أيام زمان - الجزء الرابع و العشرون / الطربوش
الطربوش أو كما يسمى في العراق (الفيس)، من أغطية الرأس التي سادت في القرون الماضية، خاصة في العهد العثماني، أصل كلمة طربوش فارسية، حرفت إلى سربوش، أي غطاء الرأس، ثُم حُرفت إلى شربوش وطربوش. (وسر بمعنى الرأس، ويوش بمعنى غطاء)، والطربوش كالقبعة أحمر اللون أو من مشتقات اللون الأحمر، بين الأحمر الفاتح والأحمر الغامق أو أبيض اللون، وهو على شكل مخروط ناقص، تتدلى من جانبه الخلفي حزمة من الخيوط الحريرية السوداء، شاع استعماله في بداية العصر الحديث في بلاد العراق والشام ومصر والمغرب.
اختلف المؤرخون في أصل نشأته، فهناك من يقول إن جذره من المغرب العربي، ومن ثم انتقل إلى الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، حيث سافر الأندلسيين وعلى رؤوسهم الطربوش، وقدموا إلى تركيا بعد سقوط الأندلس، وتقول روايات تاريخية أخرى بإن أصول الطربوش، بدأت بالظهور مطلع القرن الثامن عشر في الدولة العثمانية، حيث سافر الطربوش منها تلبيةً لإرادة السلاطين العثمانيين إلى بلاد الشام، والبلدان العربية، وبينما يرى آخرون أن الطربوش أصله نمساوي، ومن يرى أنه موروث جاء من بلاد البلقان أو أنه يوناني الأصل أتى به الأتراك إلى الدول العربية. فإن تلك الآراء ووجهات النظر، تبقى واحدة في نسيجها ودلالات حبكتها التي تعنى بقصص وجماليات رمز مهم في التاريخ العربي الحديث، بات لا يستعمل إلا نادرا. وكذا أوشكت مهنة صناعته على الانقراض.
وتقول المصادر التاريخية، إن انتشاره في المشرق والمغرب، كان اتباعًا لتعاليم السلطان العثماني محمود الثاني، الذي أصدر فرمانًا مختصًا بلباس رجال دولته ورعيته، حيث ألزم السلطان العثماني رعيته باعتماد الطربوش غطاءً رسميا للرأس، ويذكر أنه كان أول من وضع الطربوش من بين سلاطين الدولة العثمانية، وصار رمزًا حينها للهوية العثمانية، تعددت الآراء وتباينت حول أصل نشأة الطربوش، لكنها لم تحجب أهميته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي اكتساها في فترة لا يستهان بها من تاريخ العالم.
ويقال إن والي بغداد الذي قضى على حكم المماليك، علي رضا باشا، فرضه كغطاء رسمي للرأس في العراق سنة 1834، حظي الطربوش العربي في أيام زمان بأهمية كبرى، وارتبط وجوده على رأس الرجال بالوقار والانضباط والرسمية، حيث دخل الطربوش اليوم مجالات احتفالية عدة، ولم يعد يقتصر على اللباس الرسمي للرجال، وهناك طرابيش نسائية تلبسها بعض النساء العربيات لتكمل بها زيها التقليدي، وطرابيش الأطفال التي ترافقهم بدايةً من احتفالات الختان، وحتى آخر فصل دراسي، قبل أن يصبح اليوم صناعة موسمية هجرها أهلها للبحث عن مهن أخرى أكثر ربحًا.
تقبع صناعة الطربوش اليوم في زوايا النسيان، وغطّاها غبار الزمن، وأصبح ترويجها مرتبطًا بالمواسم السياحية، في العديد من الدول التي كانت في زمن مضى، تملك مصانع مهمة على مستوى العالم العربي، وتم ضمّها إلى فئة الصناعات التقليدية والتراثية، ولكل بلد طربوشها، ومتعارف عليه من قبل الجميع، لكن ألوانه وأشكاله اختلفت من بلد إلى آخر، ففي سوريا ولبنان وفلسطين، كان الطربوش طويلًا وبحمرة أشد مما هو عليه في الدولة العثمانية، أصبح الطربوش أحد مكونات الزي الشعبي، لبعض الدول في منتصف القرن العشرين، وذلك تزامنًا مع اقتراب انتهاء الاحتلال العثماني للمنطقة، ويروى أن كلّ شخص كان يضع عليه لَفّات مختلفة، حسب مكانته الاجتماعية، فكان بعض الرجال يرتدون الطربوش ويلفونه بقماش أصفر مطرز، فيما كان المسنون يرتدون الطربوش المصري هو الأكثر طولاً، إذ يبلغ طوله 17 سم. ويتميز بأنه دائري الشكل. وآخرون فضلوا طربوشًا قصيرًا كطربوش المغاربة، وحوله لفة سوداء مقصبة، يسمى باللغة الإنجليزية والفرنسية والتركية واليونانية بـ (FEZ) يعني مدينة فاس المغربية. ويعتبر استخدامه حالياً مقصوراً على مناطق محدودة، وعلى بعض الأشخاص وربما رجال الدين الذين يضيفوا العمة البيضاء أو الملونة السادة أو المنقوشة حول الطربوش.
يُجمع أغلب صانعي الطربوش التقليدي في العالم العربي، على أنهم توارثوا هذه الحرفة عن أجدادهم، والتي لم تكن في السابق حرفة لصغار الصنائعية، هناك نوعان من الطربوش بعضها يصنع من الصوف المضغوط (اللباد)، أو من الجوخ الملبس على قاعدة من القش، أو الخوص المحاك على شكل مخروط ناقص، وصناعة هذا النوع من القبعات الفريدة يتطلب جهدًا كبيرًا، فهي صناعة يدوية في كل مراحلها، إذ تبدأ بتفصيل القماش وتصميمه طبقًا للنموذج المطلوب تصنيعه، لكن تفاصيل حياكته تتنوع حسب البلد المصنعة له، حيث تكون أولى خطوات الحياكة بالتبطين، ومن ثم الصمغ، فالكبس، ويتم تبطين القالب الورقي عبر تغليفه بقطعة من القماش الأحمر، التي تم طلاء داخلها بمادة صمغية، ومن ثم يوضع على مكبس حديدي ساخن من أجل ضبطه، وتجفيف تلك المادة، لتأتي في الأخير مرحلة الحلي، أي وضع الزر الذي يتكون من خيوط سوداء، ويتم تثبيته عن طريق إبرة تخترق أعلى منتصف الطربوش، وعقدها من الداخل، ليصبح فيما بعد جاهزًا للعرض.
وبحسب الخبراء يعرف للطربوش العربي ثلاثة أشكال، وهي المصري والتركي والمغربي، حيث يصنف المصري الأكثر طولًا بينها، ويتميز بأنه دائري الشكل، ويكون أسفله أعرض من قمته، أما التركي فهو مطابق لشكل المصري، ولكنه أقل طولًا، ويبلغ طول الطربوش المغربي حوالي نصف طول المصري كما يتشابهان في الشكل. وأما نوع القماش الذي يستعمل الآن فاسمه ميلتون، وهو صوف من الدرجة الثالثة، والأدوات والمواد المستخدمة إلى جانب القماش، المستعملة في صناعة الطربوش، فهي عبارة عن قطعة من الخوص وشريط من الجلد ومادة النشاء التي تستعمل للصق الخوص بالقماش، إضافة إلى الزر، وخاماته تكون من الحرير أو البلاستر. وأجود أنواع الزر هي من الحرير البيروتي، ويكون لونه أزرق فاتحا أو أزرق غامقا أو أسود، ولم يعد يستخدم منه سوى الأزرق والأسود.
هناك أربعة موديلات وهي، بيبيهات وأطفالي ورجالي والعمة. وأما الخوص فيصنع في الورشة، على شكل قالب طربوش، ويخاط شريط الجلد بالطربوش من الداخل يدويا، إذ يستعمل كمانع للعرق. وبعد الانتهاء من تصنيع الطربوش، تأتي عملية الكي على ماكينة الصناعة، حيث يكون قالب الماكينة ساخنًا، وموضوعًا تحت بريمز نفط لتسخينه. وهناك بخاخة تستعمل أولاً في مرحلة وضع الطربوش على القالب، حتى يكون ليناً، وبعد الانتهاء من الكي يركب الزر.
عند اعتلاء محمد على عرش مصر 1805 ، كان يلبس العمامة التي كانت زيًا متعارفًا عليه عند الأعيان بينما المماليك يلبسون القاوون وهو القلنسوة المغطاة بالشاش، ليميزوا أنفسهم عن المصريين، ومع الوقت تطور لباس الرأس، فابدل محمد على عمامته بالطربوش المغربي وهو يشبه طربوش مشايخ العرب في ذلك العصر ، وإن كان أضخم وأثقل وزنًا ، ومن دون خوصة بل كانت مكانها طاقية من الحرير ، ويبدو أن الفكرة في ارتداء الطربوش كانت سياسية أكثر منها اجتماعية، لإنه كان زيًا رسميًا لتركيا في ذلك الوقت وكان سلاطين تركيا يرتدون الطربوش ، وبحكم إن مصر ولاية عثمانية فأصبح الأولياء يتشبهون بسلطان الباب العالي في ارتداء الطربوش.
وكانت مصر تستورد الطربوش من الخارج، إلى أن أنشئ الباشا في إطار برنامجه للتصنيع ورشة صنع للطرابيش بكفر الشيخ، واستغنتا بها مصر عن الاستيراد، وعندما حطم الغرب توسعات محمد على باتفاقية 1840 حرصوا على تفكيك مصانعه بما فيها مصنع الطرابيش، ومع مرور الزمن اشتعلت معركة الطربوش على خلفية معركة أخرى أعم وشمل بحثًا عن هوية مصر هل هي فرعونية؟ أم عثمانية؟ أم أنها تنتسب للبحر الأبيض المتوسط؟ فاكتسب الطربوش في هذا المناخ دلالة خاصة قومية باعتباره رمزًا في مواجهة قبعة الأوربيين.
في عام 1925 ألغى مصطفى كمال أتاتورك الطربوش من تركيا رسميا، وبدأ ينسحب انتشاره من معظم الدول العربية لكنه زاد انتشارا في مصر، حتى ظهر المشروع القومي، مشروع القرش 1931 والذي كان يهدف إلى جمع تبرعات من المصريين، لإقامة مصنع طرابيش محلى بدلا من الاستيراد، وتحرير صناعة الرمز من احتكار الغرب، وفى ذلك الوقت ظهرت أصوات تناهض الطربوش وتعتبره رمزا لتبعية مصر لتركيا، ومنهم الكاتب سلامة موسى ومقالاته في المجلة الجديدة، ولكن أنصار الطربوش كانوا أكثر.
وفى عام 1932 وأثناء الاحتفال بالعيد الوطني التركي، قال أتاتورك للسفير المصري عبد الملك حمزة: قل لملكك أنا مصطفى كمال وأنني أصدرت أوامري بأن تخلع هذا الطربوش من على رأسك الآن، ثم نادى نادلا وخلع السفير الطربوش وأعطاه للنادل، ونظرات الدهشة في أعين المدعوين وانسحب السفير من الحفل وغادر فورا، فحدثت أزمة دبلوماسية، وكتبت اللطائف المصورة، لقد تدخل أتاتورك فيما لا يعنيه، والمصريون أحرار يرتدون فوق رؤوسهم ما يريدون، وهدد الملك فؤاد بسحب السفير فاعتذر أتاتورك عن فعلته.
وفى عام 1958 وبقرار من الرئيس جمال عبد الناصر، ألغى الطربوش نهائيا عن مصر على اعتبار أنه رمزا للملكية والعهد البائد، فسقط الطربوش من صفوف البوليس المصري وضباط الجيش، ومن ثَمَّ موظفي الدولة، وتبع ذلك عامة الشعب بشكل تطوعي، وفى 1962 اختفى الطربوش تمامًا من الشارع المصري، وكان فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد آخر الباشوات الذين كانوا أوفياءً للطربوش.
جلال چرمگا و الطربوش في احدى مقاهي بيروت
لم يعد يظهر الطربوش إلا في أفلام السينما والمسرحيات أو المسلسلات التليفزيونية، أو في الأفراح. كما أن بعض أستوديوهات التصوير في المدن، أو الأماكن السياحية، تحرص على وضع الكثير من الملابس الشعبية القديمة من ضمنها الطربوش، حيث يحرص الكثير من المصريين والسياح على التقاط صور تذكارية به، حتى أصبح نوعًا من الفولكلور بعد أن كان إحدى سمات المجتمع المصري.
كان للطربوش دلالات واعتبارات على تموضعه، كأهم مقاييس الوجاهة والرجولة المطلقة، كما طغت مجموعة من الطقوس والمفاهيم الدقيقة بخصوصه، وحتى أنَّ جنازة الميِّت عندما كانت تُحمل على الأكتاف لا يغيب حضور الطربوش معها، في حال كان الميت رجلاً عادياً، وتظهر عمامته محمولة، عوضا عن الطربوش، إذا كان عالماً، وأيضا كان هناك لفَّة تسمى «لام ألف»، عبارة عن قطعة قماش مزركشة باللون الأصفر مع الأبيض، تحيط بالطربوش، تستخدم لغرض الدلالة على أنِّ الميِّت رجل دين، أو أنَه ذو مكانة اجتماعية رفيعة.
وهكذا شهد الطربوش رواجا كبيرا في مجتمعاتنا خلال سنين عديدة، كان فيها سيد الساحة بين مختلف أنواع أغطية الرأس الأخرى، ليتجسد كعنوان يعكس بوجه مضموني متشابك، منظومة قيم وعادات وأعراف للمجتمعات العربية في ذلك الزمن، فبعد العمامة ثمَّ العقال، جاء الطربوش، كأنَّه فاصل بين تاريخين أو زمنين، ليزين ويكلل الرؤوس لأكثر من مئة عام، وليتلاشى حضوره لاحقا، ولتبقى العمامة والعقال، أو حتى الرؤوس الحاسرة.
مهنة انقرضت منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، إلا قد يستغرب القارئ إذا علم أن أقدم صناع تلك المهنة لا يزال يمارسها حتى اليوم، ويحرص كل الحرص على الاستمرار فيها، لما تحمله من ذكريات جميلة وسيرة تاريخية، سواء للصنعة نفسها أو لمكان العمل.
المصادر:
حكايات الطربوش مصراوي
مواقع التواصل الاجتماعي، وكالات محرري الأخبار
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/51708-2021-11-30-20-42-02.html
1694 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع