جسور السماوة .. ذاكرة المدينة وأسرارها
ثلثين الجَنَّه لهادينا ..
وثلث من الجنة لكاكه أحمد ..
وشويه شويه لبربوتي ...
بهذه الأهزوجة قسَّم الشاعر القبلي جنّة الله وهو في أوج فخره بقبيلته وزعيمها . بهذه الرؤية وجد أن الله سيأخذ بتقسيماته ويعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقّه .. وبربوتي حصل من الإرث التاريخي أكثر مما حصل عليه من الجنّة نفسها ؛ ذلك أنَّ الجنة في الواقع ملك الله جميعاً . لكن بربوتي دخل التاريخ من أوسع ذكراه على لسان شاعر قالها واندثر حتى ليجهل الناس مَن يكون وما هو اسمه . فمن هو بربوتي هذا الذي حفره الشاعر على صوان الزمن فأصبح له وجوده الحفري . وما حكاية هذه الأهزوجة التي بقيت هي واندثرت غيرها من الأهازيج
أرض وبساتين ورجال
يمتلك بربوتي وهو رجل له أتباع كُثر من الرجال أرضاً واسعةً تمتد فيها البساتين وتزرع على أديمها الحبوب من قمح وشعير وذرة . أرضه تحاذي الفرات وتمتد مع امتداد . رجاله الذين يعملون بعهدته كأقطاعي وما هو بإقطاعي يعلنون دائما عهد الموالاة له لما يتمتع به من خصال يجدونها موازية لحياتهم البسيطة . لبربوتي أحفادٌ ينتشرون الآن في السماوة ويمارسون مختلف المهن بعد سحبتهم أضواء المدينة وأغرتهم بالعيش في بهرجتها بعيداً عن الريف المليء بالفراغ ، والخالي من متطلبات الحياة الراهصة على ثرى الحركة المدينية المثيرة . يوم قدم الانكليز كمحررين على لسان الجنرال مود وليسوا فاتحين أول ما فكروا فيه هو ربط العراق من شماله إلى جنوبه بمواصلات سهلة توفر له يسر الاتصال في الحركة والنقل . ولكونهم نجحوا في تجربتهم في الهند عندما استعمروها فقد أرادوا لهم النجاح أيضاً في العراق ، فمدوا شبكة من السكك الحديد وحركوا فوقها القطارات الحديدية التي نظر لها الناس على أنها من أعمال السحر . إذ كيف تسير كل هذه الكتل الحديدية على سكة رفيعة ولم تميل أو تسقط . وبمرور الأيام تآلفوا معها ونسوا هذا السؤال المحيّر حتى وإن لم يحصلوا على جوابٍ له .
ولقد وجد الانكليز أن الأرض القريبة التي تتطلب مرور سكة القطار عليها هي من ممتلكات بربوتي فاتفقت معه على منحه مبلغ من المال لكي يتم ذلك ؛ وتجاوز الأمر إلى بناء جسر يربط ضفتي الفرات ؛ وكان هذا في العام( 1918 ) فكانت أرض بربوتي هي الضفة الجنوبية وأرض " البُركات" هي الشمالية التي تتجه باتجاه بغداد . وقد نصب الانكليز على الجسر إضافة لمرور العربات خطاً للسكك الحديد يمر عليها القطار القادم من بغداد إلى البصرة وبالعكس . وتولّى بربوتي من جهته حماية القطار وحركته . ومنذ لك اليوم أطلق على الجسر اسم " جسر بربوتي ".
أمّا كيف وصل اسم بربوتي إلى الشعر ودخل عالم الأهزوجة فهو ما أوردته الألسن عنها وعن المناسبة . يقول المحامي محمد عبد الشهيد وهو من المتابعين لأحداث السماوة وقارىء محب لأحداث التاريخ أن المرجع الأعلى للشيعة السيد محمد سعيد الحبوبي أصدر فتوى جهادية بمحاربة الانكليز كونهم محتلين وطالب المجاهدين بالتوجه إلى الشعيبة جنوب العراق حيث تتمركز هناك قواتهم . فاستنهضت العشائر رجالاتها بالتوجه نحو ميدان القتال . فتحرك الشيخ ( هادي المكوطر ) من عشائر الفرات الأوسط ؛ وقدم من الشمال " الشيخ أحمد " شيخ مشايخ عشيرة الجاف الكردية والتقت أثناء توجهها جنوباً بالمجاهدين عند السماوة حيث استقبلتهم العشائر وحيتهم ونحرت لهم الذبائح ودعمتهم بالأشعار والمفاخر التي تثير الحماسة . ووقف في أحد التجمعات شاعر من شعراء الفرات الأوسط في الحشود ، ومن أجل أن يفخر بشيخ عشيرته الشيخ هادي رفع عقيرته وصاح : " ثلثين الجنة لهادينة " ؛ ويقصد ( هادي المكوطر ) ومن معه من أتباع حيث أنهم سيذهبون شهداء الدين ومكانهم حتماً الجنة ؛ وهو فخر لا يضاهيه فخر بالمقارنة مع من افتخروا وفاخروا بأنسابهم وأفعالهم .
إزاء ذلك انبرى أحد شعراء الكرد المرافقين للشيخ أحمد الجاف ، فهتف : " وثلث من الجنة لكاكه أحمد " . وهنا التفتَ بربوتي الذي وجد أنه لم يحصل على شيء له ولأتباعه موجهاً نظرة غضب الى شاعر العشيرة الذي سرعان ما تدارك الامر فهتف : " وشوية ، شوية لبربوتي ".
فكان لبربوتي الخلود في مضمار التاريخ والأدب . وظل هذا النمط من الشعر القصير يذكر تاريخياً وإن قد جاء بشيء من الفكاهة التي تعرض حال بساطة الناس في تقاسم الجنة والحصول عليها بهذا اليسر من التفكير .
وها هو الجسر ينتصب منذ العام 1925 على ضفتي الفرات ؛ لكن قطار بغداد النازل إلى البصرة لم يعد يمر عليه .. ولم يعد القطار الصاعد من البصرة إلى بغداد يبصم أثره ، ويعلن صرخته القائلة : أنا هنا ذلك أن جسراً آخر وبعيداً عن السماوة هو الذي يستقبل القطارات بعدما نقلت محطة قطارات السماوة إلى مكان يبعد أكثر من عشرة كيلومترات عن المدينة بعد أن كان في وسطها .
جسر بربوتي الآن جسر ضعيف ومتهالك يمتد فوق ظهره انبوبان يمر خلالهما ماء صافٍ من ضفة إلى أخرى يغذي أحياء " الجربوعية " .
جسور السماوة الأخرى
وبذكر جسر بربوتي لا بد أن يُذكر جسر " السوير " وهو جسر أنشئ لمرور المركبات لا لسير القطارات ؛ وقد بناه الانكليز نظراً لحاجتهم إليه . يقع شمال السماوة ، وتستخدمه المركبات كجسرٍ أساسي لا يمكن تجاوزه ، وغير بعيد عنه .
وفي مدينة السماوة انتصبت جسور وتهدمت جسور ؛ لكن الصور ظلت عالقة في مخيلة مَن شهد انتصابها وتهدمها لأنّها جزء مهم من ذاكرتهم وذكرياتهم .
يقول الشيخ عبد الأمير الشيخ كاظم الذي نثر الأوراق أمامي وانبرى يقلب صفحات الدفاتر التي دوّنَ فيها كل شاردة وواردة من تاريخ السماوة وبالتوثيق العلمي حيث أثقلني بتحركاتها وهو يبحث في إعداد جريدة الوقائع العراقية ليثبت صدق كلامه .
وراح يريني تواريخ دوّنها بخط يده . فتاريخ زيارة الملك غازي إلى السماوة عام 1934 ؛ وزيارة الملك فيصل الثاني في 2/4/1953 أيضاً وكيف أن الناس من حماستهم رفعوا سيارته وهو فيها كما حدثني عن مرور الرئيس عبد الرحمن محمد عارف بالسماوة يوم كان ضابطاً ومرَّ في المدينة وكيف كان في أربعينات القرن الماضي مَن يتخلف عن صعود القطار يضطر إلى المبيت حتى اليوم الثاني حيث لا توجد واسطة نقل كما هي الآن متيسرة ويسيرة ؛ فيضطر للمبيت .
حكاية الجسر الخشبي الذي غير مكانه أكثر من مرة
مازال الجسر الخشبي الواطىء ، القريب من الماء ينتصب ليربط الصوب الكبير من المدينة بشرقيها وغربيها مع الصوب الثاني الصغير والذي يطلق عليه " صوب القشلة " . لقد بني هذا الجسر في مكان كان يسمى قبل 1926 بـ " الطبكة " ( والطبكة هو زورق صغير ينشد بحبل يربط بين الضفتين وما على الراكب سوى جر الحبل ليتحرك الزورق عابراً النهر ) . وقد شيد هذا الجسر من قبل المرحوم رشيد الدفاعي الذي كان مشرفاً على العمل ؛ وهو الجسر الذي مر عليه الملك غازي والملك فيصل الثاني حيث مدت على طوله السجاجيد والبسط لتمر عليه عربة الملك الشاب. وقد أطيح بهذا الجسر يوم 17/1/1962 في زمن القائمقام محمود عبد الرحمن . وأعيد بناؤه مرة ثانية في مكانٍ آخر لا يبعد أكثر من مئة متر . وصار يربط مستشفى السماوة العام بشارع " مصيوي " .
وقد ضرب الجسر في حرب تحرير الكويت في التاسع من شهر شباط عام 1991 .وسقط جراء ضربه مئات الشهداء والجرحى من النساء والأطفال الذين كانوا يجتمعون عند النهر لملىء القدور وغسل الصحون والملابس بعدما توقف الماء في الأنابيب ثم أعيد مرةً أخرى إلى مكانه القديم من فترة الثلاثينات والأربعينات،فصار يربط صوب القشلة بالسوق الكبير .
الجسر المعلق ذو الدعامتين الكونكريتيتين
وهو الجسر الذي كان مفخرة لمدينة السماوة لما له من هيبة بشكله وهيأته المثيرين للانتباه . وكان يضاهي ويشابه الجسر المعلق في بغداد . وقد صممه المعمار الانكليزي " وليم آرو " حيث ترك الحرفين الأوليين من اسمه ولقبه (W . A ) كهندسة جمالية في الأعمدة المنتصبة في الهواء . ولقد وضع حجر الأساس له في نيسان من العام 1956 ؛ وكان بركيزتين فقط ولكن بأطنان هائلة من الحديد والاسمنت . . شيد ضمن مشاريع مجلس الاعمار في الحكومة الملكية ، وتولت شركة المانية مهمة التشييد . كان بتكلفة قدرها (750 ) ألف دينار وهو مبلغ ضخم في حينها . افتتحه الأستاذ خليل كنه في 8 / 2 /1958 نيابة عن المرحوم ضياء جعفر . ومن المفارقات المؤلمة أن هذا الجسر أطيح به في يوم 8 /2 / 1991 بعد ثمان غارات جوية موجهة بالصواريخ في حرب تحرير الكويت وهو نفس يوم افتتاحه . كانت الإغارة الأولى يوم 21/1/1991 ولأخيرة التي أطاحت به كما قلت في الثامن من شباط . وقامت الحكومة وقتها في إعادة بنائه مضيفةً له ركيزتين فأصبح الآن بأربع ركائز .
وعلى اثر سقوط هذا الجسر ونظراً لحاجة المدينة الكبيرة للترابط بين الصوبين شرعت مديرية الطرق والجسور وبسرعة قياسية ببناء جسرين حديديين . الأول في الجانب الشرقي من المدينة قريباً من البساتين الشرقية ، أما الثاني ففي غرب المدينة قريباً من بساتين محمد علي .
ومثلما ظل الجسر الحديدي رابطاً أساسياً لعبور المركبات الثقيلة فقد ظلّ الجسر الخشبي مقتصراً على عبور المشاة . يستعيد الباقون من الأجيال السابقة ذكرياتهم عنده . فكم من مرّةٍ عبروه ؟ وكم من مرّةٍ وقفوا عنده واستداروا ليشاهدوا مخفر " الخنّاق" يقف في بابه ذلك الشرطي حامل البندقية العتيقة ، ويشموا رائحة المطهرات تأتيهم من الانعطافة اليمنى حيث المستوصف الملحق بالتجمع الحكومي الذي يضم معه دائرة الري والبريد والبرق .
وهنا .. من داخل السماوة .. من الجسور الأربعة المتوزعة ؛ وعلى مبعدة خمسة كيلومترات ظلَّ جسر بربوتي اسماً فقط مرّت عليه السنون وتركته عجوزاً عمره يزيد على الثمانين عاماً . والناس صاروا ما أن يسمعوا باسم جسر بربوتي حتى تقفز إلى ذاكرتهم الشعراء الذين قسَّموا الجنة على شيوخ عشائرهم وتركوا الناس الآخرين بلا جنان ولا أمل في شبرٍ من الفردوس ؛ اللهم إلا إذا ارتضوا نار الجحيم سكناً دائماً لهم .
542 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع