الحياة ... حكايات/السيد مجيد أبو طبيخ
خلال عام 1970 حصلت مشاكل عشائرية في محافظة السماوه نتيجة النزاع على ملكية الأراضي الزراعية مما تسبب في مقتل العديد من أبنائها واتساع رقعة الصراع وازدياد تداعياتها من مآسي وأضرار بشرية ومادية.
بالرغم من تدخل العشائر في المحافظة والمحافظات الأخرى وتدخل الحكومة المحلية لإنهاء النزاع والحالة الشاذة , إلا أن هذه الجهود أخفقت في مسعاها ولم يتم التوصل الى أي نتيجة ايجابية في هذا المسعى , مما اضطر تدخل الحكومة المركزية ومن أعلى سلطة فيها ممثلة في رئيس الجمهورية ( أحمد حسن البكر) والذي دعا الى حضور ممثلي الأطراف المتنازعة إلى القصر الجمهوري في بغداد لغرض التشاور معهم وإيقاف نزيف الدم بين ابناء العشيرتين المتنازعتين , حضر عدد كبير من الرجال الممثلين للعشيرتين لهذا الغرض في اليوم المحدد والزمان المحدد.
أحمد حسن البكر
كان عدد الحاضرين يربو على الثلاثمائة شخص متجمعين في ساحة القصر الجمهوري إلا أن رئيس الجمهورية طلب تقليص عدد الأشخاص الذين سيجلس معهم وفعلاً تم تحديد العدد وتم اختيار خمسون شخصاً من العشيرتين بالإضافة الى عدد من وجهاء وأعيان العشائر في المحافظة المذكورة من بينهم ابن السماوه البار الرجل المعروف بقوة شخصيته وكرمه ( سيد مجيد أبو طبيخ) وكانوا حاضرين كوسطاء من أجل تسهيل حل هذه الخلافات .
صورتي مع السيد مجيد أبو طبيخ
كانت تربطني به علاقة صداقة متينة حيث كنت أزوره في السماوة ويزورني في أربيل بين الحين والحين , وكان محاوراً لبقاً وسريع الخاطر ووجوده ضرورياً في حل أي نزاع أو مشكلة عشائرية في المنطقة والمناطق الأخرى , جلس في الصف الأمامي مقابل المنصة التي كان يجلس عليها رئيس الجمهورية ( أحمد حسن البكر) والذي بدأ الجلسة بالكلام عن ضرورة تغليب صوت العقل والحوار على صوت الرصاص والعنف والابتعاد عن التشنج والانفعال والانجرار نحو اعمال الانتقام والتي من شأنها تعقيد الأوضاع وخلق العداء بين المواطنين بالإضافة الى النتائج التي لا يحمد عقباها في خسارة الارواح والأموال بالإضافة الى ما ينجم عنها من مشاكل اجتماعية.
بعد انتهائه من كلمته ترك الكلام للحاضرين لكي يقف على حقائق الأمور والمشاكل بين الطرفين عن قرب سامحاً لكبير أحد طرفي النزاع بالتحدث والذي لم يستطع إيضاح ما كان ينوي طرحه على رئيس الجمهورية بسبب مقاطعة أفراد الطرف الثاني له وتدخل الآخرين من الطرف الأول وتحول القاعة إلى حالة من الفوضى بين الطرفين حيث كان كل طرف يتهم الطرف الآخر بالتقصير والمسبب لهذه الحوادث والمشاكل وكان البعض ينهض من مكانه وهو يتكلم بصوت مرتفع ويلوح بيديه.
كان رئيس الجمهورية يطلب من الحاضرين ضرورة التمسك بأصول الحوار والمناقشة وعدم الكلام إلا بعد السماح لهم بذلك واحترام قدسية المكان , إلا أن كلامه كان لا يلقى الآذان الصاغية لدى الحاضرين وعندها وعندما بلغ السيل الزبى وطفح الكيل فقد رئيس الجمهورية السيطرة على اعصابه وضرب الطاولة التي أمامه بكلتا يديه وهو يأمر مرافقه الواقف خلفه باعتقال أي شخص يتكلم من تلقاء نفسه ومتوعداً باتخاذ أشد الاجراءات عندها سكت الحاضرون وأصبحت أجواء القاعة كأنها خالية ليس فيها أي إنسان وكانت علامات عدم الارتياح والغضب بادية على محياه وعلى حركاته
وكان مستمراً في تدخين السكاير وكانت من نوع (كنت) وبشكل ملفت للنظر , فما تكاد تنتهي السيكاره بين شفتيه حتى يلحقها بسيكاره جديدة أخرى وبعضها قبل أن تنتهي وبشكل مستمر دون انقطاع وهو على هذه الحال , والجالسين في القاعة بنفس الحال لفترة تقارب الخمسة عشر دقيقة.
كسر ( السيد مجيد ابو طبيخ) حالة السكوت في القاعة رافعاً يده طالباً السماح له بالكلام , أذن له رئيس الجمهورية بذلك وتحدث قائلاً :(( سيدي – أنت ابن عشائر ))
رئيس الجمهورية: (( ليش أنت شتشوف))
مجيد أبو طبيخ: (( سيدي أشو صار ربع ساعة وسيادتك ددخن كدامنا وتنفخ الدخان بوجوهنا))
عندها رفع رئيس الجمهورية علبة السكاير التي أمامه وسلمها لمرافقه وطلب منه توزيع السكاير على الراغبين بالتدخين , إلا أن السيد مجيد استدرك الموقف قائلاً:
((سيدي إحنا ما نريد جگاره جگاره... إحنا نريد كل واحد كلوص))
بدت ملامح رئيس الجمهورية تتغير ويخرج من الحالة العصبية والتشنج التي كان عليها والتي أنهاها بابتسامة عريضة جعلت ( السيد مجيد أبو طبيخ) يقف ويلتفت إلى الجالسين خلفه من الحضور قائلاً:(( يا جماعة آني ضحكته والله العظيم إذا هل مرة صار عصبي وزعل آني ما عليه ))
وحكاية أخرى من حكايات هذا الرجل الحاضر في كل مجلس بقوة بديهيته وسرعة خاطره , فعندما سمع بوفاة والد أحد الشخصيات البارزة في الحكومة العراقية في ثمانينيات القرن الماضي في مدينة تكريت شكل وفداً من أقاربه لغرض القيام بواجب تقديم العزاء وعندما وصل إلى المدينة المذكورة ودخل سرادق العزاء الكبير والمزدحم بكثرة المشاركين في مواساة صاحب العزاء في ذلك الزمان والظرف والذي لو حصل له حادث عزاء أخر في هذا الزمن الحالي لما كنا نجد إلا أنفار قليلة من الناس وهذه طبيعتنا في المجتمع العراقي حيث تتم مشاركة الناس في السراء والضراء على ضوء الموقع الوظيفي والاجتماعي والمادي لصاحب المناسبة .
نعود لحكاية السيد مجيد أبو طبيخ والذي ما إن دخل سرادق العزاء هو والمصاحبين له إلا وانهالت عليه كلمات الترحيب بقدومه من الجالسين في كافة أنحاء السرادق ((أبو عدنان الله بالخير)) ((سيد مجيد أهلا وسهلا بكم)) ، ولدى إعادة قراءة سورة الفاتحة من قبله وجماعته والنهوض إيذاناً بالانصراف هب أغلب ذوي العلاقة بمراسيم العزاء طالبين من السيد مجيد البقاء ومشاركتهم طعام العشاء إلا أنه تمكن بصعوبة أن يعتذر لهم وطالباً منهم السماح له بالانصراف بسبب طول مسافة طريق العودة , شكروه على مشاركته في مصابهم ورافقوه إلى باب السرادق والبعض منهم إلى أن استقلوا سيارتهم.
في السيارة جرى الحوار التالي بين السيد مجيد أبو طبيخ وشقيقه الأكبر منه سناً والذي بادره
قائلاً : ((سيد مجيد تدري كَلبي صار هل كبراته - وهو يؤشر بيده ذلك - ))
سيد مجيد: (( ليش أخوي ))
اخ السيد مجيد : ((شنو ليش هل الاحترام والترحيب من هل الزلم الجبيرة أصحاب المقامات والدرجات العالية بالدولة والحزب .... بس أخ لو تترك الكاولية والشرب جان قدرك واحترامك يزيد أكثر ))
سيد مجيد : (( أخويا تسمحلي أكَولك أنت ما تفتهم شي ))
أخ السيد مجيد: (( أنا أخوك أني ما أفتهم شي شنو قصتك سيد مجيد أشو كَمت تتجاوز علي ))
سيد مجيد: (( أخوي شحدي اتجاوز عليك ... بس تاج راسي لوما الكاولية والشرب منين جنت اعرف هل الجماعة ))
رحم الله (السيد مجيد أبو طبيخ) الرجل الودود المفعم بخصائل المرح والوفاء والإنسانية والإقدام.
907 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع