أيام زمان الجزء -٤١- النقارون /١
تسمى هذه المهنة بلهجة أهالي الموصل(نقيغة)، النقارة فن الحجارة أو التحجير، ونحت وتهذيب الحجارة لاستخدامها في الإنشاءات، والنقّار هو الشخص الذي يقصّ وينحت ويزخرف الرخام وحجر الحلان لغرض تهيئته للبناء، فضلاً عن الكفاءة والذوق الفني الذي يمكنه من رسم ونحت الزخارف، التي تزين واجهات الدور والغرف.
يُطلق على الحرفين المختلفين الذي يشاركون في هذه العملية، اسم النقارون، أو النحاتون، أو الحجارين، أو مُهذبي الحجارة. وهي صنعة شاقة ومتعبة وخطرة، ذات طابع أسروي، مهنة المتاعب الصعبة والفن والدقة وعشق الجمال ومتعة الناظر، وهذه المهنة تتطلب قوة عضلية ولياقة بدنية عالية، يجب توفرها لدى الشخص الذي يمتهنها، مهنة يدوية تعتمد على رجال أشداء بقواهم العضلية، فيها صراع بين الحجر والإنسان لينتهي المطاف بعمل فني رائع الجمال، وتقتصر مهنة النقارون على صناعة الأعمدة الرخامية، التي تعلوها تيجان منحوتة على شكل وريقات شجر، ذات رونق جميل تركب فوق الأبواب وواجهات البيوت وتكون منقوشة ومكتوبة ومزخرفة، بالإضافة إلى النوافذ وشواهد القبور، وهناك أعمال كثيرة تدل على قدم هذه المهنة، علما أن الرخام والحجر يستخرجان من مقالع قريبة جدا من مدينة الموصل.
برع وأبدع النقّارون الموصلون في هذه المهنة، وهم أفراد الأسر المسيحية، وأعمالهم بقيت شاهداً على اجتهادهم وإبداعهم، في كثير من أبنية الموصل القديمة، من كنائس ومساجد وجوامع ودور تراثية وأبنية مختلفة، على الرغم من كون معظمهم من الأميين.
انقرضت مهنتهم بعد ظهور مواد البناء الحديث ومعامل قطع الرخام، وراح الكثيرون من الأهالي يزينون واجهات الأبنية والدور بالمرمر الملوّن (لصق)، الذي لم يجرّب لفترة طويلة ولا يعرف أحد مدى مقاومته للتقلبات الجوية. بدأت هذه الصنعة تفقد إصالتها تدريجيا، وقل عدد النقارين كثيرا، بسبب اختلاف طراز البناء الحديث عن طراز الأبنية الموصلية القديمة، ولشيوع مواد البناء الحديثة كالأسمنت والحديد والكاشي، وظهور البدائل التي تزين واجهة البناية، ولم تعد للنقار الحديث ضرورة، باستثناء عدد قليل منهم، يمتلك المهارة التي يمتلكها النقار القديم، والعمل الذي ينجزه بسيط وانعدام الزخارف والنقوش فيها، ودخلت المكائن في هذه المهنة والتي تقوم بعمل النقار وتنحت ما تحتاجه البناية الحديثة.
هناك ثلاثة أنواع من النقارين، الأول يسمّى (نقّار مقطع)، يعمل في مقالع الرخام وحجر الحلان، ويستخرج الرخام والحلان من قبل النقارين وعمّالهم، بكتل كبيرة تدعى (القد) باستخدام أدوات الحفر والتفجير بالبارود، ويقوم نقّار المقطع بتهذيب (القد) وتكسيره إلى كتل حسب الطلب، ويساعده حمّال المرمر ويسمى باللهجة الموصلية (حمال الفغش)، القوي البنية الذي يقوم بنقل الكتل الثقيلة وتحميلها في عربة النقل. والنوع الثاني يسمّى (نقّار ولايي)، أي نقّار يعمل في المدينة (الولاية)، وهو الذي يقوم بتقطيع وتهذيب (القد) والكتل الكبيرة على وفق قياسات خاصة، ويصقل سطح القطع ويزخرفها حسب المطلوب، ثم يساعد البناء في تثبيتها في مكانها. والثالث يسمى (شقّاق) وهو الذي يشقّ حجر الحلان والرخام بالمنشار.
يبدأ دور النقار بعد إكمال الأسس في البناية، فيقوم بتهيئة المرمر الذي يكسو أسفل الجدران (الإزار) لحمايتها من الماء والتآكل ومنع دخول الفئران إلى داخل المنزل، والمرمر الخاص بالحيطان والأبواب والشبابيك والدواليب (الخزانات الجدارية). ويتطلب هذا شقّ (القد) بواسطة منشار كبير خاص إلى ألواح رقيقة بمساعدة (شقاق المرمر).
يهذب النقّار سطوح القطع بالشوكة، وينحت سطوحها بالقدوم، بمهارة فائقة وكأنه ينحت قطعة من الخشب، فتصبح مستوية أو محدبة، وقد يصقلها بعد ذلك بالمبرد إن طلب منه ذلك. ويقوم النقار الماهر بنقش أحد سطوحها، بأدوات النقش بحفر أخاديد طويلة ونتوءات بارزة، وتسمى هذه العملية (التقحيف). وينحت بزخرفة على الأحجار أعلى باب مدخل المنزل، برسوم قد تتشابه في الكثير من المنازل، مثل رسم أسدين متقابلين أو عقرب تمنع العين الحاسدة أو خطوط عمودية بارزة.
يعدّ النقّار الألواح التي تركّب فوق ركني الأبواب والشبابيك، والمصطلح على تسميتها (قاغيش) ويزخرفها حسب الطراز المطلوب من قبل صاحب المنزل، ويوجد أنواع من هذه النقوش يطلق عليها (قسّامي – نابين ومفتاح - دور - عدل – رومي – قاخمة). ثم يعد الأعمدة (الدنك) والأقواس بينها والتي تكون بسيطة بدون زخرفة، أو بزخرفة تشبه ورقة العنب تسمّى (قندلة).
يُعمل من الرخام الأبيض أو الحلان فضلاً عن استخداماتهما في البناء (المزمّلة والانجانة، وسندانات الزهور، وجاون دقّ الكبّة، وشواهد القبور، ولعبة الحالوسي وأحجار الغسيل القديمة. ومن الرخام الأزرق فرشة تدوير الخبز، ومنابر ومحاريب المساجد والجوامع، والسلالم (الدرج) في المنازل، والكوة والكبش الذي يبنى في مقدمة الإيوان وتحت الكوشك البارز على الطريق).
الأدوات والآلات التي يستعملها النقار الموصلي وبجانبها لفظ الكلمة باللهجة الدارجة الموصلية.
1. المنشار الكبير (ميشاغ كبيغ): وهو منشار فولاذي قوي، يتراوح طوله بين 2.5 إلى 2.75 متر، وعرضه عشرة سنتمترات تقريبا، ويثبت بصورة عمودية وسط إطار خشبي متين مستطيل، بواسطة قطعتين من الحديد، تسمى الواحدة منها (قفيص)، وفي أحدهما يوجد لولب (برغي)، لجعل المنشار متوترا وتركز في نهاية (البرغي) السائبة، خشبية تشد الى أطار المنشار وتسمى هذه الخشبة (يد المنشار)، هذا المنشار لشق المرمر وحجر الحلان، ويقوم بعملية الشق اثنان من الشقاقين بحركات سحبا ودفعا على القطعة بصورة عمودية.
2. المنشار الصغير (ميشاغ زغيغ): ويشبه منشار النجار، ولكنه أثخن واصلب معدنا وأسنانه خشنة ويستعمل لحفر أخاديد طويلة في قطع المرمر عند (تقحيفها)، أو لقطع أجزاء صغيرة من قطع المرمر عند نقشها.
3. المخل: وهو عتلة فولاذية معروفة، تستعمل لزحزحة قطع المرمر الكبيرة التي تسمى (القدود)، وفصلها عن حجر المقطع (الفص)، ويستعمل لرفع احدى نهايتي(القد) لتوقيفه بصورة عمودية. ولا يستعمل النقارون إلا المخل الغليظ القوي، الذي لا يقل طوله عن المتر.
4. مخل الطوب: ويكون أطول من المخل العادي واقل غلظا، ونهايته حادة اعرض من قطره ويستعمل لحفر حفر عميقة ضيقة في (الفص) لتفجيره بالبارود، وطول هذا المخل أكثر من متر ونصف.
5. القدوم (قدومي): وتشبه قدوم النجار إلا أنها أكبر وحافتها اعرض وتستعمل لنحت المرمر والحلان.
6. الشوكة (الشوكي): وهي أداة حديدية ثقيلة لها طرفان هرميان يستدقان تدريجياً الى أن تصبح حافة كل طرف رفيعة حادة، وتستعمل لتشذيب جوانب قطع المرمر بصورة أولية خشنة.
7. الزاوية (الزيوي): وهي أداة حديدية لها ضلعان يشكلان زاوية قائمة، وطول الضلع الطويل ستة انج وطول الضلع القصير أربعة انج (عقدة).
8. المتر ويستعمل المتر الخشبي الذي لا يلتوي بسبب الرطوبة، ويقسم الى عشرين قسما وكل قسم يسمى (عقدة).
9. القطاع : أداة فولاذية لها طرفان أحدهما طويل أسطواني والأخر هرمي يستدق تدريجيا الى أن ينتهي بحافة حادة عرضها سنتمتر. ويستعمل القطاع لحفر حفر طويلة في (الفص) وتقطيعه.
10. ينكينات: مسامير فولاذية ضخمة مربعة يزيد وزن الواحدة على الكيلوغرام، وطوله بين ثلاثة عقدة وأربعة عقدة. وحافة اليكنين حادة تشبه حافة (مخل الطوب).
11. أوراق الحديد: قطع حديدية مستطيلة الشكل يبلغ طول الواحدة ثلاث عقدة وعرضها اقل من عقدة وسمكها نصف سنتمتر وتستعمل مع (الينكينات) وتوضع في الحفر الطويلة التي تحفر بالقطاع لتقطيع (الفص).
12. الشاطوف: أداة ثقيلة تستعمل لسحق الأحجار الكبيرة. ويستعمل (الشاطوف) أيضا لدق (الينكينات) عند تقطيع (الفص).
13. السيخ: قضيب فولاذي طويل بغلظ الإبهام احدى نهايته رفيعة والأخرى مثقوبة تشبه الحلقة.
14. المعلقة: قضيب حديدي طويل ارفع من السيخ، نهايته مطروقة بشكل قرص يتعامد مع القضيب وتستعمل لرفع فتات المرمر من أسفل حفرة الطوب أثناء حفرها بالمخل.
15. البزوني: وهي الالة الرافعة المعروفة ب (الجك) الذي يستعمل لرفع جانب سيارة الحمل عند حدوث عطب أو انفجار في احدى دواليبها. ولم يعرف النقار الموصلي هذه الالة ألا بعد الحرب العالمية الأولى وبدأ يستعملها لتوقيف (القدود)، وتتكون من سلك معدني طويل يلفّ بعتلة على بكرة كبيرة وفي رأسه كلاّب (جنكال) حديدي ترفع به الأثقال بعد إمراره فوق بكرة سحب معلقة في ثلاث أعمدة خشبية قائمة فوق مكان البناء.
16. قلم الحديد: إزميل فولاذي مربع أو مدور نهايته مستقيمة حادة، بعرض القلم نفسه ويستعمل لنقش المرمر بضرب نهايته غير الحادة مطرقة وطوله أربع عقدة تقريبا.
17. الحكاكي: إزميل رقيق عريض نهايته مستقيمة حادة، وله مقبض خشبي ويستعمل لصقل المكانات
الضيقة العميقة التي لا يمكن صقلها بالقدوم ويستعمل أيضا للنقش و (التقحيف).
18. الكغد: ويسبه (الحكاكي) إزميل رقيق عريض نهايته مقوسة ويستعمل لصقل السطوح المنحنية الضيقة وللنقش و (التقحيف).
19. الجغادي: أداة فولاذية صغيرة لها مقبض خشبي، تستعمل ل (تجفيت) أسنان المنشار. وكلمة (تجفيت) تعني إمالة أسنان المنشار يمينا ويسارا بصورة متتالية، لتصبح حافة المنشار عريضة وبذلك يسهل تحريكه عند شق المرمر.
20. المبرد (المبغد): ويشبه مبرد الخشب ويستعمل لصقل المرمر بعد نحته بالقدوم.
21. الدبورة: مطرقة كبيرة الحجم تستعمل للتقسيم.
22. المبرد الصغير: ويستعمل لحد أسنان المنشار.
يشرفني أن يكون والدي هو أحد النقارين والبنائين، الذين عملوا في هذه المهنة، وأتذكر المواقع التي اشتغل فيها منها محطة قطار الموصل، ساحة التحرير في بغداد وحديقة الأمة، عدد من الكنائس في سهل نينوى، قصر الملك فيصل الثاني في سرسنك، بالإضافة إلى الأبنية التي شيدتها هيئة المصايف والسياحة في مصيف صلاح الدين. ومطرانية السريان الكاثوليك في حوش البيعة الموصل. ومدينة ربيعة على الحدود العراقية السورية.
ثم انتقل بالعمل مع أصدقائه النقارين للعمل في مدينة الحضر التابعة لمديرية الآثار العامة، وأتذكر جيدا كم كان سعيدا بعد إعادته وتركيب تمثال ملكة الحضر، وإعادة مع أصدقائه النقارين عدد من أقواس قصور الحضر، وكذلك عمل في إعادة سور مدينة الموصل القديمة.
من النقارين المسيحين وتناقلها أولادهم من بعدهم، منهم: أيوب رحيمو، وسليمان ملكون، وفرمان دوز، وتوفيق الدهين، وابلحد بلو، وجرجيس هندوش، وعبد الأحد ساعور، وعزيز دمار، وخضر أيوب، وبتي نعيسي، وابلحد معمار باشي، وبهنام حنا شموني، وخضر عبادة الذي عمل في أثار الحضر، وكان من أشهر النحاتين واستطاع إصلاح عشرات التماثيل المكسورة.
ومن النقارين والبنائين كامل أيوب كصكوص وأخيه خليل، والنقار والبناء نجيب فندقلي، والنقار سالم فندقلي، والبناء عبودي طنبورجي. وفي أواخر القرن التاسع عشر قتل خمسة نقارين بحادث انهيار جرف المقطع عليهم، ومن الذين قتلوا في حوادث المقاطع أو في المدينة: عبد المولى كشحي. سلوم عبادة. داود ديس. شاد قندي. رحو عبادة. متي صوفيا. فاضل خاتون. جميل صهيون. منصور القرشي. رحم الله جميع النقارين الذين توفوا، وتغمدهم الله بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جناته.
وللحديث تكملة في الجزء الثاني.
المصدر
بطرس بهنام، صنعة نحت المرمر في الموصل، مجلة التراث الشعبي، بغداد
أسحق عيسكو، صناعة الرخام في الموصل، مجلة التراث الشعبي
أزهر العبيدي
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://www.algardenia.com/mochtaratt/58944-2023-05-30-17-47-01.html
875 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع