طاعون بغداد وفيضان دجلة

      

         طاعون بغداد وفيضان دجلة 

   

      

بغداد الرصافة والكرخ وعيون المها، بغداد ألف ليلة وليلة، حالمة بسحرها وغموضها وخيال الشعراء، بغداد العاشقة للحرية هي أغنية التمرد على كل النكبات والويلات، بغداد حيث الحضارة والأصالة، فهي عبق التاريخ، قلب بغداد موجوع مثقل بالهموم، صبرها قدس وحزنها موال بغدادي.

جاء الغزو السلجوقي بقيادة (طغرلبك)، ثم احتل العراق من قبل هولاكو الذي دخل بغداد وفتك باهلها، وأحرق المدينة وحولها الى خراب، ثم غزت بغداد الجيوش المغولية الثانية بقيادة تيمورلنك، ثم (الخروفان) الأسود والأبيض، فالصفويون بقيادة إسماعيل الصفوي، ثم العثمانيين الأتراك الذين احتلوا بغداد في زمان السلطان سليمان. واستمر حكم العثمانيين للعراق حتى سقوط الدولة العثمانية على يد القوات البريطانية التي احتلت بغداد والى اليوم تتابع الغزاة وتوالت المآسي والنكبات على مدينة السلام وبغداد لم تسقط.
ففي سنة 1831 ميلادية تحالف الفيضان والوباء واهلك الكثير من أهل بغداد، جاء الطاعون من دولة مجاورة، والطاعون هو عدوى بكتيرية حادة تنتقل عن طريق البراغيث، يعيش الكائن الحي الذي يسبب الطاعون، في القوارض الصغيرة المنتشرة بشكل أكثر شيوعًا في المناطق الريفية، وينتقل الكائن الحي إلى الأشخاص الذين تلدغهم البراغيث التي تتغذى على القوارض المصابة، أو الذين يتعاملون مع الحيوانات المصابة. وحاليًا يصيب الطاعون الذي كان معروفًا باسم "الموت الأسود" خلال العصور الوسطى أقل من 5,000 شخص سنويًّا في جميع أنحاء العالم. وقد يصبح الطاعون قاتلًا إذا لم يُعالَج باستخدام المضادات الحيوية على الفور، أكثر أشكال الطاعون شيوعًا تسبب تضخم العقد اللمفاوية وتورمها في الفخذ أو الإبط أو الرقبة، هناك نوع أشد ندرة وأكثر خطورة من الطاعون يؤثر على الرئتين ويمكن أن ينتشر من شخص لآخر.
كان عام 1830 أخر سنة للوالي الشركسي دَاودَ باشا وكانت أسوأ الأعوام في تاريخ العراق، حيث شهد في العديد من الكوارث، انتشر الطاعون خلال الأشهر الأولى من عام 1831، ، وكان قد صدر فرمان من السلطان العثماني بعزل داود باشا من الولاية ، وتعيين علي رضا باشا واليا لبغداد ولكن انتشار الطاعون حال دون ذلك، كان وباء الطاعون قد انتشر في بلاد فارس ذلك العام ، وقد سرى هذا الوباء من إيران، فمنذ شهر تموز 1830، كانت الأخبار ترد الى بغداد عن تفشي الطاعون في مدينة تبريز، وبعد شهرين بدأت إصاباته تظهر في كركوك ثم في السليمانية حتى اجتاح جميع كردستان العراق، اخذ وباء الطاعون يحصد الأرواح بشكل مخيف بالعراق ووصلت الأنباء الى بغداد عن قرى حصدت أرواح أهلها جميعاً وقبائل لم يبقى لها اثر.
وبالرغم من ذلك فان التدابير الوقائية لم تتخذ لمنع تقدمه نحو بغداد، فقد استمرت القوافل القادمة من إيران وكردستان تدخل بغداد بكل حرية، وظهرت في بغداد نهاية شتاء 1830 وفي أواخر آذار أولى الإصابات بهذا المرض المخيف، وقعت أول الإصابات في الأحياء الفقيرة ومات فجاءة في يوم واحد خمسة أشخاص في بيت واحد، وسرعان ما انتشر الوباء في المنطقة بأكملها، وفي شهر نيسان استفحل الطاعون وأصبح خارج السيطرة وكان الناس يموتون بالعشرات يومياً، وتفككت أوصال الحياة اليومية وحل الصمت المروع محل العويل على الموتى، وكانت الجثث تشاهد في الطرق والأسواق بلا دفن، لان أخر من في الأسرة قضى نحبه ولا تجد من يقوم بدفنها خوفاً من العدوى، فتوفي حتى اليوم العاشر من نيسان أي بعد مرور خمسة عشر يوماً من أول إصابة، سبعة الأف نسمة. بدء الناس بالهروب من بغداد وخلال ذلك كان الكثيرون من السكان يحاولون الفرار من المدينة، غير أن السفن النهرية لم تكن لتكفيهم، كما أن الطرق أصبحت غير أمنة بسبب انتشار أعمال السلب والنهب. وانتشرت عصابات الأوباش والسكارى وكانوا لا يتورعون عن دخول البيوت وسلب كل ما هو موجود حتى الموتى.
نصح القنصل البريطاني المستر ريج الوالي داوود باشا، أن يؤسس محجراً صحياً، ووضع طبيب القنصلية خطة للحد من انتشار المرض وقد وافق داود باشا على الخطة، لكن رجال الدين المتطرفين أصدروا فتاوى بحرمة الحجر الصحي، كونها تتناقض مع الدين الإسلامي، مما اضطر الوالي لإيقاف الإجراءات، ولما رأى القنصل البريطاني مستر ريج انه لا فائدة من المحجر الذي أقامه حول مبنى المعتمدية، اضطر القنصل مغادرة بغداد الى البصرة ومعه موظفوه، فيما هرب الوالي داوود باشا وحاشيته الى بساتين الكاظمية، حيث الهواء النقي ورغم انه أصيب بالطاعون إلا انه بقيّ على قيد الحياة.
وقد استمر الوباء بحصد النفوس حصداً حتى هلك في اليوم الحادي عشر ألف ومائتان شخص، وازداد معدل الوفيات خلال أل (ستة عشر) يوماً التي حلت بعد هذا، فبلغ في كل يوم بين ألف وخمسمائة الى ثلاثة الأف نسمة وهكذا خلت الشوارع من المارة، وتكدست فيها جثث الموتى، وعجز الأحياء عن دفن موتاهم، فحل الصمت المروع محل العويل على الموتى، وزاد الأمر سوءاً ندرة الطعام، ووفاة معظم السقاءين الذين يقومون بنقل الماء الى دور الأهالي، ومن بقي حياً منهم كان يأخذ الماء لغسل جثة أحد الموتى.
ثم جاء فيضان دجلة في الحادي والعشرين من نيسان، ليتعاون مع هذا الوباء على بغداد المنكوبة، فقد أحاطت المياه بها، ولم يكن هناك من يحكم السداد الواقعة في الجهة الشمالية، من المدينة وهي الحامية الوحيدة لها من خطر الفيضان.
وفي ليلة اليوم السادس والعشرين اكتسح النهر سداده، فأغرق الفي دار في ظرف بضع ساعات وتهدم جانب من القلعة أيضا، وفي ظرف أربع وعشرين ساعة اجتاحت المياه السراي وسبعة الأف دار، وقد انطلقت خيول الوالي داود باشا هائمة في شوارع المدينة. وفي أوائل أيار انكسرت حدة مياه الفيضان وعنفوان الطاعون، فقد أخذت مياه دجلة بالانخفاض، وتناقص الطاعون حتى زال في نهاية الأسبوع الأول منه خطر الطاعون والفيضان معاً.
وقد بدأت الحركة من جديد تدب في المدينة التي فقدت ثلثي سكانها تقريباً، غير أن جثث الموتى كانت ماتزال ملقاة في الشوارع والأزقة والأسواق تعبث بها الكلاب، فأخذ الأحياء بدفن قسم منها، وألقي القسم الأخر في النهر وكان الوالي داود باشا قد اهتم بتنظيف بغداد، ودفع مبالغ كبيرة لنقل الجثث. وقد بدأت بعض المواد الغذائية تظهر في الأسواق المهدمة أكثرها، غير أن كثيراً من المهن انقرضت بموت أربابها. أما مستقبل المدينة فكان مظلماً ظلام الحوادث المروعة التي مرت بها، لم يسلم من الطاعون الى بعض بيوت من المسيحين الذين أقاموا حواجز حول أحيائهم وقطعوا الاتصال بخارجها وكان معهم قس مبشر إنكليزي.
الكارثة الثانية حصلت في نفس أيام الطاعون هي ارتفاع مناسيب دجلة بعد ذوبان الثلوج على الجبال الشرقية وفيضان النهر،فيضان العام 1831، الذي غرقت فيه بغداد من شمالها الى جنوبها، ويومها كانت بغداد مسورة، يمتد سورها الأول من الباب الشرقي الى الباب المعظم، من جانب الرصافة إذ يبلغ عدد سكان الرصافة قرابة ضعفي سكان جهة الكرخ التي يمتد سورها هي الأخرى، من الجعيفر وخضر إلياس والصالحية، وبالرغم من عدم وجود إحصائية لسكان بغداد إلا أن التقديرات تحدد بنحو 700 /800 ألف نسمة تقريبا، خلال فترة الفيضان الأخير في العهد العثماني، العام 1831م، الذي أنتشر فيه مرض الطاعون واستمرت آثاره الى ما بعد 12عاما من انتهاء الفيضان!
يعد من أخطر الفيضانات التي حصلت في ذلك العهد، إذ صاحبه موجة انتشار الطاعون، حيث اكتسح الفضيان السداد ليلة العشرين من نيسان ، وطغى الماء على اغلب بغداد، فقد تسبب بغرق جزء كبير من المدينة ، وموت أعداد كبيرة من السكان بسبب الفيضان والهلاك، وقد تهدمت من جراء هذا الفيضان السدود كافة خاصة في جانبها الشرقي، وهلك في تلك الليلة ما يزيد عن 15الف إنسان لم يستطيعوا الهرب ليلا ، حيث تداعت اغلب الدور السكنية ، وسقطت على سكانها حوالي عشرة آلاف بيت في بغداد، وسقط جانب من سُوَر بغداد عند باب المعظم، وهدمت تكية الدراويش قرب الشيخ عبد القادر، وفي الصباح انخفض منسوب الماء بعد تسربه الى مسارب أخرى.
فضلاً عن اضطراب الأوضاع الاجتماعية في البلد، كانتشار السرقة بين الناس، وسجل أحد الرحالة عند دخولهم الى بغداد، كيف إن مياه الفيضان كانت تضرب الحيطان. وتجرف أجساد الموتى، وصارت الزوارق هي وسيلة التنقل، بعد يومين انخفض مستوى الماء وبذلك زال خطر الطاعون والفيضان عن المدينة.
قدر الرحالة جيمس ولستد والذي كان متواجدا حينها في بغداد عدد المتوفين من الطاعون والفيضان بحوالي 100الف نسمة.
في بغداد يوجد سوق يسمى سوق التجار ويعرفه كبار السن باسم السوق الجايف، (مكانه حاليا في شارع الرشيد بين الشورجة وشارع النهر) وعرف بهذا الاسم لوجود مخفر للشرطة في داخل خان النبكة، والذي مازال (الخان) قائما لحد الآن ويسمى سوق النبكة " لوجود شجرة من السدر " كانت تجمع جثث المتوفين بالطاعون في هذا المخفر حتى أصبحت جيفا، وكانت الناس تتحاشى دخوله أو تدخله مسرعة لتجتازه بأسرع ما يمكن، لأنه امتلأ موتى الطاعون واشتدت رائحة النتانة فيه الى درجة لا تطاق.
والغريب أن اللصوص انتهزوا الفرصة، فصاروا يدخلون البيوت لينهبوها دون أن يخشوا أحدا من أصحابها،لأنهم أما أن يكونوا قد ماتوا أو هم على وشك الموت.
ومن الحكايات التي تروى عن تلك الأيام، أن رجلا رأى في منامه كأن الملائكة كانوا يمرون في الزقاق الذي يقع بيته فيه ويسجلون عدد الذين يموتون في كل بيت، وقد رأى أن العدد الذي سجل عن بيته يطابق تماما عدد عائلته، ولما كان أفراد عائلته قد ماتوا جميعا ما عداه أيقن أن موته قريب.
وحين استيقظ من النوم استعد للموت، فغسل بدنه ولبس الكفن ثم تمدد نحو القبلة، وشاءت المصادفة أن يدخل في تلك اللحظة الى البيت لص، وظن اللص أن صاحب البيت ميت غير انه فوجئ به على حين غرة وهو ينهض صارخا به، فوقع اللص ميتا من هول المفاجأة.
وعند هذا أيقن صاحب البيت أن عدد الموتى الذي سجل عن بيته قد تم، فلا داعي لموته اذن، فبقي على قيد الحياة يحمد الله على نعمته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

820 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع