغفل هذا السائق الذي لم يعرفه من قبل، عن اصطحاب العمال الذين أخذ على عاتقه، جلبهم معه من المسطر المحاذي للكنيسة لغرض المساعدة في التحميل والتفريغ من البيت الحالي إلى البيت المستأجر.
الهدوء في الدقائق التي تسبق الأذان واقع بشكل عام، إلا من أوامر متفرقة تصدرها الأم، حول الترتيبات النهائية لتوزيع الطعام، وتأوهات منى، وشكواها من الاستغلال المقصود لحالها هذا اليوم، وترك شذى، مشغولة بالقراءة طوال اليوم، والالحاح على تشغيل المولدة الموجودة في الحديقة، بغية الحصول على نسمة هواء من مروحة منضدية اعتادوا تشغيلها عند انقطاع الكهرباء.
هدوء، أوامر، مشاكسات، ضحكات في الوقت ذاته الذي يجلس خلاله ستة أشخاص مسلحين من أحد التنظيمات الاسلامية التي تقاتل بالضد من الحكومة في سيارة نيسان باترول، بلون أبيض، لا تحمل أرقاما، تقف في الجانب الآخر من الشارع، على بعد خمسين مترا من البيت.
يراجع من فيها خطتهم المعتمدة من أمير المنطقة الـمُنَصبْ حديثا.
يحسبون توزيع الأدوار بقيادته شخصيا، لاقتحام البيت قبل الشروع بتناول الافطار.
يستعجلون التنفيذ (لابد أن يتم قبل تناول الافطار، ليغادر المستهدفون دنياهم جياعا).
الساعة تجاوزت الخامسة بقليل، لم يبق على أذان المغرب إلا دقائق معدودات، في جو صيفي يستمر حارا، وإن تداخلَ مع الخريف. يحتاج خلاله البيت إلى تبريد، والكهرباء لا أثر لها.
لا يمكن تشغيل التبريد.
شذى اليائسة من عودة الكهرباء، تعاود الالحاح على تشغيل المولدة، وربط المروحة المنضدية في غرفة الطعام.
إلحاح يستسلم الوالد لتكراره، ولأوامر الوالدة حول الموضوع نفسه، فيشير إلى سامر الذي يتنقل بين المطبخ والصالة من دون عمل مفيد بالصعود إلى المخزن، بغية جلب السلك الكهربائي الخاص بالتوصيل، وتشغيل المولدة (لابد من أن يتم التشغيل قبل حلول الافطار ليتناولوه وجبة مميزة بارتياح).
المخزن الذي يحوي السلك المطلوب في الطابق الثاني، يحوي كذلك جميع العدد، واللوازم المطلوبة لإدامة البيت، مبعثر بعضها، ومرتب بعضها الآخر على رفوف نظامية، وطبقة من الخشب، تجعل نصفه مقسما على طابقين، تشرف بابه على غرفة الجلوس بزاوية رؤية عريضة، وشباكه الصغير يطل على ممر خلفي، يفصل بينه وبين الجيران.
في هذا المخزن العتيق أكثر من سلك للتوصيل، متشابكة بطريقة فوضوية مثل وشيعة غزل تاه رأسها كما تضرب في ذلك الأمثال، تحتاج إلى فك تشابكها، واختيار الأطول منها لعمل التوصيل المطلوب بغرفة الطعام، مع التحويلة الخاصة بالخط القادم من المولدة، وسامر لا يجيد فك الاشتباك.
الأستعجال صفة تغلب على سلوكه المعتاد، في مواقف تحتاج الى السرعة في الانجاز، والعد التنازلي للفطور بدأ، وأي تأخير سيغضب الوالد، وسيعيد الاتهام بالكسل والتراخي، لكن الاستعجال ومحاولة تجنب الغضب يضاعفان الوقت المطلوب لفك الاشتباك، ويزيدان من فسحة التأخير.
يحاول جاهدا أن يستبق كل الاحتمالات الواردة، ويخفف من أثر التأخير، بتوجيه اللوم إلى منى التي وضعت التوصيلة في المخزن اللعين آخر مرة، وبصوت يسمعه الجالسون بالصالة.
توقفَ عن اطلاق اللوم بعد أن حصل على المطلوب، موجها الكلام إلى نفسه دون أن يسمعه أحد من الجالسين (الحمد لله لم يتكلم الوالد إلى الآن).
يهم بالخروج فرحا بالانجاز العظيم.
يوقفه في مكانه وسط المخزن صوت مطرقة ضخم، يأتي من ضرب باب الصالة، كأنه صوت إنفجار قنبلة يدوية هجومية، يعقبه صوت تكسر زجاج الشباك المطل على الحديقة الأمامية.
إرتعب وإن لم يميز الأسباب وقبل أن يفيق من نوبة رعبه نَفذَ شخص ملثم من الفتحة التي أحدثها الكسر.
طويل القامة، كأنه محارب من الفايكنغ، يحمل بندقية كلاشنكوف بأخمص يطوى بدلا من السيف المعهود، يوجه فوهتها إلى الحضور.
يدخل آخر بالتوقيت نفسه من الباب التي فتحت من أول ضربة.
متوسط القامة، نحيف مثل عدائي المسافات الطويلة، يحمل سيفا بدلا من الشعلة الاولمبية، يلوح به مثلما يفعل المسلمون الأوائل في معاركهم مع الكفار، يخلع لثاما كان يغطي وجهه المحمر بلون الدماء التي تدفقت إليه من فرط الشعور بالغبطة.
عيناه تلتمعان ببريق غريب، مثل عيون قطة محبوسة في قفص حديد محكم الأقفال، وقد تجسدت في داخلها كل مثيرات الغل والكراهية.
يتبعه إثنان يحملان مسدسات وذخيرة محزمة بها خصورهم، يخلعان اللثام بعد أن شرع هو بخلعه في أول خطوة أجتاز بها الباب.
أحدهما ممتلئ، أسمر داكن البشرة، أجعد الشعر، سوداني الأصل على الأغلب، والآخر شاب أبيض بسمرة خفيفة، لم يكتمل نمو جسمه، ولا شعر لحيته التي ظهرت على ذقنه شعيرات متفرقة، لايزيد عمره بأي حال من الأحوال عن السادسة عشرة عاما. هيئته العامة توحي أنه عراقي من بغداد.
تفرق الثلاثة على الزوايا الحاكمة في الصالة والمطبخ فور دخولهم، بإشارات من أميرهم الرابع حامل السيف، الواقف بمواجهة الأب الدكتور المذهول، وهو يحاول النهوض من مكانه كرد فعل غريزي أولي، فيحصل من السياف على أمر فوري حازم بالجلوس في نفس المكان، وهو ينتقل بعينه من مكان إلى آخر في البيت، بتركيز كمن يعرف خباياه، أو يتوقع رد فعل غير محسوب.
تقدم خطوة إلى الأمام (كُفارْ، زنادقة، عملاء، جاء يومكم) يزداد صوته حدة، ورخامة مع كل كلمة تقال، يتصور نفسه عند نطقها قائدا للميمنة في جيش خالد بن الوليد في صدر الاسلام، أو الميسرة مع طارق بن زياد في عبوره البحر، متجها صوب الأرض الاندلسية.
بدأ المخزن يصغر ويتقلص ويضيق، وتقترب الجدران منه حتى يكاد يطبق بحيطانه وبما فيه من مواد، أو إن الجسم الناصح تضخم، حتى لم يعد يسعه المكان، والرأس تورم من الدم الذي تدفق إليه فجأة من شدة الخوف، وسرعة ضربات القلب التي تضاعفت عدة مرات.
أهكذا هو الموت؟.
إحساس بالضيق من المكان.
عتمة شديدة.
عرق يتصبب.
وحشة عميقة.
طيش يرفع الجسم في الهواء.
لم يفكر من قبل بشكل الموت الذي يحس بدنوه الآن، وبشل القدرة على التفكير، والخدر الذي يسري في الجسم بادئا بالرأس متجها إلى أخمص القدمين.
492 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع