جندي عراقي في الخمسينيات من القرن الماضي وصحن مشويات عراقية
( قدوش ) وضابط التجنيد...
لم يكن (قدوش) يعرف ان اسمه الحقيقي سيبقى طي الكتمان بالنسبة لذاكرته البدائية جدا ، حتى يوم سوقه للخدمة العسكرية في اواسط الستينيات من القرن المنصرم ، اذ أنه فتح عينيه للدنيا وشب ويفع واستقام عوده والكل ينادونه ( قدوش ) جريا على عادة اهل كركوك ، الذين ينادون اولادهم وابنائهم باسماء أخرى أكثرها لا تتطابق مع اسمائهم الحقيقة تحببا تارة ، وخوفا من العين والحسد تارة اخرى ، وهي عادة بدأت تتلاشى تقريبا بل نكاد نجزم انها اندثرت تماما،
وحرّم قدوش الذي فقد والديه منذ الصغر، من كثير من نعم الحياة ولم يتسن له ان يذهب الى المدرسة كباقي اقرانه ، لذا حرم من نعمة القراءة والكتابة ، كان يقوم بأداء بعض الاعمال البسيطة في السوق لقاءاجر زهيد ، يدسه في جيبه بعد ان يقبل باطن وظهر كفه ، انها التسليم بالقدر والرضى بالقليل كما يسميه ويؤمن به الطيبون من امثال ( قدوش)..
كان مختار المحلة في العادة ،يجوب الازقة ويطرق الابواب حاملا دفترا فيه اسماء الشباب من اهل المحلة من الذين استوت (رجولتهم) وبلغوا سن التكليف بالمصطلح الشرعي او (بيغي ترلادي) بالمصطلح الشعبي ، الثامنة عشرة هي سن أداء الخدمة العسكرية في العراق ..
كان (قدوش) ضمن مواليد تلك السنة من الذين سيأدون خدمة العلم ، وكانت العامة من الناس تتجمهر عند دائرة التجنيد يوم ان كانت تتخذ من بناية قديمة تقع على شارع الاطباء مقرا لها ،لمصاحبة اولادهم واخوانهم الذين كانوا يساقون الى مركز التدريب في مظاهر احتفالية مهيبة يتخللها عزف الموسيقى ونثر السكاكر وتوزيع الشرابت ..!!
منذ الصباح الباكر جلس ( قدوش ) مع العشرات من اصدقائه في باحة التجنيد ينتظر الضابط الذي يخرج بين الحين والاخر وينادي بأسماء المساقين ، لكنه لم يسمع الضابط يصيح باسمه ، مع ان الدوام قد شارف على الانتهاء ولم يبق مع قدوش احد سواه ،تقدم الضابط نحوه وساله : ابني شتسوي اهنا ؟؟
اجابه قدوش بلغة عريبة ركيكة : ( بيك ) جئت لأداء الخدمة العسكرية .
أردف الضابط : ما صحنا بأسمك ؟
اجابه قدوش : لا ..
شنو أسمك ؟؟
رد عليه قدوش : قدوش ..
طلب منه الضابط ان يريه هويته الشخصية او ( الجنسية ) مثلما كانت تسمى يومذاك .
ما ان ناوله قدوش الجنسية ، حتى ثار ثائرة ضابط التجنيد ، ولطم قدوش لطمة قوية وهو يزبد ويصيح : ولك هي دمغسز من الصبح جاي اصيح ( عبد القادر امين ) وانته مجاوب....!!!!!
مسكين قدوش ذلك الفتى الكركوكلي البسيط الذي ظل طوال ثمانية عشرة سنة لا يدري ان اسمه الحقيقي (عبد القادر أمين) وليس قدوش ....
( ابو عوف ) وكباب كركوك الشهير....*
كان أبو عوف من أشهر أسطوات الكباب في كركوك في الستينيات وحتى أواخر السبيعينيات من القرن المنصرم.وكان لا يكاد يذكر كباب كركوك الأ ويذكر ابو عوف،لشهرته الواسعة وصيته الطيب في عمل وشي الكباب(الاكلة الكركوكلية) المعروفة.
ومعلوم أن مدينة كركوك تشتهر من بين ما تشتهر بها من الأكلات والمقبلات ب(الكباب) مثلما تشتهر الموصل بالكبة، والنجف بالطرشي والدهينة، واربيل باللبن والمشخاب بالتمن العنبر.!!
وصاحبنا عبد الرحمن الكبابجي والذي تناديه العامة ب(أبو عوف) جريا ّعلى عادة العراقيين،كان الى جانب شهرته في المهنة أياها ،شخصية محبوبة لضرافته، وخفة دمه ودماثة خلقه مع الزبائن ..
وكان محله يقع قبالة سينما الحمراء بكركوك، ولفرط شهرة ولذة كباب ابي عوف كان الزبائن ينتظرون واقفين ريثما يخلو المطعم من (المشترية) الذين سبقوهم لتناول الطعام ، رغم صغر المحل وضيق مساحته.!!
ألى جانب ذلك كان ابو عوف يتولى الاشراف على الولائم الخاصة التي كانت تقيمها العوائل الكركوكلية الثرية والميسورة،في المناسابات الخاصة والعامة،
ويشرف ايضاّ على الولائم التي تقيمها الدوائر الرسمية والمسؤولون الحكوميون كالمحافظ وقائد الجيش والشرطة ومدراء الدوائر والمؤسسات..
وخلاصة القول كان ابو عوف فارس ميدان ( الكباب) الذي يشق له غبار..!!
وتبدأ مأساة الأسطة عبد الرحمن الكبابجي وحكايته الطريفة المبكية معاّ..عندما دعا مدير دائرة الأمن وقتذاك جمعاّ من الاقرباء والأصدقاء لتناول الغذاء في بيته..!!
ومن غير (ابو عوف)يتولى هذا الامر؟؟ في ضحى يوم المأدبة الموعود أمرمدير الأمن احد ضباطه ان يقوم بأيصال (ابو عوف ) للبيت لغرض البت بالاستحضارات اللازمة لتهيئة الطعام ومن ضمنه الكباب(طبعا) في الموعد المحدد أي قبل وصول المدعوين..
ويبدو ان كثرة مشاغل الرجل (مدير الامن) وعدم أستيعاب الضابط المأمور الأمر (الطلب) بالشكل الصحيح قد أدى ألى ما اّل أليه أمر ابي عوف..!!
فعندالظهيرة والمدعوون اخذوا بالتوافد الى البيت وساعة الوليمة على وشك أن تحين و(ابو عوف) لم يحضر بعد.!!أحتارت زوجة المدير ماذا تعمل وكيف تلافي الموقف،وأعتقدت ان زوجها قد نسي أمر المأدبة ،فرفعت سماعة الهاتف وسألت زوجها بأستغراب: (وينه ابو عوف؟ مو صارت الساعة بلوحده وبعده ماجاي)؟؟
وأندهش الرجل من كلام زوجته،وأجابها يمعوده من الصبح وصيت الملازم (..)يوصله للبيت ..شنو وين صار هذا)؟؟
وأقفل الهاتف ونادى على البواب بحدة: صيحلي الملازم(....) بسرعة..
بعد برهة قصيرة دلف الضابط الى الغرفة، وبعد أداء التحية، سأله المدير وهو يستشيط غضباّ وينه ابو عوف)؟؟
فأجابه الضابط بكل خوف وخجل والله سيدي من الصبح جاي ندك ونبسط بيه وسويناه ( يخني) وبعده ممعترف)!!
فأسقط في يد المدير وأنتفض واقفا وهو لا يكاد يتمالك غضبه من هول وغرابة ما سمع ، وصاح بالضابط: ( ولك اّني كتلك وديه للبيت لو جيبوا للدائره واستجوبوا)؟؟
ثم اردف قائلا: جيبولي اياه...
بعد لحظات دخل ثلاثة من افراد الدائرة الى الغرفة وهم يحملون (ابا عوف) على (نقالة) من تلك التي يستعملونها لنقل المرضى والمصابين ،و الرجل مغمى عليه ينزف دما وعيناه متورمتان من اللكم والضرب ،وملابسه ممزقة .وهو بالطبع لا يدري ما حل به ومن وشى به وما ذنبه.؟؟
تلك كانت خاتمة المطاف في حياة (ابي عوف)المهنية، الذي افنى زهرة شبابه وجزءا من كهولته امام المنقلة والفحم وسياخ الكباب،
رحم الله (ابا عوف) الذي توفي في بلاد الغربة قبل تسعة اعوام. وظل أسمه يردد ويذكر بالخير والمديح كلما ذكر كباب كركوك..!!
* الحكاية معروفة ومتداولة لدى الكثيرين من اهل كركوك.وتجنبنا الاشارة الصريحة الى شخوص الحكاية باسمائهم الحقيقية، تلافياّ للاحراج.
956 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع