محافظة الأنبار العراقية رحلة الجغرافية والتاريخ والتراث والمقاومة والنضال الوطني

        

محافظة الأنبار العراقية رحلة الجغرافية والتاريخ والتراث والمقاومة والنضال الوطني

  

                                 

                الدكتور مليح صالح شكر/نيويورك

لابد للانسان ان يشعر بالفخر والاعتزاز عندما يجد انه قد انتمى في فترة من فترات التاريخ الى حي أو منطقة أو مدينة تُذكر يومياً، في هذه الأيام،  وسجلت في مقاومتها للاحتلال أروع صور الفداء دفاعاً عن الشعب ووحدة الوطن وعروبته، وأكالت لقوات الاحتلال الضربة بعد الأخرى بالرغم من كل جبروته العسكري، وهي بذلك تستحق لقب رمز المقاومة الوطنية بالرغم من كل حملات التعتيم والتضليل التي تمارسها أبواق الاحتلال وأذنابه.

وأتحدث باعتزاز عن محافظة الأنبار (لواء الدليم)، أو ما يسمى بالفرات الأعلى، ومدنها وقراها، وتاريخها ورجالها، ابتداء من أبو غريب وخان ضاري وحتى حصيبة في أقصى غرب العراق التي يسمون منطقتهاً (القائم) والتي هي أول مدينة عراقية يغسلها نهر الفرات العظيم وهو يهم بالتدفق الى بلاد الرافدين.
وربما يتساءل البعض عن علاقة ابن بغداد الرشيد، بتلك المدن الغربية من بلاده، وربما يتساءلون أيضاً، أنت من مواليد بغداد، فلماذا الحديث عن الفلوجة والرمادي وهيت وحديثة وعنه وراوه وحصيبة؟
تُنسَبْ أحد أحياء بغداد القديمة الى جدي، ومعروفة ادارياً باسم (قهوة شكر)، وهي المحلة التي تبدأ في بغداد الحالية اعتباراً من ساحة النافورة في شارع الكفاح، ويحيطها من الجانبين، اثنان من أضرحة مشاهير الأولياء الصالحين.
تقع (قهوة شكر)، ما بين جامع الخلاني، الذي يضم ضريح محمد بن عثمان العمري، الخلاني، أحد نواب الامام المهدي، أو حسب بعض المصادر، سفير الأمام، ومن الجانب الآخر جامع الكيلاني، أو الجيلاني، ويضم ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني، أحد مشاهير أئمة التصوف الاسلامي. هنالك في (قهوة شكر) بدأتُ خطوات الحياة الأولى.
علاقة الانسان بالمناطق هي علاقة أصيلة، ولذلك أتحدث بوفاء عن الفرات الخالد ومدنه وقراه وأهله. فهنالك ترعرعت، وقضيت في احداها سنوات الطفولة وبعضاً من سنوات الشباب، بعد ان فرض القدر عليّ ان أتربى في كنف سيدات العائلة حينما أصبحتُ يتيماً من الأب والأم وأنا ما أزال طفلاً، وشاءت الظروف ان ترحل سيدات العائلة للوظيفة عن بغداد وقهوة شكر، للالتحاق بوظيفة التدريس، فاصطحبونا نحن الثلاثة،أبناء ابراهيم صالح شكر ، معهم الى احدى مدن لواء الدليم التي يرويها نهر الفرات، حينما كان يسمى ادارياً بهذا الاسم، وهو اليوم محافظة الأنبار التي ملأت بأحداثها صفحات الصحف، وشاشات التلفزيون في أنحاء العالم، لمقاومتها الباسلة للاحتلال، ولدفاعها عن العراق ووحدته وعروبته.
 وعلى ضفافه، يقول التاريخ، احتضنت مدن الفرات الحضارات الأولى، وبينها، أور وبابل وكيش والوركاء ولكش. وهنالك في أور، بدأ أبو الأنبياء، ابراهيم أول دعوته للتوحيد والأيمان، ورحل شمالاً على ضفة الفرات، حتى وصل الى فلسطين الحالية مروراً بالأراضي السورية.
وعلى ضفاف هذا النهر الخالد، اخترع البابليون، أهل العراق القدماء، الكتابة، والعجلة والعربة، واستخدام القير في الصناعة، وهو القير الذي كان البابليون ينقلونه من هيت في أعالى الفرات الى بابل عبر مجرى النهر، وأقاموا أنظمة الزراعة والري، وسن حمورابي أول تشريعات قانونية في التاريخ، وخلّد أحد ملوكها، كلكامش، الملحمة البابلية المشهورة، وقصة الطوفان، وقصة الخليقة، ومنها أيضاً وصلت الينا، القيثارة التي تستخدم اليوم في الموسيقى، وفي بابل، حدد ملكها، حمورابي صلاحيات الكهنة وألغى محاكمهم وأنشأ المدارس، وفصل بين سلطات الكهنة وسلطات الادارة، ودخلت المرأة في الجيش ومارست التجارة والمهن الأخرى. وخرج الملك نبوخذ نصر، من بابل على ضفة الفرات، وفتح القدس وفلسطين مرتين.
يدخل الفرات أراضي العراق في حصيبة (القائم) ليبدأ تدفقه العراقي لمسافة ألف و15 كيلومترا باتجاه الجنوب الشرقي حتى يصل الى القرنة حيث يلتقي بتوأمه، نهر دجلة ليصبحا شط العرب، وقد أقيم علي الفرات، عند حديثة بالانبار سد كبير هو سد القادسية الذي يحجز المياه، ويكّون بحيرة كبيرة جداً، يخاف الاحتلال وأذنابه هذه الأيام من تسميتها باسمها الرسمي (بحيرة القادسية).

  

وتنتشر على ضفافه في محافظة الأنبار، وسائل ري، تمتاز بها مدن هيت وحديثة وعنه القديمة وراوة وحصيبة، دون مدن الفرات الأخرى أو دجلة، وهي النواعير التي ما يزال بعضها يدور ليروي المزارع والبساتين، وتسقي مياه الفرات جميع الأراضي حتى الهندية جنوب بغداد ليروي المزيد من أراضي بلاد الرافدين، وعندها يتفرع النهر الى فرعين، هما شط الحلة وشط الهندية، ثم يلتقيان ثانية شمال مدينة السماوة في جنوب العراق، ويعود نهراً واحداً ليمر بمدن الناصرية وسوق الشيوخ، ويروي أراضي عراقية أخرى، ثم يدخل هور الحمّار، وبعده يلتقي بدجلة في شط العرب.
ومحافظة الأنبار هي أكبر محافظات العراق، وتؤلف مساحتها 32 بالمئة من مجموع مساحة العراق، ولوحدها من دون المحافظات الأخرى، تشترك بالحدود مع ثلاث دول من الدول الست المجاورة هي الأردن وسورية والسعودية، وللمحافظة هذه أيضاً حدود ادارية مع ست محافظات عراقية أخرى هي النجف وكربلاء وبابل وبغداد وصلاح الدين ونينوي.
وأتخذ الخليفة أبو العباس في عام 32 هجرية الأنبار مقراً له - وهي في ضواحي الفلوجة الحالية- وبنى فيها قصوره التي أقام فيها الخليفة أبو جعفر المنصور، حتى بنى المنصور، بغداد عام 145 هجرية.
وفي محافظة الأنبار 419 موقعاً آثارياً، منذ العصر الحجري في منطقة الرطبة، وبعضها الآخر من حضارات أكد وبابل، ثم الفترة الاسلامية والعصر العباسي، وأهمها مدينة أنبار التاريخية التي وصلها القائد خالد بن الوليد خلال الفتح الاسلامي، وأصبحت لبعض الوقت عاصمة الخليفة العباسي، واكتشفت الهيئة العامة للآثار العراقية فيها قبل سنوات، كتابات وأواني ومسكوكات نقدية عباسية. كما تضم المحافظة بضعة متاحف في الرمادي وهيت وحديثة وعنه تحتوي على ما يسجل تاريخ كل منها.

تتجه في هذه الرحلة غرباً، وما ان تغادر أضواء العاصمة، حتى تلوح أمامك على جانبي الطريق، أبو غريب وخان ضاري، القرية، البلدة، التي أنجبت الشيخ ضاري المحمود، وهي قضاء حالياً.
ويردد تاريخ العراق هوسة (هز لندن ضاري، وبجاها)، أي لمن لا يعرف اللهجة العراقية، (ان ضاري قد هز لندن وأبكاها). وجاءت (الهوسة)، الأهزوجة التاريخية من ملحمة الشيخ ضاري وأولاده سليمان وخميس وصليبي، عندما رد على عنجهية الكولونيل (العقيد) البريطاني لجمان، وتجاوزاته، بضربة سيف أطاحت بعنقه.
كان لجمان أحد دهاقنة الاستعمار البريطاني للعراق، وأحد رهط الجواسيس الانكليز الأوائل، درس علومه العسكرية في كلية سانت هيرست، وتخرج بتفوق، وجاب المستعمرات البريطانية من جنوب افريقيا الى الهند فالخليج العربي والقدس وفلسطين وبيروت ودمشق والقاهرة وصيدا ودير الزور وشمال العراق والأناضول، وكتب مشاهداته في تقارير رسمية الى مكتب الاستخبارات في قيادة الجيش، حتى اصبح في البصرة معاوناً للسير بيرسي كوكس، مختصاً في الاستخبارات، وشارك في كل المعارك بين القوات البريطانية والجيش التركي بدءاً من البصرة صعودا الى الموصل.
بعد الحرب، اختاروه ليكون المسؤول السياسي عن البادية الغربية لتنفيذ الانتقام من شيخ زوبع، ضاري المحمود، فعقد في الرمادي اجتماعاً لوجهاء وشيوخ المنطقة محاولاً العزف على وتر الطائفية، فانبرى له الشيخ ضاري الذي شجب الطائفية، مؤكدا الروح الوطنية الجامعة لكل العراقيين.
اضطر الشيخ في 12 آب (أغسطس) 1920 لقبول دعوة العقيد لجمان للاجتماع به منفرداً، بعد ان اعتذر الشيخ عدة مرات سابقة، فوصل الى (خان النقطة)، مقر لجمان، وبصحبته أولاده الثلاثة وعدد من رجال أبناء العم من زوبع، لكن لجمان بدأ الاجتماع بالشتائم والاتهامات والاهانة، والتهديد بالقتل ان لم يغير الشيخ ضاري موقفه المناهض للاحتلال البريطاني، وخرج الشيخ ليبلغ رجاله بما جرى، وقال لهم (ان لجمان تجاوز كل الحدود).
أطلق ابنه الكبير سليمان، ومعه اثنان، النار على العقيد لجمان، فأصابوه باصابات بالغة، وأجهز الشيخ ضاري المحمود عليه بضربة سيف.
دكت القوات البريطانية قلعة الشيخ انتقاماً لمقتل لجمان، وقطعت الماء عن أراضيه، وكانت الهجمة العسكرية اكبر من قدرة رجال زوبع، فأرتحل الشيخ مع رجاله الى أراضي أولاد العمومة في الجزيرة، قرب الموصل، وجبل سنجار شمال العراق. ورفض السير بيرسي كوكس، المندوب السامي البريطاني، شمول الشيخ وأولاده ورجاله بقرار العفو الذي أصدره في 30 أيار (مايو) 1921 بعد ثورة العشرين، وخصص (مكافأة مالية) لمن يأتي به حيا أو ميتاً!
أليس ما يحدث هذه الأيام ،يشبه ما حدث عام 1920؟ لكن الفرق الوحيد هو ان الرشوة المالية  الحكومية الحالية،  أصبحت باهظة المبلغ.
 واحتمى ضاري المحمود بالبادية، وفي عام 1927، وبعد ان اصبح كهلاً ابن الثمانين عاماً، ومريضاً، اضطر للبحث عن العلاج في حلب السورية، وخانه سائق سيارة الأجرة، وكان وحيداً وبدون سلاح ومريضاً، فنقله الى مخفر سنجار، وتمكن الانكليز من القاء القبض عليه، وأخذوه مخفوراً الى بغداد وأودعوه السجن بعد ان قرروا الحكم عليه بالاعدام، لكن الحكم خفف الى الأشغال الشاقة المؤبدة، وتوفي في السجن في الأول من شباط (فبراير) عام 1928، وأقيمت له جنازة شعبية حاشدة عبرت من الرصافة الى الكرخ ببغداد، ووري الثرى، والمشيعون ينشدون تلك الأهزوجة التاريخية:
 
هز لندن ضاري وبجاها    منصورة يا ثورة ضاري

ساعة ومضمومة يا لندن
وفي أبي غريب نهر خاص بها يحمل اسمها، ويأخذ مياهه من نهر الفرات، بينما تسقي مياه نهر دجلة جانباً آخر من المنطقة، ويمتد هذا النهر الغريب من جنوب الفلوجة شرقاً حتى يصل منطقة الزيدان، جنوب خان ضاري، ثم ينقسم الى فرعين، جنوبي يسقي المنطقة الواقعة حول مطار بغداد وصولاً الى العامرية في ضواحي بغداد الغربية، والفرع الشمالي الذي يعبر الطريق العام بين بغداد والفلوجة ويمر بمركز قضاء أبو غريب لينتهي في منطقة الغزالية الحالية في العاصمة، ويصبح الفرعان بعد ذلك أنهراً فرعية وجداول حتى يتلاشى نهائياً في المزارع والبساتين.

   
 
الفلوجة
ونواصل الرحلة، فتلوح لك بعد قليل، الفلوجة. لكنك قبل ان تدخلها، ستجد على يمينك طريقاً يوصلك الى ناحية الكرمة التي تقع على الفرات، وقريباً منها ينحدر ما اصبح حديثاً يسمى بذراع دجلة قادماً من نهر دجلة ليروي منطقة زراعية واسعة، ويقترب بمياهه من الفرات، وبعد قليل ستجد طريقاً آخر الى اليمين أيضا يقودك الى بحيرة الثرثار قرب سامراء، وهو القضاء الواقع على ضفاف دجلة الى الشمال من العاصمة بغداد. وعلى مقربة من الفلوجة تقع الصقلاوية، لم تنحن لجبروت الاحتلال بالرغم من أنها بلدة صغيرة.
 ولابد ان تتذكر وأنت في الفلوجة، شاعر العراق الكبير معروف الرصافي، الذي توفي ودفن جثمانه فيها، وما عليك الا ان تقف لبعض الوقت لتتذوق اشهر كباب في العراق، كباب الفلوجة،  
حبي للفلوجة، يأتي لأنها أحد أقضية العراق التي اصبح المرحوم والدي، قائمقاما فيها، وكان ذلك في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، أيام عهد المرحوم الملك غازي، وقبل ان أرى أنا الدنيا بعدة سنوات، وقد أهداه الملك غازي في حينه بندقية صيد، ضاعت مع مقتنياته الأخرى بعد وفاته عام 1944.
 اشتغل الوالد ابراهيم صالح شكر، وتعود أصول عائلته الى قيس، في الثلاثينيات وبعض الأربعينيات من القرن العشرين، وبعد ان ترك الصحافة، مديراً لناحية ومن ثم قائمقاماً في كل من سامراء وتكريت بمحافظة صلاح الدين الحالية، والكاظمية ببغداد، والمقدادية ودلي عباس وخانقين في محافظة ديالي، والفلوجة في محافظة الأنبار، وقلعة صالح في محافظة ميسان قرب مدينة العمارة، وأقصى من الوظيفة، قائمقام خانقين، بارادة ملكية وقعها الوصي على العرش، الأمير عبدالاله، لتأييده ثورة 1941 ضد الانكليز، ومساعدته لعدد من الثوار، سياسيين وعسكريين، على الهرب الى ايران عبر خانقين والمنذرية، وأشار اليه العقيد صلاح الدين الصباغ في كتابه (فرسان العروبة في العراق).
 مع ذلك، فلي الكثير من اعز الأصدقاء من الفلوجيين الاصلاء، ومن المهاجرين اليها من اقضية العراق الأخرى، فاستوطنوها، وأصبحوا من أهلها، ولعل من يقرأ منهم هذا الوفاء يفهم من أقصد منهم، حفظكم الله، وحماكم.
تخترق الطريق الرئيسي للفلوجة، الذي لم يكن هنالك طريق عام سواه، وتصل الى ذلك الجسر الذي لا يتسع للمرور بالاتجاهين، فتقف السيارة المتجه غرباً قليلاً، حتى تستكمل السيارة العابرة للجسر المتجهة شرقاً، طريقها، وهو الجسر الذي عبرت منه قوات الاحتلال في هجومها الثاني على الفلوجة، في خريف 2004 وشتاء 2005 والذي أدى الى تدمير بيوتها وتشريد أهلها، وقتل رجالها ونسائها وأطفالها، لكنه لم يتمكن من اصابة روحها الوطنية.


وتحاول حكومة الاحتلال الحالية ، 2014 ، ما فشلت قوات الاحتلال الامريكي في تحقيقه، وأد أصالة وطنية أهل الفلوجة، والغاء كونها قد أصبحت رمزاً عراقيا للمقاومة والصمود وصبر العراقيين
واستخدمت القوات الأمريكية في هجومها على الفلوجة كل أنواع الأسلحة من دروع وطائرات ومدافع ثقيلة وخفيفة وصواريخ والقنابل العنقودية، في انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها والاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تحرم وتجرم قتل الجرحى والأسرى والسكان المدنيين والعزّل، حتى انهم قتلوا الجرحى داخل مساجدها.
ظهرت احصائية أولية لما تعرضت له الفلوجة من دمار، وجاءت هذه الاحصائية في آذار (مارس) 2005 بعد يوم واحد من تعرض دورية عسكرية أمريكية راجلة الى هجوم بعبوة ناسفة في حى نزّال بالفلوجة، لأنها ما تزال تقاوم الاحتلال.
وتقول الاحصائية ان قوات الاحتلال ألحقت دماراً بالمدينة كما يلي:
 7000 آلاف منزل مهدم بشكل كامل أو شبه كامل، و8400 محل تجاري ومحلات صناعية ومجمعات انشائية ومكاتب بيع مواد البناء وعيادات طبية، و65 جامعًا ومسجدًا هدم أغلبها بشكل كامل، أما البعض الآخر فقد هدمت صواريخ الطائرات والمدفعية الأمريكية، مآذنه، أو هدمت الحرم الذي بداخله. والفلوجة، مدينة المساجد، ومن جوامعها المشهورة، جامع الخلفاء، وأربعة أخرى يحمل كل واحد منها أسم أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وهدمت قوات الغزو عشرة من هذه المساجد تماماً.
 وتضيف الاحصائية ان قوات الاحتلال دمرت في الفلوجة ايضاً 59 مدرسة ابتدائية ومتوسطة واعدادية وثانوية ومعهد معلمين ومعلمات ومدارس التأهيل الصناعي والتجاري وروضات الأطفال، و13 بناية تابعة لدوائر الدولة العراقية، ومحطتي الكهرباء ومحطات تصفية المياه الثلاث ومحطة سكك الحديد واتلاف شبكة الصرف الصحي بشكل كبير جداً، وتدمير جسر واحد لم يعد صالحاً الآن للاستخدام لعبور الفرات عليه، ونفوق أكثر من 100.000 حيوان داجن وبري بفعل الغازات السامة والمواد الكيماوية، مثل الأغنام والأبقار والدواجن والطيور في الحقول المنتشرة.
وتؤكد الفرق الصحية التي زارت المدينة بأن قوات الاحتلال استخدمت أنواعاً من المواد الكيمياوية أو غيرها، لأن آثار الدمار أصبحت واضحة وأنهت جميع أشكال الطبيعة، وان المئات من الحيوانات السائبة والمواشي والطيور قد نفقت.
هذا بالاضافة الى احراق بعض المكتبات التاريخية في المدينة التي تحتوي على أنفس كتب العلم الاسلامي والتاريخي بواقع أربعة مكتبات تحتوي على آلاف الكتب، وتدمير الآثار العباسية في منطقة الصقلاوية شمالي الفلوجة بشكل يبدو انه متعمد، وتدمير اطلال قصر الخليفة أبي العباس الأثري شمالي الفلوجة.
 وهذه المدينة ستحتاج حتماً الى جهات محايدة تماماً لتتعرف على ما حل بها من ديمقراطية الاحتلال.

بعد الجسر القديم الذي نال شهرة عالمية، والجسر الجديد الواسع الآخر على الفرات، تنحرف قليلاً الى اليسار، فتمر بين بساتين النخيل، وبعد قليل تنحرف مرة أخرى الى اليمين، وتواصل الرحلة بين بساتين النخيل حتى تصل الخالدية. وهي ذاتها الخالدية التي شغلت العالم في نوعية عمليات أهلها ضد قوات الاحتلال، وصمودهم بوجه أعتى قوة عسكرية في العالم، وهم يدافعون عن الخالدية وعن العراق كله.
لم تكن الخالدية سابقاً سوى بلدة أو ناحية، لا يتوقف المسافر عبرها الا ما ندر. وتتوزع على جانبي طريقها البيوت والمقاهي والمطاعم الصغيرة، والبعض من بيوتها محفورة في صخور الجبل على يسار الطريق العام . ويسمى ذلك المرتفع بالجبل، لكنه في الحقيقة تل طويل صخري ومرتفع بعض الشيء، أنه اكبر حجماً من التل، وهي اليوم تشارك مدن العراق الأخرى في نصيبها لمقاومة الاحتلال.
  وما ان تترك، الخالدية، حتى تترامى أمامك على يمين الطريق العام، الحبانية. تلك القاعدة الانكليزية التي بدأت ثورة 1941 بقصف قوات الجيش العراقي لها، ومنها انطلقت طائرات الانكليز لتضرب قطعات الجيش، والعاصمة بغداد.
 وهنالك طريق على يسار الطريق العام مقابل معسكر الحبانية، يصعد نحو الهضبة، وهنالك تجد بحيرة الحبانية، التي انشأ مطار عسكري قربها، اصبح فيما بعد من اكبر القواعد الجوية في العراق، وهنالك أيضا منشآت سياحية معروفة حول البحيرة التي تتلقي مياهها من نهر الفرات.

 

 الرمادي
وها هي الرحلة تتواصل نحو الغرب، وعلى الجانبين أرضاً سبخة، يتخيل المرء أنها منطقة لانتاج الملح، لكنه السبخ. ومن هنا تبدو لك في الأفق، مدينة الرمادي، مركز المحافظة الآن، المدينة التي لها من الرجال عدد كبير، وهي المدينة التي قال عبدالسلام عارف عن أهلها ذات مرة بعد قيام النظام الجمهوري عام 1958 (يا من ذررتم الرماد في عيون أعدائكم). وما تزال الرمادي تذر الرماد في عيون أعداء العراق.
 تدخل الرمادي من جانبها الشرقي، وتنحرف قليلاً الى اليسار ثم الى اليمين، فتدخل الرمادي وبيوتها ومكاتبها الرسمية وأحيائها، وفي وسطها، كان هنالك خزان ماء عال، وقربه مستشفى، أو دائرة صحة اللواء، اضطرتني الظروف الصحية عام 1960 الى مراجعته، ومقهى معروف، جلسنا فيه ذات مرة لمتابعة محاكمة أياد سعيد ثابت ورفاقه البعثيين من شاشة التلفزيون بتهمة محاولة اغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم، رئيس الوزراء، ودوت في المقهى عاصفة من التصفيق عندما بدأت يسري سعيد ثابت بالحديث، وفي لحظة، لم يبق في المقهى سوى صاحبها، وابتعدنا خوفاً من الاعتقال. وآنذاك لم يكن بث تلفزيون بغداد يصل الى أبعد من مدينة الرمادي.
 مقابل خزان الماء، شارع يتجه نحو النهر، وقبل الوصول، تدخل في الرمادي القديمة وأسواقها ودكاكينها وتتعرف على أهلها. لكن المطلوب هو مواصلة الرحلة غرباً على امتداد ضفة الفرات اليمنى التي تحتضن الغالبية العظمى من مدن الفرات وقراه.
 وقبل ان نغادرها، نتذكر بعض رجالها ا ومنهم عصام رشيد حويش آخر محافظ للبنك المركزي العراقي قبل الاحتلال، وهمام عبدالخالق آخر وزير تعليم عال، وقبلها كان وزيراً للأعلام. ولعصام حويش صلة قرابة مع اثنين من رؤوساء الجمهورية العراقية السابقين، وهما أخواله عبدالسلام عارف وعبدالرحمن عارف.
 تستمر في الرحلة داخل الرمادي وتتجه، كالعادة غرباً، فتمر في شارع عام، على أحد جوانبه تجد مقر المحافظة، ومديرية تربية المحافظة، وهنالك على يسار الطريق، يقع الملعب العام الذي كانت تجري فيه سباقات الرياضة السنوية لطلبة مدارس مدن اللواء، والاستعراضات الرياضية. وهذه المنطقة التي تقصفها قوات المالكي يومياً هذه الايام.
 وبعد قليل، لابد ان تكون الاستدارة الى اليسار لتواصل الرحلة على الطريق العام، وعندها ستجد جسر الورار، وهو الناظم لتدفق الفائض من مياه الفرات الى بحيرة الحبانية، ويقع في أقصى غرب المدينة، وتعبره لتجد على اليمين معمل الزجاج، الذي كان مفخرة للصناعة الوطنية، وكان المهندس رقيب عبد الرزاق القاضي أحد مدرائه الذين جعلوه مفخرة للصناعة العراقية.

       

هيت مدينة العيون الطبيعية
وما تلبث الا ان تصل الى مفترق طرق الى الغرب من الرمادي، أحدهما يستمر الى الأمام مباشرة ليرميك في الصحراء وأنت مسافر الى الرطبة ثم الأردن، الذي كان في الماضي طريقاً موحشاً، تكثر فيه شاحنات اللوري وهي تنقل من ضواحي الرطبة حصى أو نوعاً من أنواع التربة المستخدمة في معمل سمنت ببغداد، قرب معسكر الرشيد، وأصبح في العشرين عاماً  التي سبقت الاحتلال ، طريقاً دولياً حديثاً ومشهوراً من ستة ممرات.
أما الطريق الآخر على اليمين فيبقيك على ضفة الفرات، ليقودك الى هيت، ونواعير فراتها وقلعتها وأهلها المختصين بفن حياكة الأطباق والمراوح وأواني شرب الماء من خوص سعف النخيل. فهل دمر الاحتلال أيضاً هذه الصناعة الشعبية الوطنية؟
واعتذرت من أهل هيت، حينما أوردت ما جربته شخصياً عشرات المرات من المرور بهذه المدينة، فانك ما أن تصل الى مشارفها حتى تشم راحة كريهة، فهمنا عندما كبرنا في العمر أنها رائحة عين الكبريت القريبة من المدينة. ان هيت هي فعلاً مدينة العيون الطبيعية، المعدنية والكبريتية والقيرية. وتتميز العين الكبريتية مصدر هذه الرائحة، بحرارتها الشديدة جداً، وهي تغلي دائماً بكمية هائلة من القير الذي يتطاير عالياً، ثم تنفجر، وما أن ترمي عود الثقاب المشتعل فيها، حتى ترى شلالاً من النار، لا تلبث وان تخمد، لتبقى محتويات هذه العين تغلي بعنف.
 قبل عشرة آلاف سنة، كما تتحدث مصادر التاريخ، اكتشف العراقيون أهمية هذه المادة، القير (القار)، واستعملوه في طلي المعدات والأواني والمباني، حتى ان الملك الاكدي سرجون (2350) عاما قبل الميلاد، أولاه عناية خاصة، ووردت اشارات للقير في الكتابات المسمارية باعتباره المادة الرئيسية للاستخدام الصناعي خلال حضارة بابل، بينما اعتمدت حضارة آشور على مصدر قير مماثل في أنحاء الموصل، شمال العراق. واستخدم البابليون القير في صناعة السفن والأدوات المنزلية والحلي، وفي البناء وطلي الطرق وأدوات الحرب والقتال، وتمتين جدران وسقوف القلاع والحصون.
 ولا يستكمل الحديث عن هيت، الا بالحديث عن قلعتها، وعبق رائحة التاريخ فيها، وهي قلعة تضم بيوتاً قديمة ذات مساحات صغيرة، تفصلها أزقة لا يتجاوز عرض الواحد منها المترين، انها هيت القديمة التي تنتصب فوق قلعتها منارة شامخة، تسمى منارة الفاروق، وربما لأنها أنشأت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
 لأهالي هيت، اهتمامات علمية وتاريخية وثقافية كثيرة، ومنها جاء علماء في مختلف الاختصاصات، وفيها متحف يتحدث عن تاريخها فقط، ويقال انه أقيم بمجهود شخصي لأحد رجالها.
 ومن أبنائها، السفير المتقاعد فاضل عبدالغفور الشاهر، وعالم الفيزياء قاسم الهيتي، وقد حكم على فاضل بالاعدام عام 1959 في محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم، لكنه نجا بلجوئه الى سورية، ومنهم أيضاً زميلنا في قسم الصحافة بجامعة بغداد هادي نعمان الهيتي، الذي نال شهادة الدكتوراة من جامعة القاهرة في السبعينيات، والخطاط طه الهيتي حالياً، والدكتور غالب الهيتي أستاذ الهندسة الكيماوية بجامعة بغداد، الذي قتلته يد الغدر ببغداد المحتلة، وغيرهم.
 بقيت منارة الفاروق شامخة على مر العصور، وسمعت أنها قاومت القصف المتواصل لهيت من قبل الطائرات الأمريكية، لكن قوات الاحتلال هدمت قبة السيد علي، وحطمت أسوار مقام الشيخ محمود الصوفي.
لم أتجه من هيت اطلاقاً الى بعض نواحيها المشهورة، لأنها لم تكن تقع على الطريق العام، بل يسافر اليها من هو قاصدها فقط، وأقصد ناحية كبيسة، والتي خرج منها رجال معروفون في التاريخ الوطني العراقي، بعضهم انتقل الى رحمة الله، وبعضهم الآخر ما زال حياً، بينما يغيب الآخرون في سجون الاحتلال، ومنهم الأسير عبدالجبار الكبيسي ، وعارف عبدالرزاق، الضابط الطيار الذي حاول مرتين القيام بانقلاب عسكري ضد نظام عبدالسلام عارف، وأخيه عبدالرحمن عارف، واقام في القاهرة منذ الستينيات من القرن العشرين، وكذلك باسل رؤوف الكبيسي أحد مؤسسي، أو المؤسس الفعلي لحركة القوميين العرب، وأصبح فيما بعد من قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واغتاله عملاء الموساد في باريس في نيسان (أبريل) عام 1973. ومن كبيسة أيضاً أخوال أبناء صلاح عمر العلي ، القيادي البعثي السابق، ووزير الاعلام عام 1970.
وتتبع قضاء هيت، ناحية أخرى عبر نهر الفرات، هي آلوس، أو جبة آلوس، واشهر رجالها العلامة أبو الثناء الآلوسي، وحفيده محمود شكري الآلوسي الذي تتلمذ على يديه في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الكثير من فقهاء وساسة ورجال العراق. وقد ولد محمود شكري الآلوسي عام 1263، وترك هو وجده العلامة أبو الثناء مخطوطات مهمة في تاريخ العراق والأنساب والفقه وغيرها، وأصبحت هذه المخطوطات فيما بعد من خزائن اكبر دار للمخطوطات في العراق، هو مركز صدام للمخطوطات ببغداد. ومن أعظم آثار أبو الثناء (روح المعاني) الذي استخدم فيه تفاسير من سبقوه للقرآن الكريم مع اضافة تفسيره هو.
 تشتري من هيت قبل المغادرة، الأطباق (طُبك) والمهافيف (مهّفة) والسلال (سَلة)، والمناشل (مِنشلْ)، وكلها مصنوعة بمهارة من خوص سعف النخيل. ويستخدم (المنشل) لشرب الماء، وتنفرد هيت من دون مدن العراق بصناعته، وهو على شكل مخروطي مصنوع من خوص سعف النخيل، ومطلي بالقير، والجزء الأعلى منه مفتوح، والأسفل شبه مدبب، وتربط على جانبه الخارجي، بالخوص أيضاً، عصا قصيرة معقوفة لتشكل المقبض، بالضبط كما هو الحال مع الأواني الزجاجية الحالية ذات المقبض. ولدي أثنين منه معي في أمريكا حالياً!
أما (الطبك) أو الطبق، فهو مسطح دائري له حافة مصنوع من شرائح رفيعة جداً لسعف النخيل، ومحاكاً بالخوص ليصبح أداة منزلية هامة تستخدم بديلاً عن الصينية الحالية التي توضع صحون الطعام فيها، أو تفرش سيدة البيت عليه الخبز الحار الطازج وهو قربها على التنور، وبعضها ذات فن رفيع وبالألوان. وما زلنا حتى اليوم  نحتفظ بواحد منها معنا في أمريكا!
 وتغادر هيت غرباً نحو البغدادي، واعتباراً من هيت ستجد نواعير الفرات التي بقيت علامة مميزة لنظام نقل المياه من الفرات الى مزارع وبساتين مدن وبلدات وقرى الأنبار.
في الطريق العام، بعد ان تغادر هيت، تنحرف قليلاً الى اليمين، وتعبر على جسر صغير أو قنطرة، فتنزل كما يقال الى البغدادي، ويلفظ أهل الأنبار أسمها برفع الباء، وهي الناحية التابعة لقضاء هيت. وليس في هذه البلدة سوى أشجار النخيل والبساتين ومزارع الخضراوات وبيوت أهلها، وربما محل أو اثنين لاصلاح اطارات السيارات (بنجرجي)، لكنها مشهورة ببضعة مطاعم هي، والحق يقال افضل من يطبخ المأكولات المفضلة للمسافرين والسواق. وتقع على النهر مباشرة ليأكل المسافر وأمامه سحر الفرات الخالد وتغطيه سقوف من سعف النخيل، وحوله البساتين.
والبغدادي ذات جانب واحد، تطل على النهر، لكن الجبل (التل) يمنع عنها فسحة الأرض الممتدة الى جانبها الآخر. وبعد قليل سنجد مدناً وبلدات فراتية أنبارية أخرى تتميز بذات الطابع، النهر على جانب، والجبل أو البساتين الكثيفة على الجانب الآخر، انها بحق منطقة ذات مميزات سياحية رائعة.
وأغلب مدن وبلدات الأنبار، البغدادي وحديثة وعنه القديمة وراوة، تختنق بين النهر والجبل، ولكنها بقيت عصية على محاولات الاحتلال لخنقها، ودمرت آلياته ومدرعاته، ولم تستسلم لجبروته، كما أنها لم تستسلم في الماضي للفرس والانكليز وغيرهم. وقد تواتر اسم هذه الناحية الصغيرة في عمليات المقاومة ضد الاحتلال الآمريكي، حين كان اهلها يعصفون القاعدة الجوية بالهاون والكاتيوشا، وينصبون الكمائن الناجحة لقوافل الاحتلال، وأصبحت كمثيلاتها مدن العراق صداعاً دائماً للاحتلال وأذنابه.

   

 قضاء حديثة
 بعد ان تتمتع بجمال الطبيعة والأشجار والنهر في البغدادي، تواصل الرحلة باتجاه المدينة التالية، حديثة، وقبل ان تدخلها، عليك ان تكون حذراً في الشتاء عند وصولك الى وادي حوران.  
في هذا الطريق بين البغدادي وحديثة، توجد بعض الوديان التي تنقل مياه السيول من عمق الصحراء الى الفرات، وتشاهد على اليمين بين الحين والآخر النهر وبضع أشجار على ضفافه، لكن المسافرين كانوا يتحسبون لوادي حوران، وهو ذات الوادي الممتد من الأراضي السورية والأردنية مخترقاً الصحراء الغربية، ليصل الى الفرات قبل مدينة حديثة، ويجمع مياهاً هائلة في موسم الأمطار، وهي مياه تندفع بكميات مدمرة وبسرعة يصاحبها دوي مخيف لترتمي في الفرات.
 وهنالك واد آخر أقل أهمية هو وادي زغدان، لكن وادي حوران هو الذي يستدعي الحذر، ويجتازه المسافرون بسرعة خلال الشتاء خشية من اندفاع السيول فيه دون سابق انذار. كنا في قضاء عنه أيام الحكم الملكي نرى مرة أو مرتين في السنة، سيارة (فان) يتجمع الأهالي في ساحة واسعة لمشاهدة أفلام تعرضها السيارة على شاشة توضع على الحائط، ويوزع القائمون عليها مطبوعات كلها دعاية أمريكية مثل الأفلام التي تعرض علينا.
 وحصل ذات مرة أننا كنا نتوقع وصول هذه السيارة، لكنها لم تأتِ، وفهمنا بعد حين ان سائقها مارس عنجهية أسياده في السفارة الأمريكية ببغداد، وحاول اجتياز وادي حوران قبل ازدياد السيول، وما أن أصبح بسيارته ومعداتها في بطن الوادي، حتى جاءته فجأة سيول عارمة فطمرته وقذفت بالسيارة في الفرات، وانتشلت جثثهم بعد يومين.
 وحصل الأمر ذاته مع سيارات حاول سائقوها المغامرة، فأغرقتهم السيول في وادي حوران، حتى أقامت شركة حمورابي العامة للمقاولات الانشائية جسراً حديثاً عليه في السبعينيات من القرن الماضي.
 لن تستطيع دخول قضاء حديثة دون ان تمر ببلدة الحقلانية الملاصقة لها، وهما اللتان حاصرتهما قوات الاحتلال في آذار (مارس) 2005، وقصفهما بالمدفعية والطائرات، وحالها هو حال مدن الفرات الأخرى.
 يقع بين البلدتين، واد يسمى وادي حقلان يجري فيه الماء من عيون بين الصخور، وعليه قنطرة تسمى الجسر العباسي، وأضرت به تداعيات الزمن، فأقامت الدولة جسراً حديثاً على مقربة منه.
 لم تكن الحقلانية سوى بلدة صغيرة، واتسعت تدريجياً نتيجة اتساع النشاط في محطة ضخ كي. ثري (K 3) التي تمتد أنابيب النفط اليها من كركوك، واشتغل فيها رجال المدن المجاورة، حديثة وعنه وهيت والمعاضيد، في مهن الميكانيك والكهرباء وسياقة السيارات.
 وتعبر في هذه الرحلة جسر وادي الحقلانية، لتدخل واحدة من مدن الأنبار المشهورة، حديثة التي تنام على ضفاف الفرات مباشرة، لكنها تختنق بين النهر وبين الجبل، لذلك فهي مثل عنه القديمة، مدينة تتميز بالطول، دون ان يتجاوز عرضها 200 - 300 متر، وتنتشر فيها البيوت والبساتين وأشجار الفاكهة والنخيل والنواعير، وأضافت لمنتجاتها الأسماك بعد انشاء سد القادسية والبحيرة بالقرب منها، وازدادت بذلك مساحات أراضيها الزراعية.
 في عام 1965 أصبحت حديثة قضاءاً بعد ان كانت ناحية، وهي من مدن العراق القديمة، ربما من العهد البابلي، وفيها بقايا قلعة ومواقع أثرية، وحل فيها المسلمون أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وذكرها ياقوت الحموي. وفيها مزارات دينية وأضرحة لعدد من الأولياء والشيوخ، ومنها أضرحة الشيخ نجم الدين، والشيخ حديد، والشيخ محمد السيد علي، وبعضها تعرض بعد الاحتلال  لمحاولات تخريب من قبل أشخاص جاءوها من خارجها، وأتضح بعد الامساك بهم بأنهم قاموا بهذا التخريب للأضرحة مقابل أجور مالية دفعها لهم بعض من يتحدث هذه الأيام عن الديمقراطية المحمولة جواً!
 وحديثة مدينة ذات جانبين، أحدهما يقع على الضفة الأخرى من النهر، ويسميهما الحديثيون الشامية والجزيرة، بكسر الميم، يجري التنقل بينهما بالزوارق (البلام ومفردها بلم)، لكن شركة النفط أقامت ، في الماضي ، والى الجنوب من المدينة عبّارة ميكانيكية يسمونها (فيري) قادرة على حمل السيارات، اضافة الى معبر معلّق يدعى (بلوندي) يشبه التلفريك أو Cable Car، مخصص للشخصيات فقط من كبار مهندسي الشركة البريطانية وربما الموظفين الاداريين الكبار.
 وفي وقت متأخر، أقامت بلدية المدينة جسراً عائماً على الطوافات، أو (الدوبة) باللهجة المحلية ليربط الشامية والحويجة، وهي جزيرة تتوسط الفرات، وآخر يربط الحويجة بالضفة الأخرى من النهر (بروانة) وكلها جزء لا يتجزأ من حديثة وأهلها وبساتينها.
 ومكنّت بساتين حديثة وأشجارها وتلولها الصخرية وكهوفها الكثيرة والوعرة، رجالها من استهداف القوافل العسكرية الأمريكية، وضربها والاختفاء بسرعة. ان أهل المدينة هم من يدافع عنها وعن العراق، وليس كما يزعم الاحتلال واتباعه بأنها تأوي من غادر الفلوجة اليها. وعلى سد القادسية في حديثة بالتحديد، انتبه العالم كله على أول عملية مقاومة انتحارية استشهادية ضد القوات الغازية في نيسان (أبريل) 2003 وقبل ان تحكم قوات الاحتلال الأمريكي قبضتها على العراق.
تقدمت سيدتان من موقع عسكري أمريكي على جسر السد، وصرخت احداهن من السيارة طالبة النجدة والاسعاف لزميلتها الحامل، وما أن اقترب جنود الاحتلال منهما، حتى فجرتا السيارة بتجمع الجنود، وسجلتا مأثرة، يواصل المتتبعون لسجل الاحتلال الاشارة اليها.
 ونعود الى ذكر بعض رجال حديثة الذين تداولت الأحداث أسماءهم، ومنهم مشايخ من آل الصميدعي  ، وناجي صبري الحديثي، آخر وزير خارجية قبل سقوط العراق بيد قوات الاحتلال، ووزير خارجية آخر أسبق هو مرتضي سعيد عبدالباقي، ورجال فكر وثقافة وتاريخ، بينهم أستاذ التاريخ نزار الحديثي الذي أصبح في السنوات القليلة الماضية نائباً لرئيس المجمع العلمي العراقي، يقيم في اليمن حالياً ، وهو مختص بتاريخ اليمن ،وأصدقاء ومعارف بدون عدد، ومنها ايضاً اخوال أبناء اخي وزميلي في واع وفي دراسة الدكتورا بجامعة اكستر البريطانية الدكتور عدنان رشيد الشيخلي، المقيم حالياً في أسكتلندا، بالرغم من انه لا يحب برد شتائها.

المعاضيد
وما أن تعود من حديثة الى الحقلانية لتتجه الى قضاء عنه، كان الطريق في الماضي محفوفاً بالخطر، وأقامت الدول بعد ذلك طريقاً حديثاً معبداً يمتد من أبو غريب الى القائم، وبذلك زال ذلك الخطر.  وقبل تعبيد الطريق، كان سائقو السيارات يقودون مركباتهم هنا بدقة وعناية، لانهم يعرفون بأن أي انحراف أو فقدان أثر الطريق سيقودهم الى (الخسفة). والخسفة كانت مناطق رميلة هشة تبتلع السيارات في الصحراء، وضاع فيها فعلا بعض السيارات بركابها.
 وبعد التخلص من قلق الخسفة، كانت هنالك في وسط وحشة الصحراء والمجهول، نخلة صغيرة زرعها أحدهم، وأصبحت واجباً لكل سائق يمر بها، بالاتجاهين، ليقف ويسقيها من ماء (الجود) الذي يحمل الماء للشرب واضافة بعضه الى راديتير السيارة أو لسقي تلك النخلة. ومنذ ان تم تعبيد الطريق، لم أعد أعرف ماذا حل بتلك النخلة.
 بعد حين، تصل الرحلة الى مخفر الفحيمي على التل الواقع عند الوادي بنفس الاسم. انه مجرد مخفر شرطة وبقربه مقهى، ولا شيء سواهما، ويقال انه كان نقطة تفتيش المسافرين والبضائع بين العراق وسورية قبل ان ينتقل طريق السفر الى سورية عبر الرطبة في العشرينيات من القرن الماضي.
يطل المخفر والمقهى على الفرات، ومنه ترى على الضفة الأخرى ناحية المعاضيد، التي تتبع قضاء حديثة ادارياً، وشيخها آنذاك معروف جداً هو الشيخ عيادة، والد الدكتور خاشع الذي تولى منصب عميد كلية الآداب بجامعة بغداد قبل عدة سنوات، وتلقى خاشع تعليمه الثانوي في قضاء عنه، كما هو الحال مع مرتضي سعيد عبدالباقي الحديثي، حينما كانت حديثة أو المعاضيد تفتقران لمدرسة ثانوية.
 ولم تكن حديثة والمعاضيد تفتقران للمدارس الثانوية فحسب، بل انهما كانتا خاليتين حتى من دائرة تسجيل النفوس، وكان تسجيل مواليد حديثة الجديدة يتأخر كثيراً حتى يتسنى لمختارها محي المجيد السفر الى قضاء عنه لتسجيل الولادات، وكان يسافر مرة أو مرتين في السنة لهذا الغرض، وهو بهذه المناسبة عم وزير الخارجية السابق ناجي صبري الحديثي.
 ومن المعاضيد، جاء عبدالرحمن البزاز، والبزاز هي الصفة التي اكتسبها من والده عبد اللطيف، ويطلقها العراقيون على تجار الأقمشة وباعتها. وتزوج عبدالرحمن عام 1945 من ابنة خاله، العلامة نجم الدين الواعظ، وهو آخر مفتي للعراق وتوفي عام 1975.
اصبح عبدالرحمن البزاز في منتصف الخمسينيات عميداً لكلية الحقوق وأقصته الحكومة من منصبه عام 1956، فمارس المحاماة حتى ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 وعاد عميداً لنفس الكلية. وأصبح في عام 1963 أول سفير للعراق لدى الجمهورية العربية المتحدة، ثم في عام 1965 رئيساً للوزراء مرتين، الأولى في عهد الرئيس عبدالسلام عارف، والثانية في عهد الرئيس عبدالرحمن عارف.
توقف هبوط الطريق الى وادي الفحيمي في منتصف الثمانينيات بعد ان جرى بناء جسر حديث عليه. ومن هنا تبدأ الرحلة الى قضاء عنه، وتدريجياً تحيط بالطريق البساتين والنخيل والأشجار والمزارع والنهر، انه دائماً الفرات. وقبل ان تصل الى المدينة ستجد الى يمين الطريق قرية صغيرة أسمها (حبين) برفع الحاء وفتح الياء وسكون الباء والنون، وهي تابعة لقضاء عنه ادارياً، ويشتهر أهلها بزراعة الخضروات .

                              

قضاء عنه
تلتقط الأنظار بعد ذلك (الكصر) التي تكتب فوق كافها شارحة طويلة (-)، وتعني القصر، وهو ليس قصراً، ولا يوجد أي قصر بالقرب منه. انه جسر متوسط الطول على وادي تتدفق فيه مياه السيول العاتية لتصب في الفرات. وحال عبور هذا الجسر، تصبح ضمن حدود عنه الادارية، والى هنا جرى نقل عنه بعد ان أغرقوها بمياه بحيرة القادسية، واصبحوا يسمونها عنه الجديدة.
 في هذه المدينة، عشت طفولتي والشباب، وأفتخر باكتسابي لاخلاق أهلها وثقافتهم وايمانهم وروحهم الوطنية. ويتخيل بعض الأصدقاء من شدة معرفتي بهذه المدينة أنني عانياً، ولكنني مع الشرف الذي نلته من أهل عنه وراوه، لست عانياً أو راوياً، وانما بغدادي أصيل. حتى ان الصديق ناجي صبري الحديثي قد فوجئ ذات مرة وهو في نيويورك بصفته وزيراً للخارجية بأنني لست عانياً فعلاً، عندما كنا نتحدث في أحداث الماضي.
 وقضاء عنه، واتحدث هنا عن عنه القديمة،  هي مدينة يتماسك سكانها في أحياء تسمى محلات، وتتوالى هذه المحلات الواحدة بعد الأخرى على امتداد ضفة الفرات، وتتسم بالطول دون ان يتجاوز عرض المدينة 200 - 300 متر بين النهر والجبل.  وقد تداخلت محلاتها مع بعضها في عنه الجديدة، وأصبحت المحلة التي كانت بعيدة عن مركزها في المدينة القديمة، محلة قريبة من المركز حيث مقر القائمقامية والشرطة والبلدية والادارة
ومحلات المدينة القديمة كانت كما يلي، عكس مجرى النهر :
محلة جميلة برفع الجيم ، محلة الشريعة ، محلة الخطبة برفع الخاء وتشديد الباء، محلة السّدة ،محلة شعيفة ، محلة حقون، ويلفظها العانيون (حكون) بالكاف التي فوقها شارحة طويلة(-) وفيها السراي ودوائر الادارة، وهي مركز المدينةن ، ومحلة غازي التي أصبحت الجمهورية بعد قيام النظام الجمهوري عام 1958 ، ومحلة كُحلي، ومحلة دلة علي ، محلة الحوش، ويقطن في بعض بيوتها (السواهيك) وهم من راوة أصلاً ، ومحلة العباسية، وتسمى الرأس الغربي الذي يواجه مدينة راوة على الضفة الأخرى من الفرات.
 أما محلات المدينة الأخرى فلا تواجهها على الضفة الأخرى أية مظاهر سكن، وهي مجرد مرتفعات صخرية ممتدة على طول الضفة، لكن في وسط الفرات توجد عدة جزر مأهولة، تكثر فيها أشجار النخيل والفواكه وزراعة الخضراوات، وأشهرها جزيرة الحضرة، وجزيرة الرأس الغربي، وجزيرة الشيخ، وجزيرة نصّار مقابل السراي، وجزيرة الحاج شريف، وهو ذاته رجل الدين والد الشخصية العراقية المعروفة عزيز شريف، وأكبرها جزيرة القلعة التي يجري العبور اليها بالزوارق الكبيرة، وفيها القلعة التاريخية ومنارتها المشهورة. وفي الصيف تظهر عند انحسار مياه النهر الجزر الرملية (الطينة) وتستغل لزراعة الخضراوات الصيفية.
 تعود مدينة عنه في التاريخ الى فجره، وفتحتها جيوش الملك حمورابي، واكتسبت اسمها من العهد البابلي، وأشار الملك آشور بانيبال في 879 قبل الميلاد الى اسمها (عانات) وكذلك الملك سنحاريب، وفي عام 363 تعرضت جيوش الامبراطور الروماني جوليان للمقاومة في عنه، فأقتحم أسوارها وأضرم فيها النيران، وتحدث عنها الطبري في تاريخه والحريري في مقاماته وابن خلدون في مقدمته، وياقوت الحموي. وكانت على الطريق الرئيسي بين الغرب وبغداد، وفي عام 1835 ضرب اعصار المركب الانكليزي (سفينة) في الفرات شمالي عنه.
 وفي محلة حقون بهذه المدينة الرائعة المقاومة، اكتسبتُ عادات أهلها وثقافتهم وكرمهم واخلاقهم، وفيها انفتحت أفكاري على الحركة الوطنية العراقية، ودرست في مدارسها الابتدائية والمتوسطة، ولابد، وأنت في عنه، من أن تحيي كل من تمر به حتى وان لم تعرفه، وفي كل الأوقات.
 تقع ثانوية عنه للبنين في المدينة القديمة على مرتفع يسمى جبل، ولم تكن في عنه آنذاك أية واسطة نقل محلية سوى الدراجات الهوائية، التي يستخدمها الطلبة للوصول الى المدرسة، وفيها طلبة عانيون وراويون وحديثيون ومعاضيد، وأتذكر اننا كنا نتنافس على من يستطيع صعود الطريق الى المدرسة على ذلك التل راكباً دراجته، أنها صعبة بالتأكيد، ولم أفلح في تلك المنافسة سوى مرتين أو ثلاث!
 تغفو عنه بين الفرات والجبل، وتروي بساتينها من ماء النهر الخالد الذي تنقله النواعير، وكان في المدينة الكثير منها. ويستخدم العانيون نوعاً من الزوارق الكبيرة تسمى (شختور) المصنوع من خشب شجر التوت والمطلي بالقير لمنع تسرب المياه الي داخله، وكذلك زوارق أصغر للانتقال الي الجزر، ومنها الى المدينة، ولنقل المحاصيل الزراعية، وعبور أبناء الجزر للالتحاق بالمدارس يومياً.
وتتمتع المدينة بمحاصيل زراعية متعددة، ومنها التمور والتين والزيتون والبرتقال والتفاح الصغير الحجم والفواكه الأخرى، وجميع أنواع الخضراوات، وكانت عوائلها تعصر التمور الكثيرة لتنتج الدبس الأسود بطريقة تنفرد بها تلك المناطق من الفرات، حيث توضع التمور الطرية في أكياس مصنوعة من خوص النخيل، وفوقها عمود مثبت بثقب في الحائط من أحد طرفيه، بينما يجلس أحد الأشخاص على الطرف الآخر ليحقق الضغط على الكيس، فتعصر التمور، ليتدفق منها عصيرها، الدبس في الأواني، وكنا نتمتع بأوقات انتاج الدبس.
 شهدت عنه في نضالها الوطني، المظاهرات والاضرابات والاحتجاجات، كما هو الحال مع مدن العراق الأخرى، وفي المرة الأولى عام 1956 استيقظتُ على حركتها الوطنية بمظاهرات لنصرة شعب مصر وبور سعيد ضد العدوان الثلاثي.
وهنالك في عنه القديمة، ما قامت هيئة الآثار العراقية بنقله بنجاح الى عنه الجديدة، وهي مجموعة من الآثار والمنائر وقبور شيوخ أولياء وتكايا. ففي جزيرة القلعة مقابل محلة الشريعة، تشمخ منارة مثمنة الأضلاع يعود تاريخها الى العصر العباسي، ومشيدة على قاعدة ذات ثمانية أبعاد، واستخدم الحجر والجص في بنائها، وترتفع بثمانية أضلاع، لكل منها ثماني نوافذ، ومجموعها 64 نافذة تسمح بدخول الضوء الى درجات السلم داخل المنارة، وبعد ان تتسلق 99 درجة منه، تصل الى القمة حيث تجد قبة صغيرة يجري الوصول اليها من أربع فتحات.
وكل المنارة، تم تقطيعها من قبل خبراء الآثار العراقيين في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، ونقلوها الى عنه الجديدة بعد أن غمرت مياه بحيرة القادسية المدينة القديمة، وتقف اليوم شامخة في المدينة الجديدة.
ونقل الخبراء ايضاً، تكية الشيخ رجب وضريحه وقبور أولاده وأحفاده، وينتسبون الى الأمام الحسين بن علي بن أبي طالب، ويتبعون الطريقة الرفاعية. وهي تكية كانت في محلة السّدة، ويتبارك بها أهل عنه، وتحمل عائلته لقب بيت الشيخ، ومنهم رجال معروفون في تاريخ الحركة الوطنية العراقية، بينهم عزيز الشيخ، العضو المرشح للمكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في أوائل الستينيات. والشيخ رجب هو من راوه في الأصل، وانتقل الى محلة السدة في عنه، وأصبحت له تكية فيها.

شعراء وعلماء
ويحتار المرء في ذكر الشخصيات والكفاءات العراقية التي جاءت من عنه، ومنهم قادة سياسيون وعلماء وأطباء ومختصون في جميع العلوم وشعراء وأدباء، ومنهم شاعر قديم اسمه المنتجب العاني المتوفي عام 400 هجرية، وحديثاً الشاعر شفيق الكمالي، وزير الأعلام الأسبق وتعود أصوله العائلية الى عنه، والشاعر رشدي العامل.
ومن المدينة ايضاً شفيق العاني رئيس محكمة تمييز العراق في الستينيات، وعارف قفطان النائب لعدة سنوات خلال العهد الملكي، وناصر الحاني وزير الخارجية الأسبق، اضافة الى الأطباء طارق هليل أخصائي الأمراض الجلدية وحميد العاني أخصائي أمراض القلب وفؤاد شاكر مصطفي أخصائي التخدير، والمهندسين رقيب عبدالرزاق القاضي وفاروق بندر وعدنان عبدالمجيد وزير الصناعة الأسبق، وهو شقيق القيادي البعثي القديم حمدي عبدالمجيد، وكذلك الصديق خالد هليل العاني خبير الجيولوجيا، والفنان المسرحي المعروف يوسف العاني، وكاتب القصة شجاع العاني، وغيرهم الكثير.
وللحركة الوطنية العراقية نصيب واضح من عنه، ومنها رجال أصبحوا قياديين في الأحزاب السياسية، بينهم يوسف زعين رئيس وزراء سورية حتى 1970، وهو من عنه لكنه من مواليد البو كمال السورية، وأدخله حافظ الأسد الى سجن المزة لمدة عشرة أعوام ، وكان له شقيق عاني ومقيم في الاعظمية ببغداد،  بينما كان  هو رئيساً للوزراء  في دمشق.
 ومنهم أيضا حمدي عبدالمجيد وعزة مصطفي وزير الصحة الأسبق وتايه عبد الكريم وزير النفط الأسبق، وفؤاد شاكر مصطفي، وجميعهم كانوا أعضاءً في أعلى القيادات لحزب البعث العربي الاشتراكي.
 وكان المرحوم فؤاد شاكر مصطفي هو الذي نصحني عام 1970 في مكتبه بالقيادة القومية بدمشق، وكانت أحداث أيلول في الأردن قد اندلعت، بالعودة الى بغداد بعد ان كنتُ أتمنى مغادرة العراق أثر اطلاق سراحي من معتقل قصر النهاية، وقال لي الدكتور فؤاد انه من الأفضل الحياة في العراق بدلا من حياة اللجوء ومتاعبها ومهانة استلام راتب شهري مخصص للاجئين السياسيين. وفعلاً قفلت بعد أسبوع من لقائي به، عائداً الى بغداد. وعاد هو بعد عدة سنوات، وتوفي ببغداد قبل سقوطها تحت الاحتلال بعام أو أكثر.
 وتولى العانيون أعلى القيادات أيضاً في الحزب الشيوعي العراقي، وكلهم من عوائل مشهورة في مجال الفقه والشريعة الاسلامية والتقوي، ومنهم عامر عبد الله، وعزيز شريف، وشقيقه عبد الرحيم شريف ، وعزيز الشيخ ، وخاله شريف الشيخ، وحمدي العاني وغيرهم. ومن العانيين من أصبح صحفياً، مثل نعمان العاني ورسمي العامل وطه الفياض  في أوائل الستينيات وغيرهما.
وتقلد منصب الحاكم القضائي فيها رجال معروفون، وأبرزهم حسين جميل أحد قادة الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان حاكماً في عنه عام 1936 - 1937، وهو أحد أهم مؤسسي جماعة الأهالي في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، وأصبح نقيباً للمحامين في الخمسينيات، والسكرتير العام للحزب الوطني الديمقراطي، ثم وزيراً للارشاد عام 1959 لبضعة شهور واستقال من الوزارة.
ومنهم ايضاً نوري أحمد الشيخ، حاكم عنه في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وهو الشقيق الأكبر لعزيز الشيخ المذكور قبل قليل، وكذلك حسن العلي التكريتي، في أوائل الستينيات، وهو عم صلاح عمر العلي وزير الأعلام الأسبق.
 وأخبرني الصديق الأخ ماجد مكي جميل من جنيف مؤخراً، بأن حصة العائلة، آل جميل، في عنه لم تقتصر على تولي عمه حسين جميل لمنصب الحاكم فيها، بل تعود الى القرن التاسع عشر، أيام الوالي علي باشا رضا في بغداد. فقد ثار جد العائلة، المفتي عبد الغني آل جميل في محلة قنبر علي ببغداد على ظلم هذا الوالي العثماني، لكنه اضطر للهرب من جوره، واستقر في عنه لمدة 17 عاماً، وتزوج من نسائها، وعاد الى بغداد بعد تولي والٍ جديد ولاية بغداد.
 وللمفارقة، كانت جميع الحكومات المتعاقبة على العراق تعتبر مدينة عنه منفى ولابعاد خصومها السياسيين اليها. فقد أبعدت الحكومة اليها عام 1931 الزعيم الكردي الشيخ محمود الحفيد بعد اخماد تمرده عليها في السليمانية شمال العراق. وفي أواخر الثلاثينيات، أبعدت الحكومة اليها رشيد عالي الكيلاني، وكان وزيراً للداخلية ورئيساً للوزراء في العهد الملكي قبل هذا النفي وبعده.
 وفي الخمسينيات كانت حكومات العهد الملكي تبعد اليها أيضاً خصومها من الشيوعيين، ومن بينهم شخص أرمني اسمه سركيسيان الذي كان مطلوباً منه ان يوقع عصر كل يوم في سجل بمركز شرطة السراي، واتخذ من التصوير مهنة له، بواسطة ذلك الصندوق الذي كان يستعمل لالتقاط الصور الشمسية.
 وأبعدت حكومة السنوات الأولى للعهد الجمهوري اليها خصومها من البعثيين، ومنهم بهجت شاكر وعبد سلوم السامرائي، وأقاما في منطقة الرأس الغربي في أطراف المدينة الغربية المقابلة لراوة.
 وفي هذا الجو المعّطر برائحة الحركة الوطنية والمروي بماء الفرات، وجدت طريقي الى أحد الأحزاب السرية، وقضيت في تنظيماته في عنه بعض الوقت، ومن ثم انتقلت الى بغداد.
 دخلت عام 1959 موقوفاً مرتين الى موقف شرطة السراي في عنه، مرة بتهمة توزيع منشورات بخط اليد لم أكن من كتبها، لكنني أعرف كاتبها، وأخذوا مني بطريقة بدائية نموذج خط اليد وأطلقوا سراحي.
وفي المرة الثانية بنفس العام، أوقفتني الشرطة بتهمة المشاركة في اعتداء على أحد نشطاء حزب سياسي آخر، وبقيت في الموقف أسبوعاً، وأحالوني مع عدد من العانيين الى المحاكمة، وهي الأخرى لم أكن طرفاً فيها، لكنني أعرف من قام بها.
 وشاءت الظروف أن تنقلني العائلة على عجل الى المستشفي في بغداد لاصابتي بمرض ليس لدى مستوصف عنه قدرة على علاجه، وجاءتني من محكمة عنه مرتين الى بغداد، تبليغات رسمية بالحضور الى المحاكمة، وما زلت حتى اليوم 2005 احتفظ بواحدة منها، كما احتفظ بنسخة من تقرير لطبيب في بغداد يعذرني طبياً من السفر لحضور المحاكمة، ومن ثم أُغلقت القضية لعدم حضور الشاكي نفسه الذي هاجر الى بغداد وسكن في الكرادة الشرقية، وقد التقيت به فيما بعد هنالك مرتين بالصدفة.
 وعند ازدياد عدد من غادر عنه لظروف دراسية أو معاشية أو اقتصادية أو سياسية، اتخذوا السكن في أحياء محددة ببغداد، فسكن أهالي عنه وراوة بالتحديد في مناطق الكرخ، سوق حمادة والرحمانية ومنطقة الشيخ بشار ومنطقة الشيخ معروف، واعتادوا على التواجد في مقهى معروف باسم مقهى العانيين الواقع على نهر دجلة بساحة الشهداء في الكرخ. وفي هذه المنطقة كان يقع ذلك الكراج للسفر الى عنه، والذي بدأنا هذه الرحلة منه.
 وجميع هذه الأحياء أو المحلات، هي التي تطل حالياً مباشرة على واحد من شوارع بغداد المشهورة، وهو شارع حيفا الذي سمته  قوات الاحتلال بشارع الموت.

  

بلقيس
لنغادر قضاء عنه ونستكمل الرحلة في مدن محافظة الأنبار، ولابد ان تتجه الى اليمين حال خروجك من هذه المدينة، لتعبر جسراً عائماً نحو راوه، وهو الجسر الذي تم استبداله بجسر ثابت أقامته الدولة في أواخر السبعينيات.
 ومدينة راوه، في الماضي كانت  شريط ضيق من الأرض محصور بين الفرات والجبل بعرض يصل أحياناً الى 200 متر، وحالها هذا مثل حال البغدادي وحديثة وعنه، لكن سكان راوه مدوا منازلهم الى سفح الجبل وقمته، ويقال ان تسميتها قد جاءت من كثرة المياه فيها وكثرة نواعيرها.
 يحتضن الفرات راوه من الغرب والجنوب، والجبل من الشرق، وتنتشر اشجار النخيل والفاكهة شمالها، وفيها قلعة معروفة موجودة منذ العهد العثماني، وهي عبارة عن ثكنة جند على الجبل وأمامها مدفع قديم، وتقع على القمة عند التواء النهر لتصبح القلعة مقابل الطرف الغربي من قضاء عنه. وتصعد على طريق المدينة الرئيسي بين المنازل والبساتين لتصل الى قمة الجبل، وبعد حين تصبح في البادية التي تؤدي الى مجهول الصحراء.
حاصرت قوات الاحتلال راوه، مرة ومرتين وثلاثة، وهاجمتها مراراً، واعتدت على أهلها وقتلت حتى النساء كما حصل في كانون الأول (ديسمبر) 2004.
وجاء من راوه رجال كثيرون في السياسة والعلوم واللغة والشعر، ومنهم أستاذ العلوم محمد عمار الراوي، وناجح خليل الراوي الذي أصبح في أواخر التسعينيات رئيساً للمجمع العلمي العراقي، ومسارع الراوي وزير الارشاد عام 1963 ثم المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في مقرها بتونس.
واللغوي الكبير طه الراوي كان أستاذاً في دار المعلمين العالية ببغداد حين كان يضم طلبة اصبحوا فيما بعد من كبار الشعراء العرب، ومنهم نازك الملائكة. ومن رجال المدينة أيضاً جميل الراوي أحد كبار الساسة في العهد الملكي، وكان وزيراً للمواصلات والأشغال عام 1930، وبلقيس الراوي زوجة الشاعر الكبير نزار قباني التي راحت ضحية انفجار سيارة مفخخة عام 1982 بالسفارة العراقية في بيروت، وكتب نزار قصيدته الطويلة عنها بعنوان (بلقيس)، ومنهم ايضاً الدبلوماسي السابق الأديب عبد الجليل الراوي، والصديق الدكتور عبد الستار الرواي، آخر سفير عراقي في طهران قبل الأحتلال الأمريكي عام 2003 ، والأطباء عصام الراوي أخصائي الأورام السرطانية، وزينب الراوي أخصائية الأمراض النسائية، وشقيقها سعد الراوي أخصائي العظام، والصديق الدكتور محمد الراوي الذي كان أول من اغتالته عصابات الغدر التي قتلت علماء العراق بعد سقوط بغداد بيد الاحتلال. ومن شعراء العراق الذي يحملون اسمها، عدنان الراوي الذي ولد في الموصل، لكن عائلته تنتسب في الأصل الى راوه، وتوفي عام 1967، وهو أحد الذين اسقطت الحكومة العراقية عام 1955 الجنسية عنهم، وبينهم الشاعر محمد مهدي الجواهري وعزيز شريف، وأقام الراوي في القاهرة حتي قيام النظام الجمهوري عام 1958.
 
الامام علي

تعود بالرحلة على ذلك الجسر لتغادر راوه وتستكمل الطريق باتجاه حصيبة، أو القائم، آخر بلدة عراقية قبل الحدود مع سورية، ولكن التاريخ يلوح لك في منطقة تقع قليلاً الى الغرب من عنه. ففي هذه الضواحي كانت مدارس عنه وراوه تأخذ طلابها بين الحين والآخر في سفرات مدرسية، الي (مشهد الحجر) ويلفظ أبناء المنطقة اسمها (المشهد) بكسر الميم وسكون الدال، وهي أثر تاريخي اسلامي مر به الامام علي بن أبي طالب، وتحمل جدران المسجد كتابات عربية اسلامية.
وقد يستغرب المرء عندما يجد قبتين صغيرتين في عنه القديمة تتسمى كل واحدة منهما (قبة علي)، الأولى على سفح جميل لجبل في محلة حقون، والثانية في حضن مرتفع اكثر وعورة بمحلة غازي (الجمهورية)، وهما شاهدان على مرور الأمام علي بهذه المنطقة.
رحل الأمام علي، خليفة المسلمين بمئة ألف من جيش المسلمين من الكوفة مروراً بمدن الفرات نحو منطقة الرقة السورية حيث وقعت في ضواحيها معركة صفين عام 37 هجرية، 657 ميلادية بين جيش المسلمين بقيادة الخليفة الامام وبين جيش والي الشام معاوية بن أبي سفيان. وفي طريقه الى ميدان المعركة، كان الخليفة وجيشه يرتاحان من عناء السفر، وهذا ما حصل في (مشهد الحجر)، حيث أدى الامام علي الصلاة في هذه المنطقة، وراح أهالي القرى المجاورة فيما بعد يرتادون المكان ذاته للصلاة تبركاً بالمكان الذي صلى فيه الامام.
 ولما سمع الوالي نور الدين زنكي بما يقوم به الرعية، طلب قدوم وفد من مكة المكرمة، فجاءه الوفد برئاسة الشريف مسلم الذي وكله الوالي لبناء مسجد في ذات المكان الذي أدي فيه الأمام علي الصلاة، ومن بعد ذلك قام مسلم بتوكيل ابنه ثابت بن مسلم بالاشراف على المسجد وخدماته.
 وفي الوقت الراهن، فان كل من ينتسب الى بلدة المشاهدة الى الشمال من العاصمة بغداد، هم من السادة الذين تعود أصولهم العائلية الى ثابت بن مسلم و(مشهد الحجر).
 وعلى مقربة من هذه المنطقة، هنالك جزيرة كبيرة وسط الفرات اسمها (حويجة الكرابلة) وأهلها من أبناء العشائر، جاء منهم عدد من الرجال المعروفين بينهم حمد دلي الكربولي الذي اصبح وزيراً للتربية في الستينيات وسفيراً للعراق في عدة عواصم.

 
 
حكاية النواعير وموسيقى الماء والحنين
تميزت مدن محافظة الأنبار، هيت والبغدادي وحديثة وعنه وراوة وحصيبة بواسطة فريدة من نوعها لنقل الماء من الفرات لارواء البساتين والمزارع، وليس لها مثيل في أية منطقة عراقية أخرى.
 والناعور، جمعها نواعير هي تلك الواسطة التي تدور على نفسها بفعل دفع المياه، وتنقل أوان فخارية خاصة الماء الى ساقية عالية تنحدر تدريجياً لكي ينساب الماء فيها وتروي الأراضي. وهي ثلاثة أنواع، الصغيرة التي تروي بساتين ومزارع بضع عوائل، والكبيرة التي تسقي مساحات أوسع وأبعد مسافة، والمزدوجة التي يجري تركيبها بمعدل 2 - 3 نواعير جنباً الى جنب لتكون كمية المياه التي تنقلها اكثر.
 وللنواعير على الفرات حكايات شعبية يتوارثها الأبناء عن آبائهم، ويحفظ أهل المنطقة أبيات أغاني العتابة البدوية التي تتغنى بالناعور، ويتمتعون بسحره الطبيعي، ويلتقطون شجيرات الرياحين التي تنمو بكثرة على جوانب سواقيه المبتلة، ويغفون في القيلولة على انغامها وخرير الماء من أوانيه. ويتعلم الأبناء من آبائهم فن نجارة الناعور.
 ويبدو ان نواعير نهر العاصي في حماة السورية هي أصغر حجماً من نواعير الأنبار العراقية، وتكاد نواعير حديثة وعنه وراوة ان تكون دائرة عملاقة تدور على نفسها. ولابد من استخدام خشب شجر التوت في صناعته، وهي أشجار تنتشر في هذه المنطقة.
 تقوم صناعة الناعور على قاعدة مركز القطر الهندسية، وهو مركز مجوف لادخال خشبة عملاقة فيه لتحمل كل الناعور، وتستند هذه الخشبة في طرفيها على قاعدتين خشبيتين من التوت، وتوضع هاتين القاعدتين على حائط عريض صلد من صخور الجبال والسمنت يصل بالضبط الى منتصف الناعور (نصف القطر).
 ويربط بين الطرفين، ممر واحد يكون أمام الناعور قبل تدفق المياه في مجراه والذي يكون بعرض حوالي المترين. ويستعمل أبناء المنطقة هذا الحائط للقفز الى النهر عند السباحة.
 ومن مركز القطر، تمتد الى جميع الاتجاهات الدائرية، أعمدة طويلة من خشب التوت ايضاً لتصبح في النهاية الدائرة، ثم تربط نهايات هذه الأعمدة بقطع خشب آخر تميل الى القوس الخفيف، لتشكل عند اتمامها محيط القطر، وتربط الواحدة بعد الأخرى بمسامير كبيرة الحجم هي من ذات الخشب.
 وتبنى النواعير على ارض فسيحة ثم تفكك ليجري نقل أجزائها الى الموقع الذي ستنصب فيه، وعادة ما تكون واسطة النقل عبر مجرى النهر بالزوارق الكبيرة (الشختور) أو بسيارة نقل، أو على عربات تجرها الحمير.
 وفي محيط قطر الناعور، تربط أوان اسطوانية فخارية طويلة بواسطة حبال مصنوعة من خوص النخيل، وهي التي تنقل الماء عندما تغوص فيه عند دوران الناعور، وتصبه في الساقية التي ترتفع عالياً، ومن كثرة عدد هذه الأواني يجري الماء في الساقية التي تنحدر تدريجياً حتى تصبح بعيداً عن موقع الناعور في مستوى سطح الأرض وتسقي المزارع والبساتين.
 وتعرضت النواعير على الفرات للخمول نتيجة ضعف تدفق المياه بالفرات في السبعينيات بسبب ما كانت تقوم به تركيا من بناء للسدود على النهر والاستحواذ على مياهه، وشحة ما تسمح به للتدفق الى سورية والعراق. لكن أهالي المدن العراقية على الفرات، لم ييأسوا، وأعادوا الحياة لنواعير ما زالت حتى اليوم تروي أراضيهم في هيت وحديثة وراوة وحصيبة.
 ومحاصيل المنطقة الزراعية وفيرة، وأهمها التمور والفواكه والزيتون الذي توجد منه أشجار معمرة في المنطقة، والخضراوات، والتين الذي ينمو على ضفاف النهر في بساتين يسمونها (جمادة) بسكون الجيم وفتح الدال. ولدى المنطقة ايضاً ثروة حيوانية كبيرة من الأغنام والدواجن.
 
ويستخدم أهل المنطقة مياه الفرات للشرب ايضاً ولكن بطريقة صحية حيث يقوم أحد الأشخاص بنقل الماء من النهر الى المنازل بأوان تحمل على الكتف، ويملأ (الحب) بكسر الحاء وسكون الباء، وتضيف العائلة (الشب) لتصفية الماء. و(الحب) هو اناء فخاري مخروطي كبير، فوهته الواسعة مفتوحة من الأعلى، ويوضع على محمل خشبي، وتحته اناء أصغر يجمع ما يتقطر من (الحب) من ماء صاف للاستخدام البشري.
 ودخلت الطريقة الحديثة في توزيع المياه، والكهرباء الى هذه المناطق في أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ودخلت معها مكائن ضخ المياه بعد ان انخفض منسوب مياه الفرات بسبب السدود التركية، وضعف تدفقها لتدوير النواعير، لكنها أعيدت الى الحياة مرة أخرى.
 وفي الثمانينات، امتدت السكك الحديدية من بغداد الى القائم وعكاشات، واستخدمت القطارات بشكل رئيسي لنقل الفوسفات من عكاشات الى بغداد ثم البصرة للتصدير. وقد اتخذت قوات الاحتلال الأمريكي من بعض محطات القطارات مقرات وثكنات لها، كما حصل في الفلوجة التي انطلق الهجوم عليها من محطة القطار، وقد توقفت حركة القطارات في هذه المنطقة بفضل الاحتلال.
 لنواصل الرحلة الى نهايتها في حصيبة (القائم) حيث يمر المسافر ببضع قرى هنا وهنالك، لكن قبل الوصول الى حصيبة تقع ناحية العبيدي، بسكون العين، ويقطنها أبناء عشيرة واحدة، وبعدها تجد أمامك تلك المدينة التي لم تهدأ منذ سقوط العراق للاحتلال، ويمطر أهلها كل يوم مراكزه وتجمعاته بغضب الوطن والأرض والتاريخ، ولم تهدأ اطلاقاً.
ولا يمر يوم واحد بدون ان تنقل الأنباء وقوع اشتباكات عنيفة في القائم، وينتشر رجال المقاومة في المدينة وضواحيها حتى اخفقت قوات الاحتلال في السيطرة عليها، ولم تجد سوى قصف أعراسها بالطائرات، كما حصل في أواخر آذار (مارس) 2005، عندما هاجمت القوات الأمريكية عرساً وقتلت العروس والمشاركين في موكب الزفاف. وهذا بالضبط ما اقترفته قوات الاحتلال في أيار (مايو) من العام الماضي 2004 عندما شنت بطائراتها هجوماً على حفل عرس في احدى القرى الصحراوية التابعة لقضاء القائم، وارتبكت تلك المجزرة التي راح ضحيتها رجال كانوا يفرحون بالزفاف في رقصة الدبكة المعروفة عند أهالي هذه المناطق.
 لم أتعرف على هذه المدينة جيداً، وزرتها مرتين، وشاهدت أنها تعيش على ضفاف الفرات، ونمت في ديوان أحد أبنائها، وهي مدينة تتمتع بعدد من المساجد، وبعطر الفرات، والكثير من سكانها هم من أصول عانية وراوية وكبيسية.
وكما هو الحال في كل مدن أعالى الفرات ينقسم أهالي القائم الى جنسيتين، فمنهم العراقي بينما الأخ أو بعض الأقارب من الدرجة الأولى سوريو الجنسية، كما هو الحال مع يوسف زعين، رئيس وزراء سورية الأسبق الذي له شقيق عراقي مقيم في الأعظمية، وكذلك حميد مرعي، رئيس مؤسسة السينما السورية في السبعينيات، كانت خالته عانية، وأقام عندها للدراسة في ثانوية عنه قبل الالتحاق بالكلية في بغداد، ثم الحكم عليه بالاعدام في محاولة اغتيال رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم. وجزء من آل الشيخ رجب في عنه وراوة، يقطن البو كمال السورية، وهكذا فكلهم أولاد عم. وكثيراً ما تجد العراقي وقد تزوج من ابنة خاله أو عمه السورية.
 وليس ما بين حصيبة في العراق والبو كمال في سورية سوى تلك النقطة التي تدعى الحدود، وتستطيع ان ترى من حصيبة أنوار البو كمال، وتسمع صوت المؤذن من مساجدهما. وبعيداً عن نقطة الحدود فالحركة دائمة بين الأقارب وللتجارة، حتى أصبح الانتقال بين المدينتين في وقت سابق بالهوية الشخصية فقط.
وانتعشت هذه المدينة الحدودية في الثلاثين سنة الماضية عندما تم اكتشاف منجم الفوسفات في عكاشات القريبة منها، وبذلك ازداد عدد المهندسين والفنيين والعمال الذي أقاموا وعوائلهم في المدينة.
 ولا يكتمل حديث الوفاء للفرات وأهله، إلا بالاشارة الى ان مدن الأنبار، واعتباراً من أبو غريب وحتى القائم، لم تنجب من الكفاءات الوطنية من الأطباء والسياسيين والعلماء والفقهاء فقط، بل أنجبت ايضاً قادة عسكريين في صنوف القوات العراقية المسلحة ممن شهد التاريخ لبطولاتهم الوطنية في فلسطين وفي الدفاع عن الوطن وعروبته وحماية أرضه في الثمانينيات والتسعينيات، بعضه انتقل الى رحمة الله، وأسرت قوات الاحتلال البعض الآخر.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1148 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع