هل نقول وداعا لباصات الخشب ؟ !

            

          هل نقول وداعا لباصات الخشب ؟ !

  

   

                   محمد سهيل احمد

        

      

•كان الباص الخشبي والى عهد قريب رمزا لتراث وفولكلور البصرة . وكان سيرة حافلة بكل ما يتعلق بالنقل ، نقل البضائع ، نقل الركاب ، نقل توابيت الراحلين الى مثاويهم الأخيرة . سبعون عاما من العطاء تقريبا ، صار خلالها  علامة فارقة من علامات ابي الخصيب رغم ان مناطق في ضواحي البصرة عرفت بالباص الخشبي كالزبير والتنومة ، بل ان نشاطه شمل مركز المدينة أيضا لسنوات عديدة .
في السنوات الأخيرة تناقصت أعداد هذا النوع الفريد من وسائط النقل رويدا رويدا وبالتالي انكمش عدد الخطوط التي كان يغطيها نشاط هذا الباص ، ما عدا خط البصرة ـ السراجي وما بعدها بقليل .
اخيرا توقف هذا الخط عن نقل ركاب منطقة السراجي القادمين الى البصرة القديمة او المنطلقين منها مرورا بمنطقة سيد عدنان والسنيدية ومفرق السراجي وهكذا صار من النادر مشاهدة هذا الناقل الفريد من نوعه على طرقات المدينة . ولعل الباص الأخيرالذي شهدناه يتجول في المدينة كان تابعا لأحدى المحطات الفضائية  العراقية .

   
حين يصبح النسيان مزبلة
يدلي احد كتاب القصة البصريين بملاحظاته حول المصير المؤسف الذي واجهه الباص الخشب متحدثا :
"اختفاء الباص الخشبي يذكرنا باختفاء العديد من العلامات الفارقة للمدينة فقبله هوت ساعة سورين وقوض اكثر من مبنى وقصر تراثي ، وهو يذكرنا ايضا باختفاء باصات ابو عرام ، فنحن لا نملك متحفا او جناحا في متحف لإيداع نموذج واحد او اكثر لهذا الباص العتيد الذي كان يتخذ من الساحة المجاورة لعمارة النقيب منطلقا منها الى احياء المدينة وبسعرزهيد للتذكرة !مثلما انقرضت  ( الربل ) او (البلشقة) التي كان يعتلي دكتها حوذي ماهر يقوم  بإيصال ركابه انطلاقا من احد أزقة محلة الباشا الى المستشفى الجمهوري لقاء عشرة فلوس للراكب ."
وتابع القاص ، بعد لحظات تأمل قائلا : " بعض هذه التحولات ارتبط بالثورة التكنولوجية ، التي أدخلت لمدننا وسائل نقل اكثر سرعة ، لتضاعف بذلك ايقاع الحياة الى الأسرع . لا بأس .. انها سنة الحياة كما يقول البعض ، وها نحن نشهد اختفاء الباص الخشب من شوارع المدينة وحتى من طرقاتها الريفية .. أهي سنة الحياة حقا ؟ وإذا كانت كذلك فهل ان ما يحصل هو استبدال تقليد حياتي بآخر، أم أنها عملية محو لأكثر من تقليد فولكلوري جميل ارتبط بذاكرتنا وعاداتنا اليومية من زيارات وتسوق ونزهات الى الاثل والى الثغور السياحية الأخرى على  ضفاف شط العرب وحتى الى أماكن لا يمكن ان تخطر على البال . أيهما كان ينبغي ان يعمل به  :
الاستبدال مع الابقاء على التقليد الأسبق ولو في ركن بمتحف أم المحو والطمس والإزاحة ؟ ! "
وأختتم الكاتب تأملاته بتساؤل يفرض نفسه :
"هل نحن امة بلا ذاكرة نحيا حضارة الغبار حقا ؟ ! "

   

سيرة
يصنع جسد الباص والأبواب من الخشب . وكان أول باص خشبي من صنع الحاج حسين الحمداني ، كما ان أقدم باص خشب كان للمرحوم الحاج ميرزا عباس في ام النعاج المجاورة لقرية المطيحة . أما اول أسطى ميكانيكي  فكان الحاج جودي بمنطقة السيمر بالقرب من بيت لاوي ( تجار الشفروليه ). وتقول المتابعات التاريخية ان الباص الخشبي دخل عن طريق الموانئ العراقية .وعادة ما يصنع البدن الخارجي من أخشاب الجاوي والصاج والمعاكس الذي يستخدم لتغليف الجوانب الخارجية . والباص يتألف من ثلاثة أجزاء الأوسط من ستة مقاعد  موزعة على مصطبتين متقابلتين ، أما المقصورة الخلفية فلا يحبذ الركاب  لاسيما عجائز النسوة اختيارها لكونها ناقلا جيدا لرجرجات الطريق .  وعموما يشغل الباص 14 راكبا  يجلس راكبان  بالقرب من السائق والبقية تتوزع في المقصورتين كما أسلفنا بيانه . وقد لعب الباص الخشبي دورا اجتماعيا هاما  حيث يتبادل الرجال الهموم  السياسية  وأحداث المدينة ومواد البطاقة التموينية بينما يدور حديث النساء عن أسعار السلع والملابس والأعراس والوفيات .  
  وهنالك حكاية طريفة تروى عن الباص الخشبي ومفادها ان الباص كان يستخدم لنقل الموتى الايرانيين عبر الحدود الى مقبرة السلام في النجف ، غير ان بعض السائقين اعتادوا على التخلص من الرفات في اقرب نقطة بعيد مغادرة الحدود مع ايران ! وتروى حكاية اخرى بطلها الباص الخشبي كالآتي : اعتاد سائق باص خشبي على نقل رفات الموتى ، واذا لم تكن هنالك جثث كان يضع على سقف باصه تابوتا او اكثر فارغا . وفي احدى الرحلات وضع تابوتا فارغا على السقف وبعد بضعة كيلومترات استوقفه عابر سبيل ، وبما ان الباص كان محتشدا بالركاب طلب منه الصعود الى سطح الباص فامتثل الرجل . وبعد فترة من الوقت امطرت السماء فاضطر عابر السبيل الى النوم في التابوت الخالي مقفلا الغطاء عليه . وبعد ان قطع الباص مسافة ، اشار اليه ثلاثة من عابري السبيل ، فأغراه الطمع ان يأخذهم معه فأشار الى سطح الباص فصعد الثلاثة هناك . ومع المسير اشتد هطول المطر واشتد قرعه على التابوت الذي رقد فيه الراكب الاسبق ، ولأنه اراد التأكد من شدة وطأة المطر ، أزاح الغطاء جانبا ورفع رأسه لتفقد الحالة الجوية . وما ان أبصر الثلاثة الميت وقد عاد الى الحياة ، حتى قذفوا بأنفسهم من سطح الباص تباعا الى جادة الطريق وهم بين مهشم العظام ومكسرالأطراف ! 

النقل النهري
عن الباص الخشبي كتقليد  حياتي ارتبط بأعراسنا وأفراحنا وأتراحنا ، تحدث الحاج معتوق من أهالي قرية مهيجران :
" لكي يدرك شباب اليوم ممن لم يركبوا الباص الخشبي أهمية هذه الواسطة ، يكفي القول بداية ان الكثير من وسائط النقل في بدايات القرن العشرين ولغاية اواخر الثلاثينيات اعتمدت انهار المدينة لإيصال الركاب وشتى أصناف البضائع والخضار، فقبل عام 1919 لم يكن طريق ابي الخصيب الجميل  قد شق  بعد ، ولذا اعتاد الكثير من اهالي القضاء استخدام الأبلام والمراكب الشراعية  التي كانت تشق عباب شط العرب شمالا . وبالطبع كان ذلك النوع من الرحلات جميلا حقا الا انه كان محفوفا بالمخاطر. وحسب علمي فإن نهر الخندق قبل مائة عام كان مع نهر العشار خطين نهريين ملاحيين ينقلان البضائع المستوردة  باتجاه مراسي البصرة القديمة حيث مقر الشركات التجارية كشركة الهند الشرقية وغيرها ، ويقومان كذلك بنقل السلع المصدرة من تلك المخازن و( الخينانات ) جمع خانات ،  الى ان شقت الشوارع واستوردت السيارات الأمريكية والانكليزية مثل الشفروليت والفورد والفوكسهول والهلمن والهمبر وانكمش دور الأنهار الصغيرة على الصعيد التجاري . وهذه هي حال الدنيا ! ".

 
الرحلة الأولى
 جواد كاظم ، رياضي سابق تحدث من على دكة في مقهى ( ابو هاني ) بالعشار عن رحلته الاولى على متن احد الباصات الخشب قائلا :
" كان ذلك في الستينيات . وكنت وقتها شابا صغيرا . وأذكر ان الاجرة  لم تتعد الدرهمين . وكان مقصدي الوصول الى (قلعة صالح ) التي تبعد عن البصرة كما هو معروف بمسافة 140 كيلومترا . كانت الرحلة الأولى في حياتي شعرت خلالها كأنني أسافر الى دولة اوربية ! كان الباص من  فئة الباصات ذات الحجم الكبير ( اكبر حجما من باصات ابي الخصيب ) وكان مرآب العمارة  قريبا من موقع كراج المربد حاليا ، من جهة تمثال العامل . كانت المقصورة الخلفية للباص ممتلئة بالتبن اضافة لثلاثة خراف راحت تطلق الثغاء تلو الثغاء ، في حين جلسنا ـ نحن الركاب ـ  في المقصورة الوسطى التي رصت في اركانها اعداد من الرقي كانت تتدحرج تحت أقدامنا كلما مال الباص او استدار او انحرف عن جادة الطريق . كنا في ذلك الزمن الجميل سعداء اخلياء البال من الكثير من الهموم التي تتآكل  نفوس الناس في ايامنا هذه المكبلة بالحروب والاوبئة والمفخخات والتصفيات. كانت  الحياة وقتذاك في ابسط أشكالها وليتها بقيت كذلك ! "              
اذا عرف السبب !
توجهنا الى موقف باصات النقل الكائن في شارع بشار ، فإذا به قاع صفصف .. ولا حتى باص خشبي واحد!  وحين سألنا  ابا ياسر وهوسائق كوستر يعمل على خط القبلة عن سر اختفاء ( سرة الباصات الخشب ) الذي اعتاد ان يقدم خدماته بين البصرة القديمة والسراجي ، افادنا قائلا ان الخط قد توقف منذ فترة لتحل محله كوسترات  قديمة الطراز لكنها تنتمي لطراز المركبات الحديثة . وقد اطلعنا على سر اختفاء باصات الخشب :
" ببساطة توقف الخط بشكل ذاتي . ساعد الله الباص الخشبي الذي تحول الى سلحفاة اثرية تستحق ان توضع في المتحف . ولا اخفيك سرا اذا ما ذكرت لك انني شخصيا كنت اعمل على هذا الخط الملغى ولكنني ، اسوة بغيري ، اركنت الباص في البيت بعد ان بعت رقمه القديم بمبلغ ساعدني على اقتناء هذا  الباص الكوستر الذي صرت اعمل فيه على خط القبلة ، كما ترى . ان ما فعلته قد فعله معظم أصحاب باصات الخشب فقد باعوا ارقام باصاتهم التي اركنوها الى مثواها الأخير !" ،  ثم أضاف : " حسب ما اعرف أصبح الباص الخشب من المشاهد النادرة في المدينة ، وربما الأرياف . اعرف سائق باص  يدعى احمد فيصل وهو من سكنة أبي الخصيب . هذا الرجل يعتز بباصه كثيرا ويعتني به اعتناء غير طبيعي ، ولكنني لست متأكدا ان كان هذا الباص ما زال يشتغل على احد الخطوط أم توقف . ولكن ما اعرفه انه يعتز بباصه الى حد كبير ودأب على طلائه من فينة الى اخرى ، تنفيذا لوصية ابيه الذي كان يعمل سائقا فيه . وطلب منه قبل ان يتوفى عدم التفريط بالباص الذي كان جزء لا يتجزأ من تاريخ الأسرة وأسهم في إعاشة أفرادها  ! "

  

زمن الرحلة : لا تغيير !
يبدي الكاتب والصحفي عبد الكريم العامري ، وهو واحد من الكتاب الذين  رصدوا ظاهرة الباص الخشبي عبر تاريخه الذي يناهز السبعين عاما :
" املك سيارة تعتبر حديثة قياسا بالباص الخشبي الذي كنت استقله ايام زمان للوصول للأهل في الفاو . لنأخذ طريق العشار ـ ابي الخصيب . ايام زمان كان الامر يتطلب نصف ساعة من مرآب العشار الى ابي الخصيب وبالعكس . اليوم اقطع المسافة نفسها بسيارتي وخلال نصف ساعة ايضا . لا فرق . صحيح ان سيارتي سريعة ، ولكن في تلك الايام لم تكن هناك زحمة سيارات  وستوتات ودراجات نارية او سيطرات ! " .

              

أخيرا وليس آخرا لا تكمن الإشكالية في استبدال تقليد حياتي بتقليد آخر ، بل يكمن في  بقائنا امة بلا ذاكرة . ومن هنا لابد من التأكيد على دور المتاحف
ومراكز توثيق الذاكرة البصرية بكل أصعدتها معرفية كانت او حياتية .
ففي مدن كالقاهرة واسطنبول وليماسول بقبرص ومعظم مدن العالم ما زال الحنطور واحدا من المشاهد السياحية لتلك المدن ، واذا لم يكن متوفرا ، يلقاه السائح في جناح بمتحف يؤرخ للمدينة سيرتها .
ولأن للقديم نكهته الخاصة به ، صارت العديد من الشركات المصنعة للسيارات او الدراجات الهوائية على سبيل المثال تتصل بأصحاب تلك المقتنيات على امل الاتفاق معهم على  استعادتها لقاء مبالغ  تعويضية ضخمة . وكثيرا ما يجيب أصحاب تلك المقتنيات بالرفض ، اعتزازا منهم بجزء عزيز عليهم يجسد أزهى فترات حياتهم . الا يستحق الباص الخشب مثل هذه العناية فيستحدث متحف للقديم من المقتنيات بما فيها السيارات والباصات الخشب . ليس ما نقول بالجديد . ان من يريد الاطلاع على الحياة الشعبية البغدادية لا يسعه الا زيارة المتحف البغدادي  قرب السراي  او يلقي نظرة اخيرة على هيكل مجسم يعتلي احدى واجهات كراج النهضة .  
هل نقول لباصات الخشب وداعا ؟ !
ام نقول لها : أهلا  من جديد ؟ !

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

817 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع