أيام زمان.. الجزء٣٦-الحلاقون
مهنة الحِلاقة تعني قصّ الشعر، يقوم بهذه المهنة شخص يُدعى المُزيّن أو الحلاق، لأنّه يقوم بتزيين الشخص وتجميله، يسلم الزبون راسه مطمئناً لسلاحه الأبيض، حتى يضع عليه ملاية من القماش تنتهي عند نهاية الرقبة، فيبدأ الحلاق بمقصّه يجزّ الشعر، كما لو أنه في حديقة طال عشبها، واستحقّ حصاده، ويبدأ بالحديث وسرد الأخبار والقصص عن المسافرين والغائبين، عن المطلقين والمطلقات، عن المتخاصمين وعن الراحلين والقادمين الى المحلة والزقاق،
وكثيرين يتذكرون قصة الحلاق الثرثار وقصته، التي كانت ضمن المنهج في كتاب القراءة للصف الرابع أو الخامس الابتدائي، في الخمسينيات من القرن الماضي، وقصته عندما دخل صبي حانوت حلاق، أيام الحرب الروسية اليابانية، وبدأ الحلاق يحلق راس الصبي حلقا غريبا، فلما انتهى الحلاق من أشكاله الهندسية ورسومه الجغرافية التي حفرها في شعر الصبي، التفت إلى زواره مشيرا إلى شعر الصبي قائلا:
وقد سارت السفن الروسية من هذا الساحل ففاجأها الأسطول الياباني، وضربها هنا الضربة القاضية. وضرب الحلاق رأس الصبي بقبضة يده. فقام الصيني يصرخ غضبًا وأسرع بالهرب ماسكا رأسه، إلى خارج الحانوت، وهو يلعن السياسة والسياسيين والروس واليابانيين والناس أجمعين.
تعد الحلاقة إحدى المهن التاريخية الضاربة بجذورها لعقود طويلة، لكنها اختلفت وتطورت بتطور المجتمعات، في الماضي كان الحلاقون يتخذون بعض الساحات في الأسواق مقراً لهم، يفرشون الأرض بأمتعتهم البسيطة، ينتظرون الراغبين في حلق شعورهم، كما يقوم عدد منهم بالتجول في الأسواق، ربما يحصلون على أحد الزبائن. ومن عادة الحلاق أن يتجول في القرى والقصبات البعيدة عن منزله، وربما يبقى الحلاق أكثر من أسبوع أو أسبوعين خارج منزله، وهو يتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن لقمة العيش، التي يقطفها من رؤوس الناس.
ويحمل الحلاق صندوقاً خشبياً صغيراً، يضع فيه عدته أثناء تجوله، وتتكون العدة من موس يطوى، وقطعة مستطيلة من الجلد عرضه ثلاث أصابع وطولها ذراع واحد، يسن عليها الموس وتسمى (قايش)، وإناء صغير من المعدن، وقطعة من صابون الحلاقة، وفرشاة للتنظيف، وفوطة أو قطعة من القماش، ومرآة صغيرة، ومكانة حلاقه يدوية، ومشط، وكولونيا (عطر) ومقص أو أكثر.
بالإضافة إلى أدوات الحلاقة المشهورة والتي مازالت مستعملة إلى يومنا هذا، فأن الحلاقين أيام زمان كانوا يستخدمون أدوات أخرى، منها الأبريق الذي يصنع من النحاس الأصفر، صغير الحجم ذو يده ويستعمل لغسل رأس الزبون بعد الانتهاء من الحلاقة. والبشطمال لونه على الغالب احمر وبنقوش مختلفة، والجمع بشطمالات يستعمل بفرشه على صدر وجسم الزبون من الأمام، وربطه حول رقبته لجمع الشعر المتساقط أثناء الحلاقة.
والرقبة(الركبة) صحن على شكل قوس يشبه حذوة الحصان الى حد كبير، مصنوع من معدن النحاس الأصفر، فتحته الداخلية مقوسة تسمح بدخول رقبة الرجل الراغب بغسل شعره، ولا تسمح بخروج الماء المتساقط عليها بل تسوقه الى وعاء لجمع الماء، وكذلك السطل أداة لنقل الماء مصنوع من صفائح الجينكو صناعة محلية. وصابون أبو الأنكر قوالب أسطوانية الشكل بيضاء اللون، تستورد من الخارج تستعمل لحلاقة الوجه (اللحية) فقط،
وصابون ركي نوع من الصابون يصنع محليا على شكل قوالب مكعبة الشكل، يستعمل لغسل الرأس والأبدان. وحجر المسن، وهي قطعة صخرية طولها نحو نصف قدم واحد وعرضها ثلاث إنشات، تستعمل لحد أمواس الحلاقة، واللكن أداة معدنية من الصفر تستعمل لجمع الماء بعد الغسيل.
يجلس الزبون الراغب بحلق رأسه على الصندوق الخشبي، أو يفترش الأرض بينما يجلس الحلاق بجانبه أو خلفه، متكئاً على أصابع رجليه، ممسكاً بالموس أو ماكينة الحلاقة اليدوية ليقوم بقص شعره، بعد أن يبلل الرأس بالماء وربما الصابون أيضاً.
في العراق تأسست أول جمعية للحلاقين في عام (1929)، وقد أسسها مجموعة من الشباب الحلاقين، وهي أول جمعية مهنية ثم تلتها جمعية الصناعيين ثم جمعية البقالين، وقد أسهمت الجمعية في كل التظاهرات التي خرجت ضد الاحتلال الإنكليزي، كما شاركت في الإضراب ضد شركة الكهرباء، التي كان يديرها الإنكليز آنذاك. ولان الجمعيات كانت مراكزاً للوعي الوطني، فقد سارعت السلطة الى حلها وأبعاد أصحابها، وكان من أبرز ما حققته الجمعية هو إنشاء صندوق مساعدة الحلاقين العجزة وكبار السن.
لم تقتصر أعمال المزين على حلاقة شعر الرأس واللحية وتعديل الشوارب، بل تتعداها الى أعمال الطبابة، فمنهم من يداوي الجروح ويسعف الحروق، ويقلع الأسنان، كما يقوم بطهور الأولاد (ختانهم)، واخذ الحجامة وغيرها. وكان يعالج الدمامل بالأدوية العشبية (كلبخة حب دبج معلوج) أو ياخة أو بلبخة صفار البيض والكرمندي أو بلبخة بذور الكتان، واذا لم تنفع الوصفات العشبية في تفجي الدملة فلا بد للمريض مراجعة الحلاق الذي يقوم بفتحها، أي بإحداث جرح في المكان الملتهب (لإخراج الجراحة) ، أو بتركيب دودة العلق حيث تتعلق تلك الدودة على الدملة وتبدأ بامتصاص ما فيها من قيح حتى تنتفخ ثم تسقط من تلقاء نفسها، وغالبا ما يعاود أصحاب هذه الحرفة (وأغلبهم من الحلاقين)، بعصر الدودة عصرا خفيفا لإخراج ما امتصته من أحشائها ومنهم من يضعها في إناء مملوء بالرماد حتى تقئ ما امتصته من قيح ليستعملها مرة أخرى.
وكان في تلك الفترة الزمنية أنواع من حلاقة الرأس:
جلد (بالموس) أو زيان عرب: وهو حلاقة جميع شعر الراس بالموس، ومنهم من يسمى الراس المحلوق بالموس (صلبوخة)، وهذا أسلوب حلاقة معظم الكسبة، أما الصغار والصبيان الذين يكثر في رؤوسهم القمل والصواب والذي لا يفيد معه كل أساليب النظافة، فيرسل الى الحلاق لجلد شعر راسه بالموس (ذكرا كان أم أنثى) تخلصا من القمل. ونوع أحر للحلاقة نمرة صفر (سولجري) أي حلاقة جميع شعر الراس بالمكينة الناعمة، وهذا من أساليب حلاقة الرجال كبار السن الذين يعتمرون الشماغ. وكذلك حلاقة قلم (خاص الصبيان والصغار) يحلق الشعر حلاقة اعتيادية كحلاقة التواليت بالمكينة ثم يخفف بالمشط والمقص، إلا أن الكذلة الأمامية فوق الكصة (الجبين) تقص قصا مستقيما بواسطة المقص، وإذا كانت حلاقة الرأس بالمكينة فيقص القلم بالموس. وأيضا حلاقة الكذلة هذا الأسلوب من الحلاقة خاص لصبيان والصغار، يحلق جميع الراس بمكينة على أن تبقى خصلة من الشعر في مقدمة الراس تسمى كذلة، ومنهم من يسميها جعجولة أي (كعكولة). وكان هناك نوع أخر يدعى مجيدي أو (أبو الطرة)، يحلق في منتصف الراس وعلى (الكوكة) طرة بحجم المجيدي (أي دائرة أكبر من حجم العملة العراقية القديمة ذات مئة فلس بالموس وتكون محاطة بشعر دائري ويحلق باقي شعر الراس بالموس. أما زيان عسكر فهو حلاقة شعر الرأس كافة بواسطة ميكنة خشنة (نمر أربعة) ومنهم من يترك في وسط الرأس، دائرة لا يتعدى حجمها حجم المجيدي محلوقة بالموس، والحلاقة بمكينة نمرة أربعة كانت من حلاقة طلاب المدارس ومراتب القوات المسلحة.
ونوع أخر هو حلاقة بروص أي حلاقة صفاح الرأس، (جانبي الرأس وفوق الأذان) بمكينة ناعمة، ويتدرج باقي الشعر بالمقص، وهذا أسلوب لإخفاء الشيب، يحلق به من يريد إخفاء شيب شعر رأسه بدون صبغ، ويسمى بروص أو أمريكي. وكذلك حلاقة العرقجين وهي خاص للصبيان والصغار، حيث يبقى الشعر فوق الراس حتى حدود العرقجين، ويحلق الباقي بالموس. وكذلك حلاقة درجة وزلف، عبارو عن زيان خاص (تقليعة) بالأولاد الصغار حتى سن السابعة، لا سيما المدللين منهم، تقص الكذلة قصا مستقيما فوق الحاجبين بقليل كقصة القلم، ثم يقص الشعر بموازاة الحاجب على شكل ضلعي مربع، وتسمى درجة نسبة الى درجات السلم، على أن يكون الزلف طويلا نسبيا، وقد انقرض هذا الأسلوب من الحلاقة منذ مدة طويلة. أما حلاقة نوع التواليت والتي لهج بها العراقيين في الجيل الماضي كثيرا، وما زالت أغنيتهم التي يرددونها كثيرا.
واكف على الكنتور بيده جريدة... ايمشط بالتواليت حسباله أريده
وهناك نوع كان يسمى (برجم)، وهي الحلاقة الأنيقة الخاصة بالشباب والأفندية، يخفف شعر العلبة (العلباء) والزلفين وقص الشعر الزائد بالمقص ثم تمشيطه، ومنهم من كان يرغب بفرك الشعر من النص (الوسط) أو من أحد الجانبين، ومنهم من يرغب بتمشيط الشعر إلى الخلف.. ثم ظهرت مودة إطالة الزلفين وقصهما قصا مائلا. وأما حلاقة أبو الطوبة: وهو أن يترك الشعر يطول نحو الرقبة. وأخيرا الهاي لايف: يكون مع الشعر زلف الى مسافة تحت الإذن. واشتهرت في فترة زمنية حلاقة الخنافس: وهو إطالة الشعر (كرفش) مع زلوف طويله وأشبه بشعر النساء.
كان الحلاق يرتدي ملابس (الباش بزغ)، يعتمر الجرواية أو الشماغ مع الصاية أو غيرها حسب الموسم، ويحتذي اليمني الأحمر (نوع من الأحذية حينها) أو القبغلي، فإذا انتهى الحلاق من قص شعر الزبون، وقف تجاهه وبدأ يسوّي شعر اللحية والشاربين، ويزيل ما يعثر عليه في الوجه من الشعرات الشاذة، ويقوم بعد ذلك بتسوية الحاجبين بشكل يجعلهما تاميّ التقوس، وزيادة في النظافة فإنه كان يقص الشعيرات الموجودة داخل الأنف، ثم يقص بعد ذلك ما يجده من شعر حول الأذن، وكل هذه العمليات تتم بالبطء، لأن الأحاديث والمحاورات تتخللهما حتماً.
والحلاق الذي لدية محل أي غير متنقل أو يجلس على قارعة الطريق، معه صبي صغير، يقوم بعملية تنظيف المحل، وحمل اللكن عند غسل رأس الزبون وتقديم المناشف أو الوزره (الفوطه)، واهم واجب لديه هو أن يقول (نعيما عمي) ليقبض الإكرامية، في النهاية وعقب الانتهاء من الحلاقة، يقوم صبي الحلاق بتقديم مرآة إلى الزبون ليرى فيها نفسه، ويمعن النظر في حلاقته ليحكم بما إذا كانت قد جاءت وفق المراد، فإذا لم يكن فيها ما يوجب الانتقاد قام الحلاق بتسوية شعر الزبون، ثم يقوم بتغطيته بالطربوش أو العمة، وهذه العملية تستغرق عادة من عشر دقائق على نصف ساعة، ثم يتطور عمل الصانع بعد مده من الزمن ليكلفه الأسطة بحلاقة وجه أحد الزبائن غير المهمين، وبعدها يتطور لحلاقة رؤوس الأطفال وخاصة في العيد، وعند تمرسه في المهنة يشهد له الأسطة، بانه أصبح حلاق ويبلغ مرحلة الاسطوات في مقهى الحلاقين، ليكون عندهم علم بذلك.
فالحلاق قديما كان وجوده ضروري ولا غنى عنه في مجتمع أسلافنا، يقوم بعدة أدوار ووظائف ويعتبر الحلاق وكالة أخبار وذاكرة موثوقة بتفاصيل الأخبار وسير الناس، ولذلك كان مقصد كل من أراد معرفة خبر من الأخبار، ويؤخذ عليه بكثرة الكلام والثرثرة، ويضرب المثل بالحلاق، في الفوضى وعدم النظام في ترتيب أداوت عمله بدكانه، فكان الناس يشبهون كل بيت تسوده الفوضى وعدم النظام بدكان الحلاق.
مصادر: وكالات – تواصل اجتماعي – نشر محرري الموقع
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://www.algardenia.com/mochtaratt/56932-2022-12-29-11-27-58.html
2161 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع