فارس حامد عبد الكريم*
تعد فكرة العدل من أقدم الفضائل الإنسانية التي تعبر عن رغبة أصيلة لدى الإنسان في إحقاق الحق ورد الظلم في كل مكان وزمان، فالعدل حقيقة ثابتة وغاية تندفع إليها النفس الإنسانية بالفطرة، ولهذا تبنتها القوانين القديمة والحديثة كغاية يسعى القانون لإدراكها. واكتسبت فكرة العدل عبر التاريخ كثير من الدلالات المختلفة. قال الله تعالى في محكم كتابه:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً). النساء: الآية 58
العدل في اللغة: العَدل: أحد مصادر عَدّل يَعدل. والمصادر الأخرى لهذا الفعل، العدالة، العُدولة ، المعدلة. وقد فرّق اللغويون، بين العِدل بالكسر، والعدل بالفتح. فأطلقوا الأول على ما يدرك بالحواس. والمراد به نصف الحِمل. بينما أطلقوا الثاني، على ما يدرك بالبصيرة. وعرّفوا هذا الأخير بأنّه (ما قام في النفوس انه مستقيم). ويميز الفلاسفة بين أربعة فضائل أساسية ينبغي ان تحكم سلوك الإنسان هي:
التبصر، العدل، ضبط السلوك الاجتماعي، والجلد والشجاعة.
ومن بين هذه الفضائل الأربعة يرتبط التبصر والعـدل بعلم القانون، والتبصر وهو فضيلة عليا تتمثل في القدرة على إعمال العقل والتفكير السليم الموجه للتصرفات والأعمال للوصول إلى الغاية المنشودة، وينبغي أن يقوم العمل التشريعي والقضائي ومعيار السلوك المطلوب من الأفراد على أساس التبصر.
ولذلك اعتبر الفلاسفة وعلى مر التاريخ ان خير تعريف للعـدل هو ما وضعه الإمبراطور الروماني جستنيان في مدونته بقوله:(العــدل هو حمل النفس على إيتاء كل ذي حـق حقـه والتزام ذلـك عـلى وجـه الـدوام والاسـتمرار).
التمييز بين فكرتي المساواة القانونية والمساواة الفعلية
يعود التمييز بين هاتين الفكرتين الجوهريتين إلى فلاسفة اليونان القدماء وخاصة (ارسطو)، وكذلك يميز الفقه القانوني الحديث بين ما يعرف بالمراكز القانونية المتعددة، فقد ميز أرسطو بين صورتين أساسيتين للعدالة:
الأولى هي العدالة التوزيعية (المساواة القانونية): وهو العدل الذي يسود علاقة الجماعة بالأفراد باعتبارهم أعضاء في جماعة سياسية هي الدولة وتطبق على الأموال والحقوق والواجبات العامة، وتهدف إلى أن يحصل كل عضو من أعضاء الجماعة على قدر مناسب لاستحقاقه بحسب كفاءته او قابلياته العقلية أو ما قدمه من خدمات وتضحيات لمجتمعه. فما دامت العدالة هي المساواة وان الظلم هو عدم المساواة، فان العدالة التوزيعية تقتضي ان تعالج الحالات المتساوية معالجة متساوية، ويترتب على ذلك انه إذا وجد شخصان غير متساويين، وجب أن لا يحصلا على ما هو متساو. ويذهب خطيب روما الشهير سيشرون إلى القول: ( إن العدالة التي تساوي بين خيار الناس وأشرارهم هي ستار للظلم ). ومنبع الشكوى والشجار حسب أرسطو أن تعطي المتساويين حصص غير متساوية، او أن تمنح غير المتساويين حصص متساوية.
ويلاحظ أرسطو إن الناس جميعاً يتفقون على إن العدالة في التوزيع يجب أن تجري وفقاً للاستحقاق إلا أنهم يختلفون في فهم المقصود من الاستحقاق.
وعبر الرومان عن هذه الصورة من العدالة كما وردت في مدونة جستنيان بالقول ان: ( مساواة غير المتساويين ظلم فاحش).
ويعبر عنها في الفقه القانوني المعاصر بفكرة المراكز القانونية التي تقوم على أساس التمييز بين المساواة القانونية، وهي المقصودة في هذا المقام، وبين المساواة الفعلية.
وطبقاً للمساواة القانونية ( العدالة التوزيعية ) فان ليس كل الناس متساويين أمام التعيين في الوظيفة العامة مثلاً، بل يتساوى منهم فقط من يحمل نفس الشروط والمؤهلات، وباختلاف المؤهلات يختلف الراتب والمزايا الوظيفية بما يعبر عنه في فقه القانون الاداري بـ (السلم الاداري). ومن جانب أخر فأن العدالة التوزيعية تمثل وجه من أوجه حقوق الإنسان كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وسمي هذا العدل توزيعياً لأنه يتولى توزيع خيرات الجماعة والواجبات تجاه الجماعة بين أفراد تلك الجماعة كل حسب مؤهلاته ومقدار ما يقدمه للمجتمع من خدمات فكرية او مادية او ما يقدمه من تضحيات لمصلحة وطنه ومجتمعه.
وجاء في المادة الأولى من إعلان حقوق المواطن الفرنسي الوارد في مقدمة دستور سنة 1789 بالنص على انه: (يولد الناس ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق ولا تقوم التمييزات الاجتماعية إلا على أساس من المنفعة العامة).
أما الصورة الثانية للعدالة بحسب تصوير أرسطو فهي العدالة التبادلية أو التعويضية (المساواة الفعلية): فهو العدل الذي يسود علاقات الأفراد فيما بينهم فيوازن بين المنافع او الأداءات المتبادلة، وهي تخضع لمبدأ المساواة أيضا ولكن المساواة هنا فعلية وليست قانونية. فتقدر الأفعال او الأشياء بالنسبة إلى قيمتها الموضوعية طبقاً لمعادلة حسابية، بغية وضع كل طرف في مركز مساو تجاه الأخر، ولا يعتد هنا بالاعتبارات الخاصة بكل فرد كما هو الحال في العدل التوزيعي، وتطبق في حالات العقد والفعل الضار وأية رابطة خاصة أخرى.
فمركز المتعاقدين، مثلا، متساو من ناحية العدل التبادلي، فإذا استلم احد الطرفين المتعاقدين أكثر مما يستحق أو اقل وجب الرد وإيجاد التوازن لتحقيق العدل، وإذا الحق احدهم بآخر ضرراً وجب عليه التعويض. بغض النظر عن كونه من القادة أو من الأفراد العاديين او من الأغنياء او من الفقراء من النساء او من الرجال فالعدل التوزيعي يحمي الإنسان لذاته بغض النظر عن مركزه الاجتماعي او الديني او المالي او السياسي او مستواه العقلي.
ولا غرابة إن كان هناك ارتباط وثيق، بين الحديث عن الفضيلة في علم الأخلاق، وبين الحديث عن العدل، بل يمكن القول، إن العدالة هي رأس الفضائل في أي مذهب من المذاهب الأخلاقية المعروفة. وعلى هذا النحو يعرّف أفلاطون العدالة بأنها نظام في النفس يكفل لها جمالاً وانسجاماً.
فالعدل في حقيقته ومعناه ليس بخاصية من خصائص القانون وليس هو ظاهرة من ظواهر المجتمع، بل هو فضيلة وسلوك للإنسان في علاقاته الاجتماعية ينبغي أن تتحقق ولو لم يكن هناك قانون أو دولة بسبب ظروف قاهرة معينة.
ذلك ان الفضيلة تعني استعداداً دائماً ومستمراً للنفس البشرية لفعل الخير ورد الشر، فالفضيلة تحمل طابع الدوام والثبات والتعود، أما إذا اتخذ السلوك الفاضل صفة التقطع فلا يعد فضيلة، لان التقطع يرتبط بالانتهازية والتحيز وربط الموقف الأخلاقي بالمصالح الأنانية، وعلى هذا النحو فان الإنسان إما ان يكن عادلا وفاضلاً على طول الخط أو لا يكون.
ـــــــــــــــــ
*استاذ جامعي ـ النائب السابق لرئيس هيئة النزاهة.
1238 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع