أيام زمان الجزء الثامن عشر - أسطوانات جقماقجي

        

أيام زمان الجزء الثامن عشر - أسطوانات جقماقجي

   

   

في حزيران عام 1877م عرض توماس أديسون مكتشف الكهرباء، مخططاً متسخاً بالدهون قذر المظهر، وقدمه إلى الميكانيكي السويسري كرونيسي، طالباً منه أن ينفذه. أنحنى السويسري على المخطط ولم يكن سوى قمع واحد وإبرة وذراع ومقبض دوار متصل بها، عندها راهن أديسون على تسجيل صوت الميكانيكي وأذاعته، ومع أن الأخير لم يصدق ادعاءات أديسون، لكنه وافق على صنع المخطط، على شرط أن يقبل المراهنة معه على علبة من السجائر، وبالفعل أجهد الميكانيكي نفسه شهراً كاملاً لتنفيذ مخطط أديسون. وفي الموعد المقرر لاختبار الجهاز تقرب أديسون من الجهاز وقرب فمه من القمع، وأنشد بصوته الأجش أغنية شعبية كانت ذائعة حينذاك، وأضاف ضحكة على آخر الأغنية، بعد ذاك أدار ذراع الجهاز وقرب أذنه التي لم تكن تسمع جيداً من القمع وسمع الجهاز وهو يردد ذات الأغنية ثم الضحكة العالية.

        

هذه هي قصة اختراع الفونوغراف، الفكرة الأولى لأستوديوهات اليوم، ففي ذلك اليوم نجح أديسون واستقبلت دنيا الصوت والموسيقى مولوداً جديدا، وهذا الجهاز الذي سميا الفونوغراف جهاز ينتج أصواتًا سجلت على أسطوانات سمعية. وتعرف أيضا باسم الكرامافونات أو الحاكيات، ويعمل الطراز القديم بطريقة التسجيل التّماثلي. وفي هذه الطريقة يتم تخزين ما يماثل موجات الصوت الأصلي في شكل موجات مغلولة في مجارٍ حلزونية على سطح قرص بلاستيك. وبينما يدور القرص على الفونوغراف تركب إبرة تسمى السن على المجرى وتعمل الموجات في المجرى على هز السن. وبعد ذلك يتم تحويل هذه الاهتزازات إلى إشارات كهربائية يمكن تحويلها مرة أخرى إلى صوت بوساطة مكبرات صوت.
دخل الغرامافون إلى العراق في بادئ الأمر بصورة محدودة وقليلة فأقبل عليه المترفون وتدريجياً انتشر في المقاهي ثم في البيوت البسيطة، كانت العجائز يخفن منه ويقلن إنه صندوق أسود مسكون بالجان، وهناك من وقف ضده ودعا إلى تكسيره لكن وبمرور الوقت كانت له العديد من الوظائف، لعل من أهمها وأبرزها تسجيل وإذاعة الموسيقى وقراءة الكتب للمكفوفين.

                      


فلم يكن الشاب فتحي وهو من مدينة الموصل موسيقيا أو مطربا، بل مجرد مصلح أسلحة لا تعدو عن كونها بنادق بدائية قديمة مصنوعة في إسطنبول، كان يستخدمها الجيش العثماني آنذاك، وقد سعى لامتلاك أحد (الكرامافونات) كونه هاويا لسماع الموسيقى والغناء، أما كلمة جقاقجي فهو لقب مهنته، وككلمة شعبية دارجة على من يعمل في تصليح البنادق في الأسواق، وليس في الجيش فقط، وجاءت التسمية من صوت البندقية عند حشوها خلال عملية التصليح وتجربتها قبل تسليمها إلى الزبون، فهي عندما تفتح تصدر صوت (جق) وعندما تغلق (ماق) وعند إطلاقها (جي) وكان الناس يسمون مصلح الأسلحة في تركيا جقماقجي ومن هنا جاء اللقب الذي حصل عليه من إسطنبول ملازماً له حتى وفاته وللأفراد عائلته.
وكانت الانطلاقة من شارع غازي في الموصل، واقتصرت البداية على استيراد بعض المواد التي لها علاقة بالغناء والموسيقى وبصورة خاصة الكرامافونات، فترسخت الهواية لديه لجمع الأغاني، وهاجر إلى بغداد وأسس أول شركة أسطوانات في العراق، بداية تأسيسها كانت العام/1918 ولكنها لم تكن تتخصص بالفن والموسيقى والغناء وكانت تبيع أسطوانات شركة (بيضافون) دون القيام بعمليات التسجيل، التي برع بها لاحقاً ثمّ تطورت وقام ببيع الحاكي (الكرامافون) الذي يعمل بواسطة تدويره باليد، لكي يواصل الكلام أو الغناء مما نسميه في العراق بلهجتنا الدارجة " التكويك " وأجزاء أخرى من الأجهزة الكهربائية البسيطة، التي وصلت للعراق في أول بداية الكهرباء كما قام باستيراد الأسطوانات التي توضع وتركّب على الحاكي وعلى نطاق واسع، والتي بدأ الغرب بصنعها من الحجر ، وهو الابتكار الأول في عالم صناعة الأسطوانات حيث الحجر الأصم الصلد، يتفتق ويصدر الحان عذبة شجية ترخي الأعصاب، وتبعث السعادة والهناء والاسترخاء في النفوس، مثلما فطرَ قلب مالك الشركة فتحي جقماقجي، وجعله يعشق الغناء وهو الذي كان قد تمرّس بإصلاح وصيانة الأسلحة القاتلة الفتّاكة، يوم كان يعمل في الجيش العثماني يقوم بإدامة وصيانة البنادق والمدافع والمسدسات البدائية الصنع.
عمد جقماقجي الى تأسيس أستوديو تسجيل خاص بالشركة التي أسسها، وبدأ بتسـجيل حفــلات المطربين الخاصة في وقت لم يكن هنالك أي أستوديو تسجيل في العراق، عدا أستوديو الإذاعة اللاسلكية، حيث كانوا يستضيفون المطرب والفرقة الموسيقية والكورس معاً، ويتم التسجيل ومن ثم ترسل نسخة التسجيل الى معامل صناعة الأسطوانات الحجرية في اليونان، ليتم استنساخها حسب العدد المطلوب لتعاد بعدها الى العراق فتتولى الشركة تسويقها وتوزيعها.

          

انتقل مكان الشركة الى منطقة الحيدر خانه العام 1938، بعدها الى مكانها المعروف في مدخل شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي. وفي عام 1944 فتح الأبن الثاني عبد الله فرعا للشركة في منطقة الحيدر خانة (مقابل مقهى خليل) في منتصف شارع الرشيد، ثم توسعت وفتح الأبن الثالث سامي الذي كان طالبا في كلية التجارة، فرعاً آخر في الباب الشرقي عام 1951، عند مدخل شارع الرشيد بالإضافة الى فرع الحيدر خانة.
تميز المرحوم عبد الله بالتركيز على هوايته المفضلة، وهي التسجيلات والمسجلات وكان يهتم بتسجيل حفلات المطربين العرب والعراقيين، في حين ركز المرحوم سامي على تسجيل الأسطوانات وتطويرها وتصنيعها في السويد وباكستان، بالإضافة الى مد جسور تواصل مع الفنانين العرب، مثل: أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، ومحرم فؤاد، وصباح وفائزة أحمد...الخ ومع الفنانين العراقيين، مثل: ناظم الغزالي، وحضيري أبو عزيز، وزهور حسين، وسليمة مراد،...وغيرها ويحتفظ عبد الله بنسخ أصلية لتسجيلات نادرة كانت تغلط فيها أم كلثوم، فتعيد التسجيل أكثر من مرة وهي جزء من مكتبة صوتية ضخمة فيها أكثر من تسجيل للأغنية الواحدة، بالإضافة إلى الأشرطة التي تسجل الإحداث والوقائع النادرة، وهي مازالت موجودة لدى أحفاده، وقد عرضت الحكومة الكويتية عرضا لشرائها في سبعينيات القرن الماضي، إلا أن حفيد جقماقجي رفض بيعها برغم المبالغ الكبيرة التي دفعها الكويتيون إذ اعتبرها ثروة وطنية ثمينة وجزءا من تاريخ الشركة والتراث العراقي .

        

اتخذت محال جقماقجي في بداية شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي موقعا متميزا منذ سبعينيات القرن المنصرم إذ كانت مرجعا لطلبة معاهد الموسيقى والغناء في بغداد والمحافظات، وكذلك لجميع هواة الموسيقى والغناء، وألاف الأسطوانات لمختلف المطربين العراقيين والعرب المشهورين وغير المعروفين، كما كانت مرجعا لطلبة معهد الدراسات النغمية اذا كان خزينها الموسيقي هائلا وتحتفظ بأندر التسجيلات غير المتداولة.
وفي كثير من الأحيان كانت الإذاعة والتلفزيون تستعين بتسجيلات الجقماقجي، لتقديم بعض البرامج الفنية التي لا تجد لها أرشيفا في مكتبتها الحكومية، وكباقي الرموز التراثية التي اندثرت بسبب الإهمال وعدم الاهتمام من قبل المؤسسات الرسمية المعنية، لم تستطع آخر بقايا أول شركة تسجيل في العراق، من مقاومة رياح التجدد في تقنيات علم التسجيل، وبروز أقراص السي دي وأنظمة البلوتوث وغيرهما من الوسائل الأخرى، لكن السبب الحقيقي و الرئيس في تلاشي شركة الجقماقجي للتسجيلات هو لامبالاة القائمين على المؤسسات التراثية، وتركها لوحدها تواجه مختلف التجاوزات والمضايقات ما جعلها تغلق أبوابها في منتصف التسعينيات، ولم يبق منها سوى الاسم الذي مازال عالقا في أذهان محبي الموسيقى والغناء.
وفي سنة 1948 بنى الحاج فتحي أول استديو خاص في العراق في (منطقة عكد النصارى)، وسرعان ما ذاع صيته واقبل الناس على شراء أسطواناته، وعمل على تأسيس أستوديو خاص به في منطقة البتاويين وكان هذا الأستوديو أكثر سعة وتقنية من الأستوديو الصغير الذي أنشأه أول الأمر وتم استئجاره بالتعاون مع أحد مهندسي الصوت العاملين في دار الإذاعة العراقية، وهو السيد ناجي صالح وبصحبتهما الموسيقار جميل بشير، وجذب أكثر المطربين وسجل أغانيهم بأسطواناته، التي كانت تباع بكميات كبيرة. ومن ذلك الأستوديو صدح صوت مطربي بغداد مثل محمد القبانجي، ورشيد القندرجي، وسليمة مراد، وزكية جورج، ومنيرة الهوزْوز، وانصاف منير، ورضا علي، وناظم الغزالي، وغيرهم الكثير مما يصعب حصرهم كما سجّل أغاني مطربي الريف العراقي أمثال داخل حسن، ومسعود العمارتلي، وحضيري أبو عزيز، وناصر حكيم، ولميعة توفيق، ووحيدة خليل، وزهور حسين.
بالرغم من أن العراق كان سبّاقا للكثير من الدول، العربية وغير العربية في التأسيس المبكر لدار الإذاعة اللاسلكية، وانتشار موجات الراديو وسماعها في أكثر بقاع بلاد الرافدين حتى البعيدة منها، والذي كان لا يخلو من نشر العديد من الأغاني والموسيقى الى السامعين في أوقات متفرقة، بالإضافة الى الأخبار والتمثيليات
الإذاعية والنشاطات الأخرى لكنه لم يكن بديلا ومنافسا لشركة جقماقجي وعجز عن تحويل أنظار الناس
إليها بل كان شريكا وفيا لها في تغذية أرواح السامعين وفتح آفاق عقولهم وتنويرهم، لم يكتفِ فتحي بجمع مطربي العراق ونشر إبداعاتهم الغنائية، وكان ولداه نجم الدين وعبد الله هما جناحاه الطائران الى القاهرة وبيروت ودمشق وحلب بين حين وأخر، ليجلبا أحدث الأسطوانات لأشهر المطربين، من مصر وسوريا ولبنان والتي كانت تلك الأسطوانات الحجرية تطبع في اليونان وبعض دول أوروبا، بعد أن يتم تسجيل الأصوات في تلك المدن أولا ثم ترسل الى الخارج لأجل طبعها. وقد حاز على أسطوانات سيّد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان وعبد الغني السيد ومحمد عبد المطلب ووديع الصافي وحليم الرومي مع ألحان الأخوين رحباني المجددين لروح الغناء العربي وقتذاك، ليس هذا فحسب بل اهتمت شركة جقماقجي بتسجيل أصوات خيرة المنشدين، وقرّاء القرآن الكريم والموشحات الدينية، ويندر أن يخيب أي واحد حينما يطلب أسطوانة منه حتى للمطربين قليلي الشهرة، حتى أن دار الإذاعة العراقية كثيرا ما كانت تستعين بها حينما لم تجد في أرشيفها رغم سعته، عند تقديم بعض برامجها الغنائية.
بعد وفاة الحاج فتحي مؤسس الشركة تسلم إدارتها ولده عبد الله فتحي چقماقچي، وكان مولعا بأغلب المطربين المصريين وبالأخص عبد الوهاب وأم كلثوم، واحتفظ عبد الله بنسخ أصلية لتسجيلات نادرة وهي جزء من مكتبة صوتية ضخمة فيها أكثر من تسجيل للأغنية الواحدة، بالإضافة الى الأشرطة التي مازالت موجودة لدى أحفاده وقد شهدت تسجيلات جقماقجي تطوّرا ملفتا للأنظار بعد أن آلت أدارتها الى سمير الحفيد الوفيّ للجد فتحي جقماقجي، بسبب تعلّقه بالموسيقى الغربية وبالأخص الكلاسيكية منها، الى جانب الموسيقى الشرقية والعربية على الأخص، ففي الثمانينات وصلت السيمفونيات الباهرة للعمالقة باخ وبيتهوفن وهايدن وجايكوفسكي ونقلت محبي الموسيقى الى عالم آخر لم تألفه من قبل ولم تعتدْ عليها أسماعهم فصاروا يهيمنون ببحيرة البجع والف ليلة وليلة وحلاّق أشبيلية، ومعظم سيمفونيات صانعي الموسيقى الغربية.
بعد شيوع عالم الكاسيت الصغير وانتشار أجهزة التسجيل، حيث واكبت هذه التطورات في اتساع الثقافة الموسيقية ولم تعد تقتصر على النخبة، وكانت شركة جقماقجي في الصدارة لمواكبة تلك القفزات السريعة في نشر الإبداع الموسيقي على أوسع نطاق.

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

646 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع