حدث ذات مكان.أو (طيحان الحظ بين حقبتين).

حاتم جعفر

حدث ذات مكان.أو (طيحان الحظ بين حقبتين).

بعد مضي فترة على تعيينه بصفة عامل في الدائرة ربما تجاوزت السنة، نجح في نسج علاقات متميزة مع عدد من موظفي وعمال الدائرة التي يشتغل فيها، كان من أبرزها تلك التي جمعته بالأستاذ عادل الذي تمَ إبعاده من سلك التعليم ولأسباب سياسية وليُنَسَّب الى إحدى دوائر الدولة في مدينته بصفة موظف في قسم الأرشيف، بعد خدمة ربما زات على الخمسة عشرة سنة، قضى جلّها في أماكن نائية عن منطقة سكناه.
وإذا كان لنا من إشارة الى ما يتصفان به ويشتركان، فيمكن القول بأنهما كثيرو الكلام وربما يتنافسان في ذلك حتى تُحار الى أيهما ستعطي أولوية التفوق في هذا المجال. أمّا لو دخلا في نقاش أي موضوع فسوف لن يخرجا منه الاّ بعد أن يشبعوه تفصيلاً حتى لو كان من الصغر والهامشية بحيث لا يشكل أية أهمية تُذكر، بل حتى لو جاء على حساب المحيطين بهما وما إذا كان سيؤدي الى مّللهم ونفرتهم منهما، غير أنَّ هذه الصفة أي كثرة الكلام وفي كل الأحوال سوف لن تأتي على حساب ما يتمتعان به من علاقات واسعة ومن ثقة يحضون بها من قبل المحيطين بهما لما يتصفان به من خلق رفيع ومن رضا وقبول من قبل أكثرية زملائهم.
العلاقة بينهما (الأستاذ عادل وذلك العامل الذي أتينا على ذكره) أخذت تتعزز وتتطور أكثر فأكثر، وليدخلا من بعدها في حوارات ونقاشات معمقة ومسهبة، كانت قد أفضت الى أن تتكشف خلالها طريقة تفكير كل منهما، فضلاً عمّا بدا عليهما من تقارب ملحوظ في توجهاتهما السياسية والى أي الأحزاب ينتميان أو لنقل يميلان. وتعزيزا لتلك العلاقة وبعد أن بدءا يشعران بالقلق بسبب ما يحيط البلد من تطورات ليست بالمريحة، ومن أجل أخذ الحيطة والحذر، لذا راحا ينعزلان شيئاً فشيئا عمّا يحيط بهما وذلك درءاً للمخاطر التي من الممكن أن تطالهما.
وعملا بالوصايا التي كانا قد حفظاها عن ظهر قلب، وبالإستناد الى العديد من التجارب السابقة التي مرَّ بها البلد في سنوات سابقة، وكذلك حرصاً منهما على وظيفتيهما من الضياع بعد أن ذاقا الأمرين، خاصة وأن قرارات الفصل بدأت تطال الكثير من ملاكات الدولة ولإعتبارات سياسية صرفة، لذا وللأسباب الفائتة مجتمعة فقد إرتأيا عدم التصريج علانية بأي موقف سياسي قد يترتب عليه إلحاق الأذى بهما، خاصة بعد أن تسرب الى مسامعهما من الأخبار ما يشي بصدور توجيهات وتعليمات صريحة الى ملاكات الحزب الحاكم وعناصره، مفادها بضرورة مراقبتهما، حيث إعتبرتهما من العناصر المشبوهة، الواجب رصدها ومتابعتها. وبعد أن وصلت مسامعهما هذه الأخبار، فقد حمدا الله وشكراه ومن باب الدعابة لما يحملانه من (أفكار هدّامة) حسب المصطلح الذي كان شائعاً ومتداولاً آنذاك في أدبيات السلطة وحزبها الحاكم، والذي عادة ما ينعتون به كل مَنْ يتقاطع مع أفكارهم وتوجهاتهم.
وأرتباطا بما يجري من أحداث ولأن الأستاذ عادل يتمتع بهذه الخاصية، اي الحس الأمني المبكر ويشم عن بُعد تلك (الروائح الكريهة) بسبب خبرتهم الطويلة معهم، ويدرك كذلك تحركات أصحابها وخلفياتها وما يهدفون اليه، فقد نقلها بدوره وبحكم العلاقة الخاصة والمتميزة وما يجمعهما من ثقة متبادلة الى صديقه العامل الذي بات الأقرب اليه وعلى مختلف المستويات. فكم من مرة حذَّره من التمادي في توجيه الإنتقادات الى إدارة المؤسسة التي يشتغلان فيها وبحضور بعض العاملين تحديدا.
ومن بين الأشخاص الذين جرى التركيز عليه في تحذيره لصديقه، هو ذاك الذي يتمتع بشاربين طويلين، متدليان على جانبي فمه، كان قد تعمَّدَ إطلاقهما على هذا النحو، تزلفاً وتملقاً لصاحب السلطة والقرار ليمتدا، مُذكراً بتلك العلامة الفارقة التي يتميّز بها الحزب الذي ينتمي اليه حسب إدعاءه عن غيره من الأحزاب. فـهذا الشخص كان دائب الحركة ويتمتع بصلاحيات مطلقة، ضارباً عرض الحائط كل إشتراطات وقوانين العمل المفروضة على جميع الموظفين والتي ينبغي الإلتزام بها، لتجده متلصصا على هذا وذاك، كل ذلك قبالة ما أعطي له من وعود تتمثل بحصوله على ترقية وظيفية أو على زيادة مجزية في راتبه، لذا وفي الكثير من الحالات راح واشياً بزملاءه ولم يتورع عن الإيقاع حتى بأقرب المقربين اليه، ملفقاً ومتهماً إياهم بما ليس فيهم. أي بإختصار وبشكل مباشر وباللغة التي كانت دارجة آنذاك، فهو كاتب تقارير من الطراز الأول، حيث لا ذمة له ولا ضمير، وأعتقد مَنْ عاش تلك الحقبة من الزمن سيتذكر الكثير من هؤلاء.
وتحذير الأستاذ عادل لصديقه لم يقتصر على صاحب الشاربين، بل هناك شخص آخر لا يقل سوءاً وأذى عن سابقه، كان قد تمَّ (تجنيده) هو الآخر ليقوم بمهمة التلصص على زملاءه. وفي الحديث عنه وإذا ما أردنا التوقف على شخصيته، فهو من ذلك النوع الذي لا يطيب له الكلام ويهنأ الاّ حين الحديث عن الغجريات أو النوريات كما يطلق عليهن في بلاد الشام، وبالكاولية كما درج عامة أهل العراق على تسميتهم وبصرف النظر وغير مبالٍ بمن يكون جليسه. فبمجرد أن يأتي أحدهم على ذكر هذا الصنف أي الكاولية حتى لو جاء ذلك عرضاً ومن دون قصد، الاّ تجده وقد شمَّرَ عن ساعديه ولسانه ليأتيك منه ما طاب له من أرذل الكلام وأرخصه ومن دون وجل أو خجل.
وعن حالة عاشق عالم الكاولية هذا وللمزيد من التوضيح، ففي لقاءاته التي كانت تجري مع زملاءه وأثناء فترة الإستراحة، لم يكن مبالياً في أحاديثه التي أشرنا اليها لكل الإعتراضات والإعتبارات الأخلاقية التي كانت تصل مسامعه، بل كثيرا ما تجده متمادياً في (تحليقه) و(تغريداته)، ولم يتوانَ حتى عن وصف ما كان يقوم به من (بطولات) حين يجن الليل وشكل الخيمة التي كان ينزوي فيها، والتي عادة ما تكون عارية عن أية حشمة وإستقلالية، ومن هناك أي من تلك الخيمة سيلحقها بوصلات خاصة من الرقص وعلى إيقاعات لا تقل مجوناً عن تلك التي تجري في الأماكن الخاصة والمغلقة، ولم يوقفه عن ذلك كائناً مَنْ كان.
من ثم وبعد أن تأخذه النشوة (ولا زال الكلام المباح له) ويشعر أنه قد بات في أعلى درجات التحليق والتسامي، سيتبعها بإعطاءه إيعازاً وبإشارة خاصة متفق عليها لإحداهن كي تلتحق به في إحدى الزوايا أو أي مكان، لا يبعد كثيرا عن مراسيم الحفل المقام على شرفه كما يطيب له الإدعاء، وليستمع الحاضرون من رواد الكاوليه وعلى اثر خلوته هذه من الآهات والأنين ما ينده له جبين حتى الحمار.
غير أن ما حدث معه وفي إحدى (بطولاته) وجولاته التي كان يقوم بها لصنف الكاولية وما لم يكن في الحسبان، هو إلتقاءه هناك وبالصدفة المحضة بصاحب الشاربين الطويلين، والذي على ما يبدو كان قد سبقه الحضور، بناءأ على ما وصلته من معلومات ومن مصادر خاصة، تفيد بأنَّ إحداهن ممن كَثُرَ الكلام عن جمالها وطيب مؤانستها قد حضرت ومعها فرقتها الخاصة. في ذات الوقت فهي تُعد إحدى محضيات ذلك الشخص الذي وعلى ما وصفناه بأحد متابعي عالم الكاولية وأنشطتها وحضور أماسيهم بشوق ولهفة.
وبعد أن إلتقيا تحت خيمة الكاولية وبدأت فصول الحفل تأخذ مدياتها ورقص مَنْ رقص وشرب من الراح من شرب، وأخذت النشوة بالتسامي شيئا فشيئا ولتفعل فعلها. هنا وفي لحظات كهذه، لابد لهما من أن ينتقلا الى عالم آخر يتسق مع ما كان يسعيان الى تحقيقه، فمسك الختام إذن هو المبتغى. هنا ستحدث الواقعة، حيث كل منهما لايطيب له أن ينهي ليلته الاّ بمؤانسة تلك السيدة التي ذاع صيتها كأجمل نساء الغجر ويقضي منها وطر..... . فحصل ما حصل وتبادلا من الشتائم والسباب أقذعها ولم ينتهِ أمر خلافهما الاّ بالعودة الى صاحبة الشأن فلها القرار الفصل، الغير قابل للطعن ولا النقض ولا التمييز، فما عليها إذن وعلى ما هو متعارف عليه في عالم الغجر سوى الإعلان عن الى أي من الجانبين ستميل. فما كان لها الاّ أن تختار ذلك الذي أسميناه بسليط اللسان وأقذره، وعلى شفتيها من الإبتسامة ما يشي الى كم الثقة والسلطة الممنوحة لها.
قرار كهذا لم يَطبْ ولم يرضِ بالتأكيد صاحب الشاربين الطويلين، فراح يزبد ويرعد ويهدد غريمه بإنزال أقصى العقوبات الإدارية بحقه إن لم يتراجع عن قراره ويفسح له في المجال لقضاء سهرته مع تلك الغجرية الفاتنة الجمال والحضور. لكن المفاجئة التي حصلت هي إصرار الآخر على ما يريد ويرغب حتى لو أتى ذلك على حساب وظيفته. أمام هكذا إصرار لم يكن أمام صاحب الشاربين الطويلين من خيار ومخرج يداري به حرجه وإهتزاز سلطته سوى اللجوء الى أسلوب أو لنقل نوع من الإبتزاز، يتمثل بقبول الطرف المنافس على تكليفه بإحدى المهام الأمنية داخل الدائرة، فكان له ما أراد وعلى نحو سريع ومن دون أن يأخذ من الوقت رمشة عين. أمّا لو سألتم ما هي هذه المهمة فهي وبإختصار: مراقبة الأستاذ عادل وصديقه العامل، المشبوهين من قبل أجهزة الدولة، وكتابة التقارير الدورية عنهما وإيصالها الى أصحاب الشأن.
مرة أخرى سيبرز التساؤل من جديد: ما الذي سيستفيده صاحب الشاربين من هذه المساومة انها وكي لا نطيل، فستساعده في الحصول على وظيفة أرقى وراتب أعلى كما كان قد وُعدَ به من قبل مسؤوليه وذلك لقاء (أتعابه الأمنية وحرصه على سلامة أمن الدولة). أنه عالم الفاشينستات، فلهن القول الفصل، وما أشبه اليوم بالبارحة.
ما فات من أحداث وما رافقها من وَصفٍ ووجع، ومن خلال السطور التي وردت في المقال، ربما كانت شديدة القسوة بل هي كذلك، وبالتأكيد كان البعض بل الكثير منّا قد عاش تلك الحقبة من الحكم وإكتوى بنارها وأوجاعها، ولكن سيبرز السؤال هنا ويفرض نفسه: هل أنَّ من جاء من بعدهم وتبوأ مراكز القرار ومفاصل السلطة والتحكم بها، يمكن أن نَعدَّهُ أقل قسوة وأكثر رحمة ممن سبقه، أم أنَّ كلاهما قد غرفا من ذات القاع، وأدارا مرافق الدولة بذات العقلية وآلة القمع حتى إشتركا بذات الإنحطاط !!!.


السويد - مالمو

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

557 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك