المذكرات الشخصية و كتابة التأريخ

                                            

أنا أفعل شيئأ لم يفعله شخص قبلي ولن يقدر شخص بعدي على تقليده»
جان جاك روسو

يلجأ الكثير من الناس الى كتابة يومياتهم بشكل منتظم أو على نحو متقطع بين آونة وأخرى وقلما تجد مثقفاً او متعلماً لم يجرب الكتابة عن نفسه خلال حياته، كما يحرص العديد من الرؤساء والساسة والأدباء والمفكرين على تدوين مذكراتهم الشخصية أو سيرهم الذاتية. ولكن الدوافع والأهداف قد تكون مختلفة، كما أن يوميات الناس العاديين تختلف عن مذكرات وسير المشاهير في أسلوب التدوين ومدى الصدقية والشفافية والأهمية.
اليوميات و المذكرات الخاصة غير المخصصة للنشر :
الشخص غير المشهور قد يلجأ الى تسجيل تفاصيل الأحداث الخاصة في حياته وأنطباعاته عن الأشخاص الذين تعامل معهم أوعن لحظات حميمة في حياته تركد آثاراً عميقة في نفسه لا يرغب أن يطويها النسيان ويود تخليدها، وقد تحتوى هذه اليوميات على أحداث غيرت مجرى حياته فيعيد قراءتها والتأمل فيها لاحقاً من أجل مراجعة مدى تطور نظرته الى الحياة بمضي الزمن، خاصة اذا كانت الأيام قد تغيرت وتغير معها نظرته الى الحياة والناس، فهو يحن الى تلك اللحظات وفي الوقت نفسه يستخلص منها العبر. وثمة من يعمد الى تسجيل يومياته تحت وطأءة ظروف قاسية كوسيلة هروب من الواقع المرير. وربما تتضمن اسراراً واعترافات عن خصوصيات صاحبها لا يريد البوح بها لأحد أو يطلع عليها الآخرون ما دام حياً. وبطبيعة الحال فأن مثل هذه اليوميات والمذكرات أشبه بأنطباعات ذاتية وذكريات خاصة، لا يهم أحداً غيرصاحبها او بعض اقرب المقربين اليه ولا تكتب لغرض النشر، سواء خلال حياة صاحبها أو بعد وفاته.
المذكرات الشخصية او السير الذاتية للمشاهير :
اما المذكرات الشخصية والسير الذاتية للمشاهير من رجال السياسة والفكر والأدب والفن، فأمرها مختلف تماما، فهم يحرصون على كتابة تفاصيل حياتهم وأعمالهم بعد خروجهم من السلطة او إحالتهم الى التقاعد أو أعتزالهم وذلك بهدف النشر عاجلا ام آجلاً. وقد يفضل البعض منهم، نشر مذكراته أو سيرته الذاتية بعد وفاته خشية تعرضه للمساءلة في ظل الأنظمة التى تضَيق الخناق على حرية الرأي والتعبير او لأحتواءها على أفكار جريئة تتخطى المحرمات الأجتماعية (التابوهات )- وما أكثرها في مجتمعاتنا الشرقية المتزمتة – أو أسرار وعلاقات حميمة يتهيب من كشفها، حفاظاً على علاقاته ومكانته وعلى القيم السائدة في المجتمع الذى ينتمى اليه. واليوميات لدى المشاهير عموماً سواء السياسيين منهم او رجال الفكر والثقافة، هي المادة الخام التي يستخدمونها لكتابة مذكراتهم الخاصة وسيرهم الذاتية وثمة رغبة مشتركة لديهم تتمثل في تخليد ذكراهم وأدوارهم بعد رحيلهم عن الحياة. وتختلف مثل هذه المذكرات والسير الذاتية الى حد كبير عن يوميات او مذكرات الناس العاديين الذين لا يفكرون يوما في نشرها. لذا فأن يوميات الشخصيات البارزة – على خلاف الأفراد العاديين - تفتقر الى الصدقية والشفافية أحياناً، حيث يحاول أصحابها تجميل وتلميع صورهم وابراز دورهم في الأحداث التى شاركوا في صنعها أو كانوا شهوداً عليها. لأنهم يتوقعون اطلاع الرأى العام أو القراء على مذكراتهم الشخصية بعد نشرها. وهذا ما يدفعهم الى تقديم انفسهم لقرائهم على أحسن صورة. والأهتمام بتدوين ما يرفع من شأنهم ويعزز دورهم في الأحداث التى أسهموا في صنعها أو كانوا شهوداً عليها وقد يتجاهلون عن عمد تسجيل وقائع كان لهم ضلع فيها أوقد تسىء اليهم خلال حياتهم أو بعد وفاتهم، كما أن من الخطورة ان يدون صاحب المذكرات - في ظل أنظمة غير ديمقراطية - كل ما يعرفه من حقائق وأسرار قد يشكل خطراً على حياته.
المذكرات الشخصية مصدراً لكتابة التأريخ :

إن المذكرات والسير الذاتية متفاوتة القيمة وتتوقف أهميتها على عوامل عديدة ولا يمكن التعويل عليها كثيراً كمصدر لكتابة التأريخ الا بعد نظرة تحليلية فاحصة، يتم من خلالها الأحاطة الدقيقة بشخصية كاتبها وموقعه ودوره في الأحداث التى يتحدث عنها وبالتالى مدى اطلاعه على تفاصيل تلك الأحداث ومدى التزامه بالموضوعية والحيدة في سرد مذكراته وهى شروط قد لا تتحقق الا نادراً، ذلك لأن المذكرات والسير ذات طابع ذاتى ومن الصعب على أي انسان ان يتجرد من أهوائه وميوله وآرائه ورؤيته للحياة خلال تدوين تفاصيل الأحداث، التي كان طرفاً فيها. المذكرات الشخصية، ليست توثيقاً غير منحاز لحوادث الماضي ولكنها اعترافات وتبريرات واتهامات وتأملات شخصية وذاتية. ليس ذلك نقصاً ولا مثلمة فيها، بل صفة ملازمة لها والتى تعكس بصمات المؤلف والزمن الذى عاش فيه. صاحب المذكرات يود في المقام الأول ان يظهر او يبرز دوره في الأحداث التى يسردها وعلاقة هذه الشخصية المهمة او تلك بصاحب المذكرات. المصدر الرئيس لصاحب المذكرات هو ذاكرته الشخصية ومن المهم ملاحظة مدى امكانية الأعتماد عليها ومدى قدرة المؤلف على تقديم المعلومات عن الحدث بدقة، رغم ان التزام الصمت بصدد بعض المعلومات وعدم التطرق إليها لا يدل على ضعف الذاكرة .بل يشير الى وجود شكل ما من أشكال الرقابة الرسمية او الذاتية. وتكتسب المسافة الزمنية الفاصلة بين وقوع الحدث وبين تأريخ الكتابة عنه اهمية كبيرة وكلما كانت هذه المسافة أكبر كان احتمال التحريف وضياع التفاصيل ونسيان الأسماء اكثر. ومن ناحية أخرى فأن وجود فترة زمنية معقولة يفصل بين تأريخ وقوع الحدث وزمن تسجيله، يسمح بتقييم الماضى بهدوء أكثر والنظر بموضوعية الى الذات وتمييز المهم عن غير المهم. إحدى الطرق الفعالة لتدقيق تكامل وصدفية المذكرات هي مقارنتها مع المصادر الأخرى التى لها علاقة بالحدث الذى يتحدث عنه المؤلف. ومن الأهمية بمكان، معرفة المصادر التى استقى منها صاحب المذكرات معلوماته حيث انه لا يكتفي في العادة بما يختزنه ذاكرته الذاتية، بل يستعين بمصادر إضافية من اجل أحياء وأستعادة مجرى الحدث في ذاكرته وتكامل شرح تلك الأجزاء التى لم يشارك فيها شخصيا واخيرا لتعزيز آرائه وتبرير مواقفه. المذكرت يمكن ان تشمل الوثائق ومقتطفات من رسائل ويوميات واخبار منشورة في الدوريات والنشرات. وتكتسب الوثائق الرسمية اهمية بالغة بالنسبة الى المذكرات الشخصية للساسة والقادة العسكريين. حيث يتم ادراجها أحياناً كملحق للكتاب... كثيرا ما ينظرالمؤرخون والباحثون الى المذكرات الشخصية كمصادر ثانوية لكتابة التأريخ. ولكن يتعين على من يستخدم المذكرات كمصدر ان يتذكر ان اهميتها ترتبط بالموضوع الذي يعالجه صاحبها. فهي – اي المذكرات - مهمة ومصدر اساسي للأطلاع على السيرة الذاتية لكاتبها وخاصة للتثبت من واقعة او فعل او حقيقة تاريخية. ولكنها تكون قاصرة عن رسم صورة شاملة ودقيقة للواقع السياسي – الأجتماعي للفترة التأريخية التى عاش فيها المؤلف أو توثيق الحركات السياسية والأجتماعية او التأريخ الأقتصادى للبلد. في مثل هذه الحالات، تحتل المذكرات الشخصية مرتبة ثانوية بالقياس الى التقارير والأحصاءات والوثائق الرسمية. وينبغى ان نتذكر ان المذكرات ظهرت تاريخيا كجنس ادبى او بتعبير آخر فأن المذكرات لا تكتب لتكون مصدراً لكتابة البحوث التاريخية وغيرها بل لغرض الأطلاع على السيرة الذاتية لصاحبها والدور السياسي او الثقافي الذي مارسه. المؤرخ يعتمد على الحقائق فقط وهذا من حقه وواجبه وحدود عمله ولكن صاحب المذكرات له الحق في ان يكون له وجهة نظر خاصة حول الأحداث والوقائع التى أثرت في حياته ومصيره.
المذكرات الشخصية و السير الذاتية كجنس أدبى :
ما زال الغموض يكتنف نشأة وأنتشار ظاهرة كتابة اليوميات والمذكرات الشخصية والسير الذاتية، فالأدبيات الغربية تؤكد بأن القديس سانت أوغسطين (354 – 430)م، كان أول من كتب سيرته الذاتية وتحدث فيها عن تأثير الدين في حياته الخاصة، قبل ان يتبلور هذا الفن ويتحول الى جنس أدبي مستقل على يد جان جاك روسو (1712 – 1778)م في كتابه « اعترافات» وكان « روسو « يدرك تماما أنه اول من كتب هذا الجنس الأدبي في قالب فني متكامل حين كتب يقول «أنا أفعل شيئأ لم يفعله شخص قبلى ولن يقدر شخص بعدي على تقليده «ولكن بعض الباحثين العرب يشير الى أن الفن نشأ في الفكر العربي قبل ان يكتب « روسو» اعترافاته. صحيح اننا نجد في التراث العربي بعض السير الذاتية مثل» رسالة حنين بن أسحق « ( 809 – 819)م و» المنقذ من الظلال» للأمام الغزالى ( 1058 – 1111)م و»التعريف بأبن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً «(1332 – 1406)م، ولكن الثقافة العربية لم تعرف كتابة المذكرات الشخصية والسير الذاتية كجنس ادبي شائع وقائم بذاته الا مع النهضة العربية الحديثة. أما في الثقافة الكردية، فقد شرع رجال السياسة والثقافة الكورد بكتابة مذكراتهم الشخصية منذ النصف الأول من القرن الماضي خلال العهدين الملكي والجمهوري، ثم تحولت الى ظاهرة شائعة ملفتة للنظر بعد أنتفاضة آذار 1991 المجيدة في كردستان الجنوبية. ولعل ابرز ما يميز مذكرات السياسيين والمثقفين الكورد عن غيرهم أنها تتناول في معظم الأحيان دور كل منهم في الحركة التحررية الكوردية ومواقفه السياسية وآرائه حول هذه القضية أو تلك والتي تهم القارىء الكوردى. ان كتابة اليوميات والمذكرات الشخصية والسير الذاتية، سلوك حضاري وظاهرة ايجابية تدل على أدراك أصحابها لضرورة تسجيل تجاربهم في الحياة والأهم من ذلك توثيق الأحداث الجسام التى كانوا طرفاً فيها أو شهوداً عليها أو اطلعوا على تفاصيلها عن طريق الرواة. وتعد مثل هذه الكتابات مصادر لا غنى عنها لكتابة التأريخ، اذا جرى التعامل معها وفق المعايير والمحاذير التى أسلفنا الحديث عنها آنفاً.
جودت هوشيار
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.       

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3276 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع