من «الماكدونالدز» إلى برامج الواقع

                                       

                        د. منار الشوربجي

جدل شديد دار لعدة أسابيع في أميركا، بشأن خطاب عنصري أطلقه صاحب واحد من أشهر "برامج الواقع". إنه فيل روبرتسون صاحب برنامج "سلالة البط"، وهو واحد من أشهر "برامج الواقع" وأكثرها نجاحاً ومشاهدة، فقد وصلت نسبة متابعته في موسمه الرابع إلى ما يزيد على 11 مليون مشاهد، وهي أعلى نسبة مشاهدة على الإطلاق لمثل هذا النوع من البرامج.

وفي أحد الحوارات التي أجريت معه مؤخرا، قال روبرتسون، الذي ولد في إحدى ولايات الجنوب الأميركي (التي كانت الأكثر تمسكا بتجارة العبيد ثم الأكثر دعما للفصل العنصري)، إن سود أميركا كانوا سعداء في زمن العبودية والفصل العنصري، "فالكل في المنطقة التي كنا نعيش فيها كانوا مزارعين، والسود كانوا يعملون لدى أولئك المزارعين... كانوا يغنون وكانوا سعداء، ولم أسمع أبدا شكوى من أحد منهم. فقبل زمن برامج الرفاهية الاجتماعية والأحقيات كانوا سعداء".

والحقيقة أنه لا جديد في ما قاله الرجل، فالفكرة التي عبر عنها صارت منتشرة في أوساط المتعصبين البيض، بل إن ما قاله روبرتسون يقوله بعض رموز أقصى اليمين الأميركي.

ومثل ذلك الخطاب لا يرقى أصلا لمستوى المناقشة الجادة، ففضلا عن عنصريته الفجة، لا علاقة له بالتاريخ ولا بالواقع، لأن السود كانوا في تلك المرحلة يعلقون على الأشجار ويجلدون، وسط دائرة من "المشاهدين" البيض الضاحكين والمستمتعين بتلك الوحشية العنصرية، وكانت تلك أيضا هي المرحلة التي عانوا خلالها كل أشكال القهر والتمييز. والمدعو روبرتسون يؤكد على سلامة موقفه بالقول ان أحدا من السود الذين عرفهم وقتها لم يشك له، رغم أن الطبيعي كان ألا يقول السود شيئا للبيض أمثال روبرتسون عن معاناتهم، إيثارا للسلامة وخوفا من المزيد من الاضطهاد.

غير أن اللافت للانتباه، أن خطاب الرجل لاقى انتقادات واسعة لم تمتد إلى "برامج الواقع" التي يقدم إحداها روبرتسون، والمسؤولة عن ترديد أكثر الخطابات سخفا وتفاهة. وبرامج الواقع صارت واحدة من التجليات المعاصرة للثقافة الشعبية الأميركية، وهي تسمى كذلك لأنها تضع كاميرا حقيقية في بيت إحدى العائلات لتقوم بتصوير "واقع" حياتها. فهي تنقل تفاصيل ما يجري لحظة بلحظة، بما في ذلك تفاصيل الحياة الشخصية لكل فرد من أفرادها، وقد صار لذلك النوع من البرامج شعبية هائلة.

وروبرتسون هو رأس إحدى العائلات التي يعرف المشاهد كل واحد من أفرادها معرفة كاملة، فهي مكونة من روبرتسون وزوجته وأبنائهما وأزواج أبنائهم وأصدقائهم، فضلا عن أخ روبرتسون وزوجته. ويعرف المشاهد أن روبرتسون من الذين لا يحبون التكنولوجيا ويخشى من أن ينحرف أحفاده، وزوجته تدعى "كيي" تحب الطهي وتجمع أسرتها على مائدة العشاء يوميا بعد يوم عمل مجهد. وللأبوين ثلاثة من الأبناء وابنة واحدة، ولكل ابن زوجة، ويعرف المشاهد تفاصيل حياة كل ابن وأسرته الصغيرة.

ثم إن روبرتسون له أخ يدعى "سي"، وهو من محاربي فيتنام ويحب الحكي والقصص، ومتزوج من كريستين. والعائلة تخصصت منذ زمن في إنتاج وتسويق الأجهزة التي تطلق صوتا جاذبا للبط عند اصطياده، ومن هنا جاء اسم "سلالة البط"، وقد حققت الملايين من تلك التجارة. هذا فضلا عن أنها أسرة متدينة محافظة، ولأفرادها شكل مميز، حيث يطلق رجالها لحى طويلة وعجيبة، ويرتدي كل أفرادها، نساء ورجالا، ملابس فريدة. وفي نهاية كل حلقة تجتمع العائلة على مائدة الطعام، فيصلي روبرتسون وتصلي معه العائلة.

ولبرامج "الواقع" شعبية جارفة، لأن المشاهدين يهربون إلى تفاصيلها من واقعهم ومشكلاته. وهي شعبية تشبه إلى حد كبير شعبية المأكولات الأميركية السريعة، فهي سهلة لا تحتاج جهدا من أي نوع. ومثلما تتميز المأكولات الأميركية السريعة كـ"الماكدونالدز" و"الكنتاكي" بأنها مليئة بالملح والدهون الضارة بالصحة، فإن برامج الواقع مليئة بالتفاصيل التافهة التي تضر بالعقول.

فهي تؤدي إلى تسطيح العقول، عبر متابعة شخصيات وسلوكيات وأمور لا أهمية لها على الإطلاق. فالمشاهد لا يتلقى منها أية معرفة من أي نوع، ولا يتابع من خلالها فنونا مثلا، ولا حتى قصة ذات مغزى. فهي مجرد تفاصيل لحياة أسرة كل تميزها أنها أسرة حققت ثراء، والأميركيون يعشقون التعرف على حياة الناجحين.

لكن خطورة تلك البرامج أنها تسمح لأفراد العائلة بالتعبير عن آرائهم "الخام"، إذا جاز التعبير، والتي تنزلق في الكثير من الأحيان للعنصرية أو الذكورية أو غيرها من الأمراض الاجتماعية، الأمر الذي يكرس تلك الأفكار ويجعلها "طبيعية" لا تثير انتباه المشاهد ولا استهجانه، من كثرة تكرارها، وهو الأمر الذي تجلى بالفعل في الدفاع القوي الذي حظي به روبرتسون رغم ما قاله. والكثيرون ممن يعملون في مجال الإعلام، انتقدوا ظاهرة برامج الواقع تلك من زوايا أخرى.

فهي لا علاقة لها بالحقيقة، وبعيدة تماما عن "الواقع". فالكاميرا التي تسجل ما يجري في بيت العائلة لحظة بلحظة، لا يتم عرض كل ما تلتقطه. فالقائمون على البرنامج التلفزيوني يختبرون كل تلك المادة، ويختارون منها ما يصلح "حلقات" للعرض. ثم إن أفراد العائلة يعرفون أن لفتاتهم وهمساتهم مسجلة، فيؤثر ذلك بالضرورة على أدائهم. بل أكثر من ذلك، فما يراه المشاهد على الشاشة ليس تلقائيا، إذ يعترف القائمون على تلك البرامج بأنهم يختارون كثيرا موضوعات الحلقات بشكل مسبق. وكثيرة هي التنويعات على فكرة برامج الواقع، لكنها كلها لها السمات نفسها في تسطيحها للفكر وابتعادها عن الواقع.

المؤسف في الأمر أن برامج الواقع، التي هي جزء من الثقافة الشعبية الأميركية لا العربية، بدأت تتسرب تدريجيا لإعلامنا. فمن "الماكدونالدز" لبرامج الواقع، ننقل أحيانا من باب التقليد أو الانسحاق في ما هو غربي.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

854 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع