عادل حبه
أخيراً توصلت ايران مع الدول الست في جنيف بعد أشهر من المباحثات المضنية إلى اتفاقية حول الملف النووي الايراني وذلك في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013.
ووضعت هذه الاتفاقية حداً للأزمة الدبلوماسية الذرية، وأرست حلاً مؤقتاً للتوتر الخطير بين الغرب وايران والذي كان يمهد لمواجهة عسكرية خطيرة في المنطقة. ولم يكن بالامكان التوصل إلى هذا الاتفاق دون تقديم تنازلات من الطرفين من أجل تجنب حريق في المنطقة، إضافة إلى التمهيد لإيجاد حلول للمواجهات الطائفية الخطيرة وخاصة الأزمة السورية وما سببته من نتائج سلبية على عموم بلدان المنطقة دون أن تعود هذه المواجهات بأية نتائج ايجابية على أي طرف من أطراف الصراع الطائفي فيها.
إن الاستراتيجية الجديدة لرئيس الجمهورية الايرانية الجديد كما أعلنها قبل وبعد انتخابات الرئاسة قائمة على التخفيف من الأزمة التي تعصف بالمنطقة وبالعلاقات بين ايران والغرب. فقد تسببت هذه الأزمات، وخاصة أزمة الملف النووي، في عواقب خطيرة على الاقتصاد الايراني وعلى علاقات ايران مع العالم. إن تراجع انتاج وتصدير النفط الإيراني ومخاطر ردم الآبار النفطية الإيرانية جراء تراجع استثمارها شكلت أكبر تهديد للقدرة الاقتصادية والعسكرية والأمنية والقمع وتأمين النفقات الباهضة لاستمرار السياسة الخارجية المغامرة وخاصة في الشرق الأوسط. لقد انفق حكام ايران لحد الآن مبلغ 170
مليار دولار على برنامجهم النووي والمنشآت النووية، وهي منشآت أقيمت خصيصاً للحصول على قنبلة نووية وليس لممارسة النشاطات السلمية والعلمية والتكنولوجية أو لتوليد الطاقة. فتوليد الطاقة في إيران هو أقل كلفة لو جرى استثمار الغاز الطبيعي والطاقة الشمسية وبقية مصادر الطاقة المتوفرة في ايران. فتخصيب اليورانيوم من أجل توليد الكهرباء ليس له أي مردود اقتصادي. فمحطة بوشهر يجري تأمين وقودها النووي من قبل روسيا لمدة عشر سنوات قادمة. وبعد ذلك فإن توفير الوقود في السوق الدولية هو أقل كلفة من توفيره في الداخل، خاصة وإن معادن اليورانيوم الموجودة في ايران لا تستطيع تأمين الوقود اللازم للمحطات النووية إلاّ لمدة سبع سنوات، وبعد ذلك ستضطر ايران إلى تأمين اليورانيوم الخام من الخارج وبأسعار باهضة.
لقد تركت الحمى النووية لدى قادة ايران آثاراً سلبية على المجتمع والحياة اليومية للمواطن الايراني الذي دعم روحاني في الانتخابات الأخيرة بمجرد تلويحه بورقة تخفيف التوتر مع بلدان المنطقة ومع العالم والسعي لحل مشكلة الملف النووي. لقد قامت القيادة الايرانية في البدء بإخفاء كل نشاطها النووي والتستر على منشآتها النووية، بحيث وصل عدد أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم إلى 19000 جهاز. وقامت القيادة الايرانية بتطوير الاسلحة الصاروخية، وشن حملة شعواء على الغرب. ولكن نتيجة هذه السياسة لم تحقق اهداف القيادة الايرانية، وعادت بالضرر على الشعب الايراني و وضعت ايران في القائمة السوداء دولياً. فبعد ثماني سنوات من المواجهات الحادة والتهديدات المتبادلة مع الغرب، ومكابرة التيار المتطرف الحاكم في ايران، أدركت جميع أطراف الحكم في ايران إن "القنبلة الذرية" لا تنقذ البلاد من مأزقها، ولا تعزز مواقعها الدولية، ولا يمكن أن تمهد الطريق لفرض سيادتها على المنطقة أو أن تتحول إلى شرطي فيها على غرار ما كان يحلم به الشاه. عندها أدرك القادة الايرانيون أن لا مناص أمامهم لانقاذ البلاد من الكارثة المحدقة سوى التراجع عن برنامجها المكلف والمؤذي وإعادة النظر بالموقف العدائي المطلق للغرب، كي يمهد ذلك إلى رفع العقوبات وازالة العزلة التي تعاني منها ايران. لقد اقتنعت الغالبية من أطراف الحكم في ايران وبمن فيهم خامنئي، وبعد شعارات وصراخ أحمق دام ثماني سنوات، بالقبول بالجلوس مع "الشيطان الأكبر وحلفائه" والتوصل إلى اتفاق. وبذلك فهم يكررون نفس ما أقدم عليه الخميني عندما تجرع "كأس السم"، وقبل بقرار مجلس الأمن المرقم 598 الصادر في عام 1988 والقاضي بالتفاوض مع صدام حسين لانهاء الحرب العراقية الإيرانية المدمرة. وهاهم حكام ايران يتجرعون الجرعة الأولى من السم عند التوقيع على اتفاقية جنيف مع الدول الست.
لقد بدأ تراجع حكام إيران عن "احلامهم النووية" منذ بدء حملة انتخابات الرئاسة الايرانية، حيث هاجم جميع المرشحين تطلعات أحمدي نجاد النووية، باستثاء المرشح
المتطرف جليلي. وأقدم حكام إيران على هذه الخطوة بعد خوضهم مفاوضات سرية مع ممثلي وزارة خارجية الولايات المتحدة والدول الغربية وروسيا قبل أشهر من مؤتمر جنيف وقبل انتخاب حسن روحاني بمنصب رئاسة الجمهورية. وهذا يدل على ذوبان جليد العلاقات الامريكية الايرانية التي دامت قرابة 34 سنة. إن الاتفاقية هي مؤشر على تداعي المنظومة الايديولوجية للنظام والتي قامت على شعارات " الموت لأمريكا" و "الهزيمة للاستكبار العالمي و" الطاقة النووية حقنا المطلق"، تماماً كما تراجع النظام أيديولوجياً وقبل بانهاء الحرب العراقية الإيرانية وتنازل عن شعارات " حرب..حرب..حتى النصر" و "فتح القدس عبر كربلاء"، التي كانت تعتبر شعارات مقدسة لا يمكن المساس بها، وذلك من أجل تفادي الكارثة الانسانية والخراب الذي حلّ بالبلد. وهكذا تهشم "الأيقون" الايديولوجي والسياسي لحكام التطرف الديني الايراني من جديد في عام 2013 بعد توقيع حكام ايران على اتفاقية جنيف تماماً كما تهشم في آب عام 1988 وأدى إلى انهاء الحرب العراقية الإيرانية. لقد انهار مع التوقيع على اتفاقية جنيف خرافة حكام إيران في أن يلعبوا دورالشرطي في المنطقة، وأن يروجوا لموضوعة قدرة رجال الدين على أن يلعبوا دورا متزايداً في المنطقة وفي ايران نفسها عبر نظام " ولاية الفقيه".
لقد تراجع حكام ايران عن طموحاتهم السابقة بعد توقيعهم على هذه الاتفاقية. فلقد التزمت القيادة الايرانية بوقف تخصيب اليورانيوم بنسبة لا تتجاوز 5%، وتفكيك كل المعدات التي تتجاوز هذه النسبة. وهذا يعني أنه خلال الستة أشهر القادمة سيصل المخزون من اليورانيوم المخصب إلى الصفر. كما التزم الجانب الايراني بتحديد مخزونها من اليورانيوم بنسبة تقترب من 20%. كما التزم الجانب الايراني بوقف أي تقدم في قدرة التخصيب من خلال عدم نصب أية أجهزة جديدة للطرد المركزي وعدم استخدام اجهزة جديدة من الجيل التالي من هذه الاجهزة، وتعطيل نصف أجهزة الطرد المركزي المنصوبة في موقع "نطنز"، وثلاثة أرباع أجهزة الطرد المنصوبة في موقع "فوردو" كي لا يتم استخدامها في التخصيب. ووافق الطرف الايراني على عدم تشغيل مفاعل "آراك" وعدم تزويده بالوقود ووقف انتاج الوقود فيه، إلى جانب عدم نقل مياه ثقيلة لموقع المفاعل. والتزم الجانب الايراني بإتاحة المجال بصفة يومية لمفتشي وكالة الطاقة الذرية لدخول مفاعل "نطنز" و"فوردو"، وسيسمح كذلك للمفتشين بمراجعة ما صورته الكاميرات لضمان المراقبة الشاملة. وسيوفر هذا شفافية أكبر لما يتعلق بالتخصيب في هذين الموقعين ويقلل زمن رصد أي تجاوز في الالتزام بالاتفاق. وتتضمن الاتفاقية أيضاً عدداً من الالتزامات التي تضع ايران في موقف يصعب عليها انتاج قنبلة نووية. هذه الموافقة جاءت أيضاً لشعور القيادة باحتمال توجيه ضربة عسكرية لا يمكن لايران مواجهتها. وبذلك حذت القيادة الايرانية حذو القيادة السورية التي وافقت على وضع الترسانة الكيمياوية تحت تصرف الأمم المتحدة لتجنب أية ضرية عسكرية لها.
وبموجب هذا الاتفاق، التزمت الولايات المتحدة بتجنب أي أزمة عسكرية وسياسية غير محسوبة العواقب في المنطقة، خاصة بعد تجربة غزو العراق المكلفة. فقد أصبحت المسألة الأساسية لإدارة أوباما هي البحث عن طرق تفادي الحملة العسكرية والحرب التي لا تلقى أية شعبية في الولايات المتحدة ولا في الدول الغربية. فالرئيس أوباما نفسه هو الذي شدد على انهاء العمليات العسكرية في العراق، وحصل جراء ذلك على جائزة نوبل للسلام. وشهدت إدارته خروج القوات الأمريكية من العراق. وقد عبّر عن هذا التوجه جن بساكي الناطق بأسم وزارة خارجية الولايات المتحدة قائلاً:" أظن إننا أمام خيارات متعددة، ونريد أن نطرق الطريق الدبلوماسي ومدى نفعه بالنسبة لنا". ويضيف الناطق :" إن الطريق الديلوماسي هو الافضل، وقد أوضح رئيس الجمهورية باراك أوباما أثناء اجتماع لمجلس الأمن القومي إن التوصل إلى حل سلمي يقطع الطريق على ايران في انتاج السلاح النووي ويصب بعمق في مصلحة الأمن الوطني للولايات المتحدة". إن الولايات المتحدة كانت تسعى إلى التوقيع على اتفاقية من شأنها فرض الحصار السياسي على ايران، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر خطوات تدريجية. وهذا ما عبّر عنه جان كيري وزير الخارجية حيث أشار:" إنها الخطوة الأولى آمریکا، ولكن المهم أن الاتفاقية لا تسمح لايران بالمضي قدماً إلى الأمام. ولكننا سنصل في الخطوات اللاحقة الى الاتفاق مع مجمل البرنامج النووي الايراني". وهو تعبير عن أن الولايات المتحدة وحلفائها سيظلون عيناً مفتوحة على نشاط طهران النووي.
لقد عملت الدول الغربية وروسيا على التوصل إلى هذا التفاق، لما للسوق الايراني من أهمية بالنسبة لفرنسا وألمانيا على وجه الخصوص. وبالطبع، رحبت روسيا بحماس بهذا الاتفاق لما له من أهمية اقتصادية وسياسية بالنسبة للجانب الروسي، إضافة إلى كونه يمثل قدراً من الانتصار السياسي في سعي روسيا والصين إلى الحد من انفراد الولايات المتحدة بإدارة الملفات الدولية. وهكذا وقفت روسيا والصين أيضاً لمنع توجيه أية ضربة عسكرية إلى أيران وتشديد الحصار عليها، كما وقفت هاتين الدولتين ضد توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا حليفة ايران.
ولابد أن تلقى الاتفاقية قدراً من عدم الترحيب من أطراف متطرفة دينية وحتى قومية داخل ايران، والتي تخشى من أن تمهّد هذه الاتفاقية الطريق للحد من نظام الحكم الثيوقراطي القمعي المتطرف، وفتح الطريق أمام الحد من انتهاك الحريات العامة والاكراه الطائفي. ولكن هناك صقور في المنطقة لا ترضى بأي حل سوى الحل العسكري لدوافع لا تخدم الاستقرار المنطقة ولا تجنبها عواقب المواجهات الطائفية أو المواجهات بين العرب واسرائيل وضمان بقاء اسرائيل كشرطي المنطقة. فلامتطرفون الاسرائيليون لا يمكن لهما ترويج بضاعتهم إلا عن طريق التلويح بالخطر الخارجي وتقديم خدماتهم للغرب كما حدث
في سنوات الحرب الباردة. ولكن طرأ تغيير لا يعيه القادة الاسرائيليين، وبرز هذا التغيير في تخلي عن الدعم اللامشروط للتطرف الاسرائيلي. وهناك بوادر مماثلة قد تطرأ على الموقف الأمريكي . إن ردة فعل الجناح الاسرائيلي المتطرف الحاكم وعلى لسان رئيس الوزراء نتانياهو كان شديداً في معارضة الاتفاق ولا يختلف عن مواقفه في سنوات الحرب الباردة. ففي لقاء له مع شبكة "سي أن أن" الامريكية أشار نتانياهو:" إن الاتفاق هو خطأ كبير جداً تجاه أخطر حكومات القرن 21، حيث قدمت قنبلة نووية هدية لها". وفي لقاء آخر له مع الصحيفة الألمانية "بيلد"، أشار نتانياهو إلى :" أنه إذا لم يجر حرمان إيران من القدرة على انتاج السلاح النووي، فإن المدن الألمانية ستصبح هدفاً للصواريخ الذرية الايرانية". ولكن لا يتفق سياسيون اسرائيليون مع هذا التوجه، فقد أشار رئيس الدولة العبرية شمعون بيريز أن " هذه الاتفاقية مؤقتة وليست دائمة، واننا سنستطيع الحكم على نتائجها على الأرض وليس بالكلام".
وتقف العربية السعودية وبعض دول الخليج على نفس سكة حكام التطرف في اسرائيل، ولكن لدوافع أخرى طائفية متطرفة وتخوض حرباً طائفية في المنطقة مع التطرف الطائفي الايراني. وقد عبر عن ذلك بوضوح الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد في جريدة الشرق الأوسط مشيراً إلى أنه :" في الوقت الذي يمارس اوباما العشق مع إيران، فإنه لم يتقدم خطوة من أجل جلب الطمأنينة لحلفائه ويلجم أيادي العساكر في ايران وسورية من ارتكاب الجرائم الفظيعة على الأراضي السورية. أن أمريكا تردد بأنها لا تسمح لإيران بممارسة مثل هذه الأفعال، في الوقت الذي أدى صمت أمريكا إلى حدوث أكبر فاجعة في تاريخ المنطقة.....إن إيران تسعى من وراء هذه الاتفاقية أن تصبح يدها ممتدة إلى جميع زوايا المنطقة". ويذهب الأمير طلال بعيداً في رد فعله على الاتفاقية ليعلن باسم "سنة العالم العربي"!!! في حديث له مع الصحفي الأميركي الشهير "جيفري هيلدبرغ" لشبكة "بلومبيرغ" الاقتصادية:"إن المسلمين السنة في العالم العربي يقفون وراء إسرائيل ويدعمون أي هجوم تقوم به على إيران لتدمير برنامجها النووي، ولو أنهم لا يصرّحون بذلك علنا". وزعم الامير السعودي في حديثه:" إن الرئيس الأميركي في ضائقة سياسية عشية الانتخابات البرلمانية التي ستبدأ حملتها في غضون شهرين، ولهذا اندفع إلى إبرام صفقة مع إيران!".
ورحبت غالبية أطراف المعارضة الايرانية كفدائيي خلق واتحاد الجمهوريين الايرانيين وبعض الأطراف الأخرى بالاتفاق. وأصدر حزب توده ايران بياناً بالمناسبة جاء فيه:" يعتقد حزب توده ايران والقوى التقدمية في بلادنا، التي أصابها القلق في السنوات الأخيرة على السلم والسيادة الوطنية وعواقب الحصار الواسع الذي تعرضت له البلاد. إن هذه الاتفاقية في حالة تخفيفها للخناق الاقتصادي عن رقاب الشعب الكادح، وتدفع المنطقة إلى جادة الهدوء والسلام، فإنها تُعد بالتأكيد خطوة ايجابية الى الأمام.
30/11/2013
1553 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع