أحمد العبداللّه
العراقيّون والفرس..خمسة آلاف سنة من الصراع العنيف
الصراع العراقي - الفارسي, هو أطول صراع في التاريخ البشري على الإطلاق. وعُمُر هذا الصراع العنيف والممتدّ يناهز الخمسة آلاف سنة!!. كان الفرس خلالها هم البادئون بالعدوان دائما. تدفعهم أطماعهم التوسعية في بلاد الرافدين, والتي هي بمثابة(سلة غذاء العالم), حيث الأرض الخصبة والمياه العذبة والمناخ الملائم, عكس هضبة إيران القاحلة الجرداء. وتكاد لا تمرّ فاصلة زمنية تتجاوز العقد أو العقدين, دون أن يسجّل التاريخ فيها عدوانًا فارسيًا جديدًا على العراق!!.
وفي كتاب الدكتور فاضل البرّاك القيّم؛(استراتيجية الأمن القومي/آراء وأفكار)*, ضمنه ملاحق بالاعتداءات الفارسية على العراق عبر التاريخ, ابتداءًا من سنة 2550 ق.م., لغاية العام 1980م. وسنتوقف عند أبرز المحطات المهمة خلال الثلاثة آلاف سنة الأولى لغاية تحرير العراق من الاحتلال الفارسي الطويل والمدمّر على يد العرب المسلمين, وانقراض آخر الدول الفارسية؛(الإمبراطورية الساسانية), وهلاك آخر ملوكها؛كسرى يزدجرد الثالث. وتحقيقًا لما أخبر به النبيّ الكريم محمّد(صلى الله عليه وسلم), في الحديث الصحيح؛(إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بَعْدَهُ).
***
لقد وردت أول إشارة مكتوبة لاعتداء على بلاد الرافدين في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد, في زمن أمير سلالة لكش الأولى السومرية؛(إيناتم),إذ يذكر في نصوصه؛بأنه قهر دولة عيلام التي وصفها بـ(بلاد الجبال الشاهقة). وهي تقع جنوب غرب إيران الحالية, وقد تعاقب على حكمها(126)ملك, وكانت مصدر اعتداءات مستمرة على مدى ألفي عام تقريبًا!!.
ثم جاء دور الأكديّين الذين دخلوا في معارك لأكثر من قرن مع الكوتيّين؛(وهم أقوام همجية استوطنوا في جبال زاكروس). وانتهز الكوتيّون ارتباك الأوضاع السياسية في الدولة الأكدية إثر مقتل الملك(شار كاليشاري)سنة 2230 ق.م., فقاموا بمهاجمة المدن واحتلّوها ودمّروا العاصمة أكد. فكانت من أولى الفترات المظلمة في تاريخ بلاد الرافدين.
وكانت نهاية الاحتلال الكوتي على يد قائد سومري شجاع من مدينة الوركاء هو(أوتو حيكال), والذي جمع حوله مقاتلين من المدن السومرية وقادهم في حرب تحرير شاملة, تعتبر أقدم حرب تحرير شعبية عرفها التاريخ, وذلك حوالي العام 2120 ق.م., وتمكن من تحرير الوركاء من رجس الكوتيّين الذين وصفهم بـ(ثعابين الجبال القارصة). وقبضوا على ملكهم وجاءوا به ذليلًا ليركع تحت قدمي(أوتو حيكال), والذي كتب على مسلّته وهو يؤرّخ لتلك الواقعة؛(إن أوتو حيكال سحق الكوتيين, ثعابين الجبال القارصة, وأعداء الإله الذين نقلوا ملوكية سومر إلى الجبال, وملأوا البلاد بالشرّ)!!.
وفي عام 2006 ق.م., اجتاح العيلاميّون سومر واحتلوا عاصمتها أور, ونهبوها ودمّروها وجعلوها ركامًا من الأنقاض, وأخذوا الملك(ابي-سين)أسيرًا إلى عيلام حيث توفي في منفاه. وقد كانت تلك الكارثة مصدر حزن وألم في نفوس سكان بلاد الرافدين ولأزمان طويلة لاحقة. ودوّن السومريّون تلك الواقعة في كتاباتهم وأشعارهم, التي صوّرت وحشيّة العيلاميّين وارتكابهم مجازر بشعة, لم تفرّق بين الرجال والأطفال والنساء؛(حتى طفت جثثهم كالأسماك في مياه النهر)!!, على حد تعبير النص السومري. وحوالي سنة 1990 ق.م., تمكن(إشبي إيرّا)حاكم مدينة إيسن السومرية من دحر العيلاميّين وطردهم من أور. ويبدو إن ضربته كانت قاصمة, بحيث إنهم لم يحاولوا بعدها التحرّش بالعراق لمدة قرنين كاملين.
وفي عهد الملك البابلي حمورابي؛(1792-1750), تحالف العيلاميّون مع أعدائه في مملكة(اشنونا), لكن حمورابي ألحق بهم هزيمة قاسية. وكرر العيلاميّون محاولتهم التدخل في شؤون بلاد وادي الرافدين, فتحالفوا عسكريا مع أعداء حمورابي في كردستان إيران ومع ملك مالكيوم(عند مصب نهر ديالى)وملك السوباريين(منطقة آشور وشمال سوريا), لكن حمورابي تمكن من هزيمة هذا الحلف ووجّه ضربة ساحقة للعيلاميّين, فانسحبوا خائبين نحو المناطق الجبلية داخل إيران. وفي عهد خلفه وولده(سمسو-إيلونا؛1750-1712 ق,م.), قام الملك العيلامي(كوتر ناخونتي)بالهجوم على بابل, ولكنه جوبه بقوة.
وفي عهد الملك البابلي(أبي إيشوخ؛1711-1684 ق.م.),عاود ملك عيلام(كوتر ناخونتي)العدوان على بابل, وقام بتخريب المدن ونهب الأموال وهتك الأعراض. ومن شدّة تلك النازلة وقسوتها, بقيت تستذكرها الأجيال اللاحقة لأكثر من ألف عام!!. وهذه الجرائم البشعة تماثل تمامًا جرائم(أحفادهم)من حثالات الميليشيات الشيعية الفارسية في سورية والعراق.
وفي حدود سنة 1275 ق.م., وصل إلى الحكم في عيلام(أونتاش), والذي عاصر الملك الآشوري شلمنصر الأول, فغزا بلاد الرافدين عبر مدينة(دير)القديمة, وهي؛(تلول العقر حاليًا قرب مدينة بدرة), ومن ثم اجتاح مملكة اشنونا. وفي فترة حكم(كيتن خوتران 1235-1210 ق.م.), والمعاصر للملك الآشوري(توكلتي-ننورتا)الأول, هجم على بابل, ووقعت معركة بينهما بالقرب من مدينة بدرة, انتهت بهزيمة العلاميّين. واستمر(شلمنصر)بالتصدي لاعتداءاتهم التي لم تتوقف.
وفي عام 1171 ق.م., استغل الملك العيلامي(شوترك ناخونتي)ضعف الدولة الكاشية, فغزا بابل وقام بنهب الآثار الحضارية العراقية وحملها معه إلى عيلام, ومن بينها نسختين من مسلّة حمورابي ومسلّة النصر للملك الأكدي(نرام سين). وحوالي العام 1160 ق.م., قام(ناخونتي)أيضا, بعدوان غادر آخر. ثم كرر عدوانه في السنة نفسها انطلاقا من عاصمته(سوسة)عابرًا نهر الكرخا, وقام العيلاميّون بتدمير بابل وأكد, وتسويتهما بالأرض, ونهب آثارهما وكنوزهما. وظلّت الأجيال اللاحقة تتناقل قصص تلك المصائب والمحن التي أصابتهم من جراء تلك النازلة.
وبعد سنوات قليلة شنَّ الملك العيلامي(شيلخاك - أنشوشيناك؛1150-1120 ق.م.)عدوانًا جديدًا على بلاد الرافدين. وفي حوالي العام 1115 ق.م., قام الملك نبوخذ نصر الأول بهجوم على عيلام للحد من طغيانها, ووصل في حركته لأحد فروع نهر الكرخا, إلا إن المرض ألمَّ بجيشه, فاضطر للانسحاب. وظن الملك العيلامي إنه انهزم خوفا فلاحقه, ولكن شعب بابل هبَّ لنجدة جيشه ومليكه, وأتاه المدد من كل حدب وصوب, وردّوا المعتدين على أعقابهم خائبين.
وفي عام 1110 ق.م., استكمل الملك نبوخذ نصّر الأول كافة الاستعدادات والاستحضارات العسكرية, وشنَّ هجومًا صاعقًا على عيلام, مستغلًّا عامل المباغتة, إذ كان هجومه في شهر تموز القائض, فأخذهم على حين غرّة, وكانت معركة كالعاصفة الهوجاء, لدرجة إن؛(غبار المعركة حجب ضوء الشمس)!!. وتمكن من دحر العيلاميّين وألحق بهم هزيمة كبرى, واستردّ ما سلبوه من بابل سابقا من كنوز. ولم تقم للعيلاميّين قائمة بعد هذه المعركة الفاصلة, لما يقرب من أربعة قرون.
ثم بدأ فصل جديد من الصراع الذي لا يكاد يفتر حتى يندلع مرة أخرى, بعد تعاظم شأن الامبراطورية الآشورية الحديثة والتي حكمت لأكثر من ثلاثة قرون وضمّت بابل إليها, فاستشعر العيلاميّون الخطر الكامن بتوحيد بلاد الرافدين في دولة واحدة, فشرعوا بالتآمر والتدخل في الشؤون الداخلية, ومحاولة فرض الهيمنة والتوسع والعدوان, ونشبت معارك طاحنة بين الطرفين بسبب ذلك استمرت لفترات زمنية طويلة. كانت أهمها في عهد الملك آشور بانيبال؛(668-627 ق.م.), الذي قام بسلسلة حملات عسكرية كبيرة وناجحة تُوّجت بانتصارات حاسمة, سحق فيها عيلام وانتقم منها ودمّر عاصمتها(سوسة), ووقع الملك العيلامي(تيومان)أسيرًا ذليلًا في قبضة الجيش الآشوري, مع ولده, وتم إعدامهما وقطع رأسيهما.
وبعد انقراض الدولة العيلامية, تأسست على أنقاضها دولة فارسية جديدة, هي الدولة(الإخمينية), والتي قام أول ملوكها(كورش)باحتلال بابل وإسقاط الدولة البابلية الثانية في سنة 539 ق.م., وخضعت بلاد الرافدين لاحتلال فارسي غاشم استمر قرنين تقريبًا, وانتهى بهزيمة الإخمينيّين على يد الاسكندر المقدوني. ثم جاء غازٍ فارسيّ آخر, هم الفرثيّون الذين حكموا حوالي خمسة قرون مظلمة, أعقبتها أربعة قرون أخرى من احتلال الدولة الساسانية, والتي قضى عليها العرب المسلمون عام 636م, بمعركة القادسية الخالدة. وتحرّر العراق أخيرًا من احتلالات فارسية استمرت حوالي(1200)سنة.
***
ويختتم الدكتور فاضل البراك كتابه بوصيّة مهمة, إذ يقول؛(ينبغي أن لا نُغمض العيون, ولا نرفع الأيادي عن الزناد, لأن النار لا تزال تحت الرماد, والسوابق حافلة بالدروس).
وممّا تقدّم؛ نخلص إلى إن عدوَّنا الأول والأخطر هو(إيران). فعليه يتوجّب وضع استراتيجية عراقية للتعامل مع هذا الجار اللئيم. والذي كانت غزواته عبر هذه الخمسة آلاف سنة, لها اتجاه واحد تقريبا؛ وهو بلاد الرافدين!!. وعلينا التفكير بالدخول في تحالفات دولية لحماية الأجيال العراقية القادمة من هذا الخطر الوجودي والمصيري الداهم. كما يجب السعي لتحصين العراقيّين من الأساليب الخبيثة لهذا العدو الجاثم على حدودنا, والمتغلغل بين ظهرانينا, والذي ما كان ليحقق كل ذلك الاختراق لولا وجود فئات وأتباع تأتمر بأمره وتطيعه بشكل أعمى. ووجود مرتكزات تعينه في بلوغ مآربه, كالمراقد الوهمية ومعممّين دجالين وعقائد فاسدة ومنحرفة. كما علينا أن لا نعدم وسيلة لتفكيك هذه الدولة اللعينة, من خلال تشجيع القوميات غير الفارسية, خاصة البلوش والكُرد وعرب الأحواز على التحرّر والانعتاق من هذا(الاستدمار)المجوسي. فإيران بحدودها الحالية, هي دولة مصطنعة, والعنصر الفارسي فيها أقل من نصف السكان. وهي أوهن من بيت العنكبوت.
..................................
* اعتمدت في سرد هذه الوقائع على كتاب الدكتور فاضل البرّاك بشكل أساس, كما قمت بتدقيقها بمقاطعتها مع مصادر تاريخية أخرى. واستفدت أيضا من كتاب(الصراع العراقي الفارسي)والذي ألّفه نخبة من المؤرخين العراقيين, وتم طبعه في بغداد عام 1983, ونُظمت قبل نشره ندوات ومناقشات علمية عرضها التلفزيون, شارك فيها الرئيس صدّام حسين, والذي قال في حديثه؛(عندما نُواجَه بالعدوان, فمن حقنا أن نرجع إلى التاريخ لكي نجد تفسيرًا لأسباب العدوان).
689 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع