ذكريات اليوم الاول بكلية الشرطة 15/10/1966 يسترجعها د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
نصف قرن تقريباً مَرّ على يوم الخامس عشر من تشرين الأول عام 1966، وهو اليوم الأول لدخولنا كلية الشرطة مع أبناء الدورة (23) بعد أن تخرجت من الدراسة الثانوية، ولن اتحدث عن ظروف تقديمي للكلية على خلاف توقعات كل من كانوا يعرفون توجهاتي واهتماماتي حينها حيث لم تكن الشرطة أو العسكرية من بينها، لكن.. صار الذي صار.. والحقيقة أن ما شجعني على ولوج أبواب كلية الشرطة في منطقة ساحة الطيران ببغداد، هو ما أعلن حينها بالصحف عن صدور نظام جديد سمي (نظام كلية الشرطة) الذي حَوّل مدارس الشرطة العالية إلى (كلية) مدة الدراسة فيها أربع سنوات يتلقى الطالب فيها دروس كلية حقوق جامعة بغداد، إضافة إلى دروس كلية الشرطة الأصلية ويمنح الخريج منها شهادتين: شهادة البكالوريوس في الحقوق وشهادة العلوم الشرطية. حينها اضربَ طلاب كلية الحقوق وتضامن معهم طلبة كليات أخرى على حجة ان منح خريجي كلية الشرطة شهادة الحقوق سوف يجعلهم مستقبلا منافسين لخريجي الحقوق في حقل المحاماة، وهي ذريعة ضعيفة ولكن الواقع هو ان الدافع كان سياسيا وتعبير عن المعارضة لنهج الحكومة من قبل البعثيين.
فكرة جعل الدراسة بكلية الشرطة 4 سنوات يمنح الخريج منها شهادتي الحقوق والشرطة جلبها من مصر المرحوم الدكتور اكرم نشات ابراهيم وكان قد انهى للتو دراسة الدكتوراه بالحقوق في جامعة القاهرة بتقدير امتياز، وهو بذات الوقت استاذ في مدرسة الشرطة العالية (أي الكلية). علماً أن الدكتور أكرم نال شهادة تقديرية باحتفالات يوم العلم في الجمهورية العربية المتحدة بحضور الرئيسين المرحومين جمال عبدالناصر وعبدالرحمن محمد عارف، والدكتور اكرم هو زميل الرئيس عبدالرحمن عارف من دورة واحدة بالكلية العسكرية، ولكنه لم يكمل المشوار العسكري وتحول الى الدراسة الحقوقية. وكان الدكتور أكرم نشأت احد اعضاء لجنة المقابلة التي قابلت المتقدمين للكلية وكانت برئاسة اللواء صبري عبدالجبار العاني عميد الكلية، وتم قبولنا بناء على معدلات التخرج من الثانوية وجميع المقبولين من معدلات فوق الستين (ومعلوم ان معدلات التخرج ذلك الوقت غير معدلات هذه الايام) فأنا كنت الأول على الثانوية العربية الأدبي بمعدل (68%) وعدد الناجحين بالدور الأول خمسة من مجموع (300) طالب.. فتَصَوّر؟
10/15/ 1966 يوم حاسم ونقطة تحول.
15 تشرين الأول 1966 هو يوم الإلتحاق الأول إلى كلية الشرطة، وبالمناسبة، يكاد يكون هذا اليوم هو تاريخ التحاق العديد من دورات كلية الشرطة.
التحقنا صباحاً، بالملابس المدنية وكان شعر رؤوسنا مازال طويلاً، كان أول من التقانا هو الملازم الاول سوريان توفيق حسين (الذي أصبح فيما بعد لواء وشغل منصب عميد كلية الشرطة)، أخذونا الى قاعات السكن، حيث جمعونا نحن المائة طالب المقبولين بالدورة 23 لكلية الشرطة بنظامها الجديد، فكان لكل طالب منا دولاب حديدي يضع فيه تجهيزاته وملابسه وكتبه، وسرير يضع فراشه عليه، وطابورية (مقعد) خشبي، ما زالت كلمات الملازم الاول سوريان ترن في آذاننا، بلثغته المعهودة بحرف الراء، وهو يحدثنا عن انتهاء حياتنا المدنية وبداية حياة عسكرية تتسم بالضبط والالتزام والتنظيم، تم توزيع التجهيزات العسكرية علينا، وامهلونا يومين لغرض إعادة (تقريم) الملابس وتضبيطها على قياساتنا لدى خياطين اهليين، وأمرونا أن نحلق رؤوسنا (حلاقة عسكرية نمرة 4)، كان برفقة الملازم الاول سوريان، ضابطي الصف التلاميذ كل من حميد حمادي المعيني ومنذر كمال عبداللطيف، وكان رأس عرفاء الجناح هو رأس العرفاء محمد شلال حبيب العاني، ورأس العرفاء الأقدم إبراهيم جبار شلال، كان يومنا الاول بالكلية مليئاً بالمجاملات والترحيب والتوجيه والنصائح والارشادات، وبعدها تم خروجنا من الكلية قبل الظهر على أمل أن نعود بعد يومين، بعد ان نكون قد حلقنا رؤوسنا وهيّئنا تجهيزاتنا بالكامل، ولكن ما أن التحقنا بعد يومين بعد استكمال تجهيزاتنا ولوازم التدريب حتى بدت الوجوه غير الوجوه التي استقبلتنا باليوم الأول، والاسلوب غير ذاك الاسلوب الذي عاملونا به يوم الالتحاق، الكل تصرخ فيك (هَرْوِل يا أول عالي!!) بما فيهم طلاب الصف الثاني اعدادية الشرطة !!،
وكانت الاسابيع الاولى مخصصة للتدريب الاساسي للمشاة، والتدريب مضاعف والاستيقاط من الفجر الباكر بل قبل الفجر، ويستمر التدريب صباحاً ومساءً، بدون دروس، لان المطلوب ان تتكيف أجسادنا وأبداننا على نمط الحياة العسكرية المختلف تماما عن نمط الحياة المدنية، كانت أياماً قاسية عشناها، وبالتدريج خفت الشدة وبدانا نكتفي بساعات التدريب الصباحي ثم الدروس وبعدها فترة الطعام وراحة بسيطة نعود بعدها للتدريب البدني والرياضي. وفي المساء بعد تناول العشاء بوقت مبكر نذهب الى المذاكرة المسائية وبعدها تعداد آخر اليوم وبعده يرفع بوق النوم والخلود للنوم بعد عناء وتعب نهار كامل، بانتظار بزوغ فجر جديد ونهار جديد..
كل شيء في كلية الشرطة بنظام وميقات وايعاز النهوض الخروج لساحة العرض والعودة منها الدخول للمطعم لتناول الافطار والخروج منه.. تناول الطعام بايعاز والانتهاء منه بايعاز..الكل تاكل سوية من نوع واحد وبكمية واحدة بلا فرق ولا تمييز.. طالب المستجد لايسمح له ان يسير سيرا بل يجب ان تكون كل حركاته وتنقلاته بالهرولة ومن يخالف يتعرض لاقسى عقوبة..ثم الدخول للدرس والانتظام بالجلوس على الرحلة والانصراف عند انتهاء الدروس.. لايجوز التحدث مع المحاضر او مع الضابط او عريف الفصيل جلوسا بل يجب الوقوف للحديث.. كل شيء في حياة الكلية بمواقيت وايعازات..حتى النوم يتم بموجب بوق النوم وبوق النهوض صباحا.
مرت الايام والسنون وصارت سوالف.. لكنها عصية على النسيان ...حياة كلية الشرطة مدرسة للحياة..
كنا نحن الدورة 23 من تسلسل دورات الكلية التي تغير اسمها من مدرسة الشرطة العالية الى كلية الشرطة، الامر الثاني هو زيادة راتب طالب الكلية من (خمسة دنانير شهريا) قبل التحاقنا، ولكن بعد التحاقنا تم تعديل الراتب الى (10 عشرة دنانير شهريا) وشمل به جميع طلاب الكلية واعدادية الشرطة.
نبذة عن كلية الشرطة:
من الجدير بالذكر ان الشرطة العراقية التي تاسست عام 1922 تناوب على قيادتها ضباط من خريجي الكلية العسكرية بالاستانة اولهم نوري السعيد، واعقبه الفريق محمد سليم، واستعانت بضباط من الجيش لقيادة مديريات شرطة الالوية والشرطة المتخصصة، بينما تم فتح العديد من الدورات لتخريج المراتب وضباط الصف والمفوضين، اما كلية الشرطة فيعود تاريخ تاسيسها الى عام 1944 بموجب النظام رقم (2) لسنة 1944 باسم مدارس الشرطة، الذي جعل ارتباطها بمديرية الشرطة العامة،وضمّت كلاً من (مدرسة الشرطة العالية لتخريج الضباط ومدرسة إعدادية الشرطة لتخريج المفوضين) وكان موقعها في منطقة البتاويين (مجمع الوزارات حالياً)، وتتضمن الدروس مواداً قانونية حقوقية بالاضافة للمواد الشرطية والعسكرية، واستمر الحال حتى عام حين صدر نظام كلية الشرطة رقم (25) لسنة 1966 الذي جعل ارتباط الكلية بوزير الداخلية مباشرة وجعل الدراسة في الكلية (4) سنوات مناظرة للدراسة المقررة في كلية الحقوق العراقية بالإضافة للعلوم العسكرية والأمنية ويمنح الخريج فيها شهادة البكالوريوس في القانون والشرطة.
كانت الدراسة مرهقة حيث نتحمل التحضير لمواد كلية الحقوق بالكامل دون اي تغيير وكان اساتذة حقوق بغداد، او مدرسين محاضرين بترشيح من كلية حقوق بغداد وكان التدريس يتم بنفس كتب منهاج كلية الحقوق بجامعة بغداد.
وكنا نؤدي الامتحانات النهائية بالاشتراك مع طلبة كلية الحقوق وبنفس مبنى كليتهم في الوزيرية، اذ يتم نقلنا ونحن بالملابس المدنية، بالباصات او اللوريات لنؤدي الامتحان سوية مع الطلاب المدنيين، وحين ظهرت النتائج النهائية للامتحانات المشتركة وتبين ان العشرة الاوائل هم من طلاب كلية الشرطة، ففي الصف الثاني (المتوسط) تم اجراء امتحاناتنا في نفس كلية الشرطة وبوجود مراقبين ومشرفين من كلية حقوق جامعة بغداد.
وبعد قيام ثورة 17 تموز 1968 ففي عام 1969 ألغي هذا النظام، واعيدت الدراسة بالكلية بثلاث سنوات وليس اربعة، وبنفس المواد التي كانت تدرس بالكلية قبل 1966، بصدور نظام كلية الشرطة رقم (1) لسنة 1969 وأعيدت الدراسة إلى (3) سنوات بدلا من (4) سنوات وأعيد ارتباط الكلية بمديرية الشرطة العامة.
تم تخريجنا من الكلية يوم 8 شباط 1969 برعاية الرئيس احمد حسن البكر رئيس الجمهورية (يرحمه الله) وحضر الحفل الذي اقيم بساحة تدريب الكلية بمبناها القديم في البتاويين كل من وزيري الداخلية والدفاع صالح مهدي عماش وحماد شهاب ومدير الشرطة العام فاضل العساف، وعميد الكلية اللواء فاضل السامرائي. وتم نقل الحفل بواسطة التلفزيون والاذاعة.
كنا عند التحاقنا بالكلية 100 طالب عراقي ومعنا طالبان عربيان احدهما من المملكة المغربية والثاني من اليمن الجنوبي، ولكننا تخرجنا 95 حيث رسب الطالبان العربيان ولم يتمكنا من اجتياز الصف الاول فتم نقلهما الى الكلية العسكرية آنذاك، وأحد الطلبة توفي بحادث اثناء تدريب الفروسية، وطالب آخر تعرض للفصل اثناء الدراسة، وثلاثة طلبة تخلفوا وتخرجوا مع الدورة اللاحقة.
لاشك أن كل طالب يدخل كلية نظامية (مثل كلية الشرطة او الكلية العسكرية) التي يطلق عليها عادة (مصنع الرجال) سوف يتأثر بما تحدثه من تغيير بنيوي في مسيرة الشخص وعقليته وتعامله وتفكيره.
دخلنا الكلية وكنا ـ كما قلت قبل قليل ـ (100) طالب، وكانت الدورات التي سبقتنا من الدورة (1) تضم أعداداً قليلة دون الخمسين، عدا الدورتين اللتين سبقتنا وهما الدورة (21) و (22) حيث ضمت كل منهما بحدود (200) طالب، ولكن فيما بعد ثورة 17 تموز 1968، وخاصة في السبعينيات، بدأ الارتفاع في اعداد المقبولين بحيث يصل الى الألف طالب للدورة الواحدة، واستقبلت الكلية بعد 1968 العديد من الطلبة العرب (من السودان والصومال والمغرب واليمن وسلطنة عمان وغيرها..
من الطبيعي أن كل طالب يقضى 3 سنوات في الكلية، بعد أن يتخرج، تكون لديه ذكريات، منها المؤلم ومنها المفرح، كانت ساعة الالتحاق للكلية مساء الجمعة من اكثر الاوقات ازعاجاً وايلاماً للطالب في بداية اسبوع مليء بالالتزام والانضباط والتدريب القاسي ولكن الالم كله يُنسى في لحظة الانشراح والفرح والمتعة التي لا تضاهيها متعة إلاّ مُتعة يوم التخرج، الا وهي الساعة 12 ظهرا يوم الخميس من كل اسبوع ساعة مغادرة الكلية بالإجازة الاسبوعية من ظهر الخميس حتى مساء الجمعة اللهم الا المعاقبين المحجوزين والمحرومين من العطلة الاسبوعية.
التعداد المسائي اليومي بعد يوم حافل بالنشاط والحركة يكون بحدود الساعة 9 مساء بعده ينصرف الطلبة الى قاعات النوم عدا المعاقبين بالتعليم الاضافي من المخالفين والعقوبات في الكلية تكاد تنال الاغلبية الا من رحم ربي، واحيانا تأتيك العقوبة من لا شيء خاصة العقوبة الجماعية التي تنال المذنب والبريء وهي أسوأ ما في نظم الكليات العسكرية لما فيها من ظلم واجحاف.
يوم الخميس هو الاجمل والاحلى لدى الطلاب حيث يخرج الطالب لملاقاة اهله واحبابه ويتمتع بالحرية والانطلاق، بعيدا عن اجواء الكلية القاسية، إلا من تقييدات والتزامات القيافة في وجوب السير المنتظم وحمل العصا وارتداء القبعة وتأدية التحية لمن هم اقدم منه في الشارع، يخرج الطالب مرتدياً بدلة القيافة الخارجية لطالب كلية بالكاسكيت وعصا التبختر حاملا حقيبة الكلية، يلفت أنظار الآخرين الانظار وبخاصة حين يصل محلته او الحي السكني وتكتمل الروعة عندما يدخل الطالب الى داره حيث والديه واخوانه واخواته يترقبون عودته بعد غياب اسبوع عنهم مرتديا الزي الجميل، فتنهال عليه القبلات والتحيات. ويعوّض ما فاته من حرمان الاكل في مطعم الكلية الذي ينزعج الطلاب منه لرتابته وتكراره ومحدودية انواعه، فتبدأ الولائم والدعوات يومي الخميس والجمعة سواء مع الاصدقاء او مع الاهل.. حتى تأتي ساعة الفراق ساعة الالتحاق بالكلية لتبدأ رحلة اسبوع جديد من القسوة والشدة والانضباط.. رُبَّما كنا نعتقد بقسوتها وشدتها ونحقد على من يفرضها علينا، لكننا بعد ان تخرجنا احسسنا بقيمة تلك القسوة والشدة التي تصنع الرجال، واحسسنا ان الضباط وضباط الصف لم يكن يكرهوننا حين يفرضون القسوة والشدة علينا بل هذه هي سنة الحياة العسكرية ومرحلة مطلوبة في صناعة الرجال وصار الضباط والعرفاء الذين كانوا يعاقبوننا هم اعز الاصدقاء الينا.
ثلاثة اعوام ما بين 15 تشرين الاول 1966 ويوم 8 شباط 1969 امضيناها في كلية الشرطة ببنايتها القديمة التي تحولت الان الى عمارات مجمع الوزارات (وزارة الصناعة تحديدا) ايام مرت بلياليها ونهاراتها،كانت لها اثار واضحة في مسيرة حياتنا وفي تفكيرنا، لا يمكن ان تنسى. وبقي يوم الخامس عشر من تشرين الاول يوما شاخصا في ذاكرتنا.
579 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع