لم تترك المحنة السورية وقعا مؤلما في نفوس السوريين وأوضاعهم وحدهم، بل تركت ذلك في نفس كل من يحمل القيم الإنسانية، بعيدا عن الانتماءات العنصرية والدينية، باستثناء كثير من العرب، ممن تغيروا بما يخالف الموروث من قيم تغنوا وتشدقوا بها زمنا طويلا، وتحولوا إلى دمى فارغة بعيدة عن كل المشاعر الإنسانية، لم تحركهم المآسي التي يتعرض لها شعب ترك بصمات إيجابية عظيمة على تاريخهم وثقافتهم، ووقف إلى جانبهم على الدوام.
وليس غريبا أن تبقى جوقة المفسدين والمنتفعين وتجار الحروب والمرعوبين من أم الثورات، إلى جانب التسلط والقمع حتى النهاية. ليظهر من هؤلاء من ينتقد سيده بعد أن يقضى الأمر، تذرعا بأنه أجبر على ما كان يقوم به بسبب المراقبة المفروضة عليه، والخوف على نفسه وأهله، وما إلى ذلك من التبريرات.
وهذا النمط من الموظفين الكلاسيكيين يمكن النظر إليهم بعين الشفقة، إن لم يكونوا مساهمين في إيذاء سافر للناس، خلاف الذين يواصلون الإصرار على المضي مع النظام في قمعه، ومن المستبعد أن يقبل الشعب السوري الجريح أعذارهم واعتذارهم. فمن يبقى يروج للنظام دعاياته، وتنظيم علاقاته الخارجية، ومن يبرر قمعه، ومن يسهم في حملاته، ومن يكتب الشعر ويحرر البيانات والمقالات الداعمة، لا مكان له بين الذين سيصطفون في صفوف طلب الشفقة والرأفة. ومن ينقلب بعد فوات الوقت فلن يزده انقلابه إلا نزولا إلى قعر الذل والانحطاط. وأمام هذا النمط من الناس فرصة مراجعة تجربة العراق، مع الفوارق في كثير من المعطيات التي تخلخل عناصر المقارنة.
ومما حدث في العراق، أن قادة وشخصيات بعثية وغير بعثية، عسكرية ومدنية، تمردت على سياسة النظام، وأعدم من أعدم وغادر العراق من غادر، متخذين موقفا تحت ضوء الشمس. وبقي من بقي ولم يغير موقفه حتى رحل بطريقة أو بأخرى، ومنهم من بقي ثابتا على موقفه، أو لاذ بالسكوت والانكفاء. أما المثل السيئ الذي يضرب، فهو أن ينتقل أشخاص بعد حياة بذخ، بذلة وخنوع، من الولاء المطلق وفق نظرية التابع والمتبوع، إلى النقد والتجريح غير المهذب ضد سيدهم.
فمن يعمل في مستويات القيادة العليا، أو يسهم في كتابة بياناتها ومواقفها على شاكلة «يا حوم اتبع لو جرينا» العراقية و«كتابة الأغاني الثورية، ومهاجمة من يدعي أنهم أبناء جلدته، والتشكيك في هويتهم وأصولهم وأخلاقهم من وراء ستار»، ويتمتع بامتيازات كبيرة، ثم ينقلب بعد أن يرحل سيده بأي شكل، فإنه يستقر في قعر السقوط الأخلاقي. ومن هؤلاء - على قلتهم - من كان ملازما لمسيرة حزب البعث لأكثر من نصف قرن. ومنهم من كان مستشارا مقربا وناطقا وكاتبا وموجها على مستوى التوجيه السياسي والثقافي المدني والعسكري والاستخبارات، ومنهم من منح أو رقي إلى رتب كبيرة بغير استحقاق..! فهل يستفيد من هم في جوقة القرار السوري من تلك التجربة العراقية، مع الفوارق في بعض المعطيات؟
لقد شاهد العراقيون شخصيات لم تكن أفعالها وثقافتها لصيقة بالنظام فحسب، بل كانت جزءا منه ومنظرة في كثير من الجوانب، مستغلة عفوية وبساطة بعض أطراف الحلقات المحيطة. فضلا عن «براعة» في التملق وإظهار فنون تبعية سياسية ومهنية ذليلة. وشاهد العراقيون قسما من هذا النمط ينقلبون على أنفسهم وعلى سيدهم وأسيادهم وقادتهم بعد الرحيل - بلا حياء - غير ملتفتين إلى أقوال الناس وسخرهم وتحقيرهم. فأكثر ما لحق بصدام بعد رحيله من تجريح كان ممن قدموا له أنفسهم مطايا وأبواقا وأقلاما وطبالين. فهذه ليست صحوة ضمير، وليست مراجعة نفس، بقدر ما هي انحطاط فكري وتحلل أخلاقي. وإذ وجد هؤلاء المتلونون من مجال للظهور بوجوه أخرى في التجربة العراقية، فالجراح السورية والدمار الفظيع، وسياسة الإبادة الجماعية، لن تدع مجالا لأمثالهم لتكرار تجربة الانقلاب الانتهازي بعد انتهاء فترة التسامح المطلوب.
ويا للعجب أن يقبل ضابط سوري رتبة مهما كبر عنوانها، ليقمع بها شعبه! فالرتب العسكرية شرف كبير عندما تكون لحماية الأوطان وحفظ أمن الناس، وبخلافه ما هي إلا نياشين مؤقتة زائلة لا يفخر بها، فليخلعوها إن لم يكونوا قادرين على حملها إلى جانب الشعب وثورته التي عمت مدن سوريا وأريافها.
884 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع