بقلم:علاء الدين حسين مكي خماس
الحرب التي لم تردها روسيا طويلة: أين أخطأ بوتين؟
مقدمة: بين المسيّرات والأوهام الاستراتيجية
في الأيام الأخيرة، شهدت الحرب الروسية الأوكرانية تطورات نوعية لافتة أعادت تسليط الضوء على هشاشة بعض مفاصل القوة الروسية، وعلى التحول العميق في نمط الاشتباك القتالي بين الطرفين. ففي تطور يُعدّ ضربة معنوية ومادية لسلاح الجو الروسي، أعلنت أوكرانيا عن إسقاط مقاتلة روسية متطورة من طراز "سوخوي 35" في منطقة كورسك، وهي طائرة متعددة المهام تُعد من أحدث ما في الترسانة الجوية الروسية، وتتميز بتقنيات رصد إلكترونية فائقة، وقدرات على المناورة والتشويش، مما يجعل خسارتها أكثر من مجرد رقم في قائمة الخسائر؛ إنها إشارة رمزية إلى اختراق تكنولوجي في مجال الدفاع الأوكراني لم يكن متوقعاً في بداية الحرب.
أما الحدث الأبرز، فكان الهجوم المنسّق الذي نفذته أوكرانيا بواسطة أسراب من الطائرات المسيّرة على قواعد جوية روسية في عمق الأراضي، ما أدى – وفق ما أوردته تقارير موثوقة (aawsat.com, alkhaleej.ae) – إلى تدمير أو تعطيل عدد كبير من القاذفات الاستراتيجية من طراز "تو-95" و"تو-22"، التي تُعدّ من الأعمدة الرئيسية لقدرات الردع بعيدة المدى لدى روسيا. اللافت أن بعض المصادر الغربية قد قدّرت أن روسيا قد تحتاج لسنوات طويلة لتعويض هذه الخسائر، نظرًا لتعقيد التصنيع وضعف قدرة المجمع الصناعي العسكري الروسي على تسريع الإنتاج في ظل العقوبات الدولية ونقص المكونات الأجنبية عالية التقنية.
وتزامن هذا الهجوم الجوي مع عملية نوعية أخرى تمثلت في تفجير جسر القرم الاستراتيجي، وهو شريان النقل الرئيسي الذي يربط الأراضي الروسية بشبه جزيرة القرم، ويُستخدم لنقل الإمدادات العسكرية واللوجستية إلى الجبهة الجنوبية. إن استهداف هذا الجسر مرة أخرى – رغم كل الإجراءات الأمنية – يؤكد أن أوكرانيا لم تعد في موقع الدفاع فقط، بل باتت تتحرك وفق نمط هجومي متعدد الأبعاد، يجمع بين الحرب التقليدية والهجمات غير المتناظرة.
إن مجمل هذه العمليات يعبّر عن تحول خطير في توازن القدرة، ليس بالمعنى العسكري البحت، وإنما في ميزان "الصورة الذهنية"، حيث باتت أوكرانيا – رغم محدودية مواردها – قادرة على إيلام روسيا في مراكز الثقل العسكري والاستراتيجي. لكن رغم هذه النجاحات، يبقى من المهم التأكيد أن هذه الضربات، على شدتها وتأثيرها الرمزي، لا تعني أن روسيا على وشك الهزيمة، ولا أن أوكرانيا باتت قاب قوسين من الانتصار. فما زالت روسيا تحتفظ بعناصر تفوق كمي واستراتيجي هائل، وتملك من العمق، والإرث القتالي، والقدرة على التكيف، ما يجعل إسقاطها غير وارد، وإن كان الثمن باهظًا والنتائج مؤلمة.
الغاية
ليست الغاية من هذا المقال تحليل الهجمات الأوكرانية الأخيرة أو تقييم آثارها التكتيكية على القدرات الروسية، رغم أهميتها. بل إن الهدف الأساسي يتمثل في تقديم نظرة نقدية إلى الطريقة التي أدارت بها روسيا هذه الحرب منذ بدايتها، وتسليط الضوء على أوجه القصور التي رافقت الأداء الروسي على المستويات الاستراتيجية والعملياتية والسياسية. كما يسعى المقال إلى استجلاء الأسباب العميقة التي قد تكون قد دفعت موسكو إلى هذا النهج، ومناقشة العواقب المحتملة المترتبة على استمرار الحرب دون حسم، في ظل ديناميات دولية متغيرة وسيناريوهات مستقبلية مفتوحة.
من الأهداف الكبرى إلى حرب المواقع
عندما أعلنت روسيا عن بدء عمليتها العسكرية في فبراير 2022، كانت خلفية القرار السياسي والعسكري تنطلق من قناعة بأن أوكرانيا تمثل "نقطة كسر" جيوسياسية يمكن تطويعها بسرعة، دون الحاجة إلى الدخول في حرب طويلة الأمد. افترض الكرملين أن قوة الصدمة الناتجة عن دخول القوات الروسية من محاور متعددة، وما سيعقبها من شلل في القيادة الأوكرانية، كفيلان بإسقاط حكومة زيلينسكي أو على الأقل دفعها إلى الرضوخ لمطالب موسكو. وتشمل هذه المطالب، وفقًا لما أُعلن في تلك المرحلة، ضمان حياد أوكرانيا، وتخليها عن السعي للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، والاعتراف الرسمي بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى القبول بفيدرالية مناطقية تسمح لروسيا بالتأثير السياسي العميق في شرق أوكرانيا.
ولأسباب تتعلق بالرغبة في إبقاء العملية تحت السيطرة السياسية والإعلامية، تم توصيفها رسميًا بأنها "عملية عسكرية خاصة"، وليس "حربًا"، وهو اختيار له دلالات عميقة. فقد سعت روسيا من خلاله إلى تجنّب التصعيد الكامل مع الغرب، واحتواء رد الفعل الداخلي الروسي، وعدم اللجوء إلى أدوات الدولة الشاملة، كالتعبئة العامة أو تحويل الاقتصاد نحو نمط الحرب المفتوحة. كانت القيادة الروسية تراهن على إنجاز المهمة بسرعة، دون أن تدخل البلاد في حالة تعبئة نفسية أو عسكرية شاملة.
لكن هذه المقاربة سرعان ما اصطدمت بواقع مختلف. فالمفاجأة الاستراتيجية التي راهنت عليها موسكو لم تتحقق. لم تنهر مؤسسات الدولة الأوكرانية، ولم يتفكك الجيش الأوكراني كما كان متوقعًا. بل على العكس، ساهمت الهجمات الأولى في توحيد الصف الداخلي الأوكراني، وتوليد تعبئة جماهيرية واسعة خلف القيادة، وسط تغطية إعلامية دولية متعاطفة منحت زيلينسكي حضورًا دوليًا قويًا. بل إن بعض الأوساط السياسية الغربية شبّهت زيلينسكي بتشرشل العصر الحديث، في تماسكه الخطابي وصموده الرمزي.
أما المسار العسكري، فقد افتقد منذ بدايته إلى الوضوح العملياتي. الهجوم الذي انطلق من بيلاروسيا باتجاه كييف لم يُدعّم بما يكفي من قوات اختراق مدرعة عالية الوتيرة، ولم يترافق مع إنزال جوي يعطّل مراكز القيادة الأوكرانية أو يربك القرار السياسي في العاصمة. وبدلًا من التقدم السريع الذي يُحدث صدمة في البنية الدفاعية، واجهت القوات الروسية مقاومة عنيفة، وتعثرت على أبواب كييف، ما أجبرها لاحقًا على التراجع والانسحاب. وهذا الانسحاب لم يكن تكتيكياً فحسب، بل شكّل أول هزّة استراتيجية كبرى تُفقد موسكو زمام المبادرة وتُعيد تقييم المسار بالكامل.
تحول الصراع بعد ذلك من ضربة استباقية تهدف إلى تغيير النظام السياسي في كييف، إلى حرب مواقع طويلة الأمد، تجري على جبهات شرقية وجنوبية، ويُستخدم فيها سلاح المدفعية والحرب السيبرانية والطائرات المسيّرة وحرب الخنادق. ومع مرور الوقت، بدأ الخطاب الروسي يتكيّف مع واقع جديد لم يكن ضمن الحسابات الأولى: حرب استنزاف قد تستمر لسنوات، تتطلب إدارة طويلة للموارد، وامتصاصاً للضغوط الدولية، ومواجهة دائمة مع الغرب عبر أدوات متعددة.
هذا التحول من "عملية خاصة" إلى "نزاع مفتوح" لم يأتِ نتيجة رغبة روسية، بل كان ثمرة لتقديرات أولية خاطئة، ناتجة عن استخفاف بقدرة العدو، والمبالغة في تقدير التأثير المعنوي للقوة الروسية، والافتراض بأن العالم الغربي لن يذهب بعيدًا في تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا. وقد أفضى هذا الانزلاق إلى واقع جديد تتقاطع فيه الأهداف السياسية مع حدود القوة العسكرية المتاحة، ما يجعل من "النصر السريع" هدفًا بعيد المنال، ويحوّل الأزمة إلى مأزق استراتيجي متراكم.
لماذا لم تُعلن التعبئة العامة؟
منذ الأيام الأولى للعملية العسكرية الروسية، طرحت النخب العسكرية والمراقبون الاستراتيجيون في روسيا وخارجها تساؤلات جوهرية حول سبب عدم إعلان التعبئة العامة، بالرغم من أن حجم العمليات ونطاق الأهداف يتجاوز كثيرًا توصيف "العملية الخاصة" الذي أصرّ عليه الكرملين. فقد كان واضحًا، مع انقضاء الأسابيع الأولى دون تحقيق الحسم، أن الصراع في أوكرانيا يتجه نحو نمط حرب واسعة النطاق، تتطلب موارد بشرية وصناعية وعسكرية تفوق بكثير ما تم تخصيصه مبدئيًا. ومع ذلك، ظل الكرملين يتعامل مع الوضع على أنه قابل للاحتواء، رافضًا تحويل المعركة إلى "حرب رسمية"، أو إخراج البلاد من نمطها الاقتصادي والاجتماعي المعتاد إلى نمط الطوارئ الشاملة.
السبب الأول لهذا الإحجام يعود إلى اعتبارات سياسية داخلية عميقة. فقد حرصت القيادة الروسية منذ مطلع الألفية الثالثة على ترسيخ صورة الدولة المستقرة المزدهرة، التي تجاوزت صدمة تسعينيات ما بعد الاتحاد السوفيتي، ولا ترغب في العودة إلى مناخ التعبئة، والانضباط العسكري الإجباري، وتدخل الدولة في تفاصيل حياة المواطنين. وكان إعلان الحرب الشاملة أو فرض تعبئة واسعة النطاق سيقوّض هذه الصورة، ويفتح الباب أمام التذمر الشعبي، والقلق المجتمعي، بل وربما يُشعل موجات مقاومة صامتة داخل النخبة الاقتصادية والإدارية الروسية، خاصة في ظل أوساط استثمارية تخشى من سيطرة الدولة على السوق، ومجتمع حضري شبابي لم يتعود على مناخ الحرب الطويلة.
السبب الثاني يتصل بالبنية الاقتصادية نفسها. فالتعبئة العامة تعني تحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد حرب، حيث تُعاد برمجة الأولويات، وتُسخّر الصناعات للإنتاج العسكري، وتُقيّد حركة السوق الحرة لصالح الإنفاق العسكري. وهذا التحوّل محفوف بالمخاطر، خصوصًا في ظل العقوبات الغربية المتراكمة، وضعف قدرة الاقتصاد الروسي على استبدال المكونات الصناعية الغربية في فترة قصيرة. ولأن الكرملين كان حريصًا على إظهار أن الحياة اليومية في روسيا لم تتأثر، فقد تجنّب إدخال البلاد في نمط الاقتصاد التعبوي، تفاديًا لفقدان ثقة السوق، وانهيار العملة، وتسارع التضخم.
أما السبب الثالث، وهو الأخطر من حيث التقدير الاستراتيجي، فيتمثل في أن القيادة الروسية ربما بالغت في ثقتها بالقدرة على تحقيق النصر بأدوات محدودة، دون الحاجة إلى حشد شامل. لقد افترضت أن أوكرانيا أضعف من أن تصمد طويلاً، وأن الدعم الغربي سيتراجع أمام الضغط العسكري الروسي، وأن الحملة العسكرية قادرة على فرض وقائع ميدانية تجبر الطرف الآخر على التسوية. لكن هذه الفرضيات – كما اتضح لاحقًا – كانت قاصرة عن فهم طبيعة التحول الحربي المعاصر، الذي يجمع بين التكنولوجيا الغربية الدقيقة، والمقاومة غير المتناظرة، والتعبئة المعنوية العالية لدى الطرف المدافع.
ومع مرور الوقت، وجدت روسيا نفسها في مأزق استراتيجي معقد: فهي لا تستطيع إعلان النصر، ولا يمكنها إعلان الحرب رسمياً، ولا ترغب في التراجع. وحتى حين أُعلنت "تعبئة جزئية" في خريف عام 2022، بدا واضحًا أنها كانت إجراءً اضطراريًا أكثر منه تحوّلًا فعليًا نحو تعبئة شاملة. إذ اقتصرت هذه الخطوة على استدعاء عدد محدود من الاحتياط، دون إدخال الاقتصاد في نمط الحرب، ودون تغيير جذري في نمط القيادة أو التعبئة النفسية للمجتمع.
بين اقتصاد الحرب والمكاسب الجانبية: قراءة في النمو الروسي خلال النزاع
غير أن الحقيقة التي لا يغفلها كثير من الخبراء اليوم، هي أن روسيا، لو كانت قد حشدت منذ البداية مواردها البشرية والعسكرية الكاملة، وتخلّت عن خطاب الطمأنة الزائف، وتبنت خططًا أكثر مرونة وتكاملًا، لكان من الممكن حسم المعركة أو على الأقل فرض شروط تفاوض أكثر ملاءمة قبل أن يتمادى الغرب في دعمه العسكري لأوكرانيا. التأخر في اتخاذ القرار الاستراتيجي الجذري سمح للخصم بأن يتأقلم، وللداعمين بأن يتحركوا، وللمعركة أن تتحول من حملة خاطفة إلى نزاع طويل المدى، لا يُعرف متى ينتهي، ولا بأي كلفة.
لكن في المقابل، يجادل بعض المراقبين، وخصوصًا من أوساط الاقتصاديين الروس القوميين، بأن عدم إعلان التعبئة الشاملة في بداية الحرب لم يكن تعبيرًا عن تردد أو ضعف، بل خيارًا محسوبًا ضمن رؤية استراتيجية أوسع، تأخذ في الاعتبار ليس فقط الميدان العسكري، بل أيضاً إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي وتعزيز استقلاله عن النظام المالي الغربي. ويذهب هذا الرأي إلى أن الحرب لم تكن فقط أداة سياسية أو أمنية، بل تحوّلت إلى محفّز داخلي لإعادة تمكين الدولة الروسية من أدواتها الإنتاجية، ووسيلة لتعزيز نموها في بيئة عدائية، بطرق غير تقليدية.
تشير البيانات الاقتصادية إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الروسي لم يشهد الانهيار الذي توقّعه كثير من صناع القرار الغربيين، بل على العكس، سجل الاقتصاد الروسي نمواً إيجابياً في عام 2022، مدعوماً بشكل أساسي بارتفاع أسعار الطاقة، خاصة النفط والغاز، والتي كانت لا تزال تصدّر إلى الأسواق العالمية رغم العقوبات. لقد استطاعت موسكو أن تعيد توجيه جزء كبير من صادراتها إلى دول مثل الصين والهند وتركيا، بأسعار مناسبة، ما وفّر لها عوائد ضخمة دعمت ميزانيتها الفيدرالية ومولّت الإنفاق العسكري دون استنزاف احتياطاتها النقدية.
علاوة على ذلك، شهد الروبل الروسي ارتفاعاً ملحوظاً في قيمته خلال النصف الثاني من العام الأول للحرب، وهو ما اعتبره الكرملين دليلاً على صمود الاقتصاد واستقلاله النقدي عن النظام المصرفي الغربي. كما شهدت العلاقات الاقتصادية مع كل من الصين وإيران توسعاً ملموساً، عبر اتفاقيات تجارية ومصرفية لتسوية التبادلات بالعملات الوطنية، بعيداً عن الدولار واليورو. وقد صاحب ذلك تصاعد في الإنتاج الصناعي المرتبط بقطاعات الدفاع، وازدهار بعض الصناعات المدنية المحلية نتيجة تقليص الاعتماد على المنتجات الغربية. وبالرغم من هذا التقييم المتفائل، تبقى صورة الاقتصاد الروسي مزدوجة الوجه. فما يُعد نجاحًا على المدى القصير قد يتحول إلى عبء على المدى الطويل، في ظل محدودية الابتكار، ونقص الاستثمار في القطاعات غير العسكرية، وتزايد الاعتماد على علاقات غير متكافئة مع الصين. كما أن الاقتصاد، رغم صموده، لم يُفلح بعد في سد الفجوة التكنولوجية مع الغرب، وهو ما قد يضعف قدرة روسيا مستقبلاً على مواصلة سباق التسلح عالي التقنية، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، والمسيّرات، والحرب السيبرانية. ورغم ذلك، فإن من الجدير بالملاحظة أن الحرب قد تحوّلت من عبء اقتصادي متوقع إلى فرصة جزئية لإعادة تموضع الاقتصاد الروسي، وإن كان ذلك من خلال مسارات غير تقليدية ومحدودة النطاق. وبهذا المعنى، فإن الخيار الروسي بعدم إعلان التعبئة الشاملة قد يكون في جانب منه محاولة متعمدة لتفادي الدخول في دوامة إرهاق اقتصادي شامل، مقابل ربح سياسي واقتصادي موزون على مدى أطول.
هل يمكن لروسيا أن تُهزم؟
من منظور استراتيجي بعيد المدى، تبدو هزيمة روسيا الكاملة، بالمفهوم العسكري الكلاسيكي، أمراً مستبعداً. فروسيا ليست دولة حدودها قابلة للاختراق والانهيار السريع، كما أنها ليست دولة صغيرة يمكن إسقاط نظامها السياسي أو احتلال عاصمتها في غضون أسابيع. إنها دولة تمتلك عمقاً جغرافياً هائلاً يجعل من أي تقدم معادٍ مكلفًا وبطيئًا، وهي تتمتع بقدرات نووية رادعة تجعل أي تفكير في إسقاطها عسكريًا مخاطرة وجودية على خصومها. وإلى جانب ذلك، ما تزال روسيا تحتفظ بصناعات عسكرية ضخمة، وشبكات دفاع متعددة المستويات، وتاريخ طويل من القدرة على امتصاص الصدمات ثم الارتداد بقوة مدمّرة، كما حصل في الحروب النابليونية، وفي الاجتياح النازي إبان الحرب العالمية الثانية.
لكن في عالم اليوم، لم تعد الهزيمة تُقاس فقط بعدد الجنود الذين عبروا الحدود أو سقطوا قتلى، بل باتت تُقاس بمجموعة من المؤشرات المركبة التي تشمل فقدان زمام المبادرة، تآكل الردع، تعثر الاقتصاد، وتهتك الهيبة الدولية للدولة. وهذه كلها مظاهر قد لا تُسقط روسيا بالمعنى العسكري، لكنها تُنهكها استراتيجياً، وتحدّ من قدرتها على التصرّف كقوة عظمى ذات مشروع توسّعي مستقل. فالاستنزاف المستمر – بكل أشكاله العسكرية، والاقتصادية، والمعنوية – بدأ يُنتج آثارًا تراكمية تؤثر على مرونة روسيا الاستراتيجية. فالجيش الروسي، رغم قدراته الضخمة، بات موزعاً على جبهات مفتوحة ومتباعدة، من دون أن يتمكن من فرض الحسم في أي منها. وتزايدت خسائره في المعدات عالية القيمة، كما حدث مؤخرًا بإسقاط مقاتلة من طراز "سو-35"، وتدمير عدد من القاذفات الاستراتيجية، فضلاً عن استهداف مراكز لوجستية في العمق الروسي بواسطة طائرات مسيّرة. وهذا يدل على اختراق متصاعد لمفهوم "العمق الآمن"، ويُعيد تعريف الخطر إلى ما هو أبعد من خطوط الجبهة التقليدية. وليس ذلك فقط، بل إن الحرب أخذت طابعًا ممتدًا إلى ما وراء الميدان، لتشمل منظومات التأثير الأوسع: الاقتصاد الذي يُعاد توجيهه قسرياً نحو دعم الجهد الحربي؛ الردع الذي أصبح محط اختبار دائم أمام خصوم تقنيين يبتكرون أدوات جديدة يوميًا؛ والتكنولوجيا، التي تميل كفّتها لصالح التحالف الغربي الذي يمتلك زمام المبادرة في الذكاء الاصطناعي، وحرب الفضاء، والحوسبة العسكرية؛ ناهيك عن "الحرب الرمزية"، حيث بدأت الصورة الذهنية لروسيا كقوة لا تُقهر، في التآكل تدريجياً في أعين كثير من الدول، الحليفة والعدوة على السواء. ومع أن روسيا لم تفقد أياً من ركائزها الاستراتيجية الكبرى، فإن استمرار الحرب دون أفق واضح للحسم قد يحولها إلى قوة غارقة في حرب غير منتهية، يعلو فيها صوت الاستنزاف على صوت المبادرة، وتصبح فيها الدولة مشغولة بتقليل الخسائر بدلاً من تعظيم المكاسب. وهذا في حد ذاته – وإن لم يُترجم إلى هزيمة – يُمثّل ضربًا من "التآكل الهادئ"، أو كما يسميه بعض المنظّرين العسكريين الغربيين: "الانتصار السلبي"، حيث يُجبر الخصم القوي على اللعب في ملعب لا يريده، ووفق قواعد لم يضعها.
من هنا فإن سؤال "هل يمكن لروسيا أن تُهزم؟" لا يمكن الإجابة عليه بنعم أو لا قاطعة، بل هو سؤال مركّب يتطلب تحديد تعريف "الهزيمة" أولاً. فإذا كانت الهزيمة تعني انهيار الدولة أو استسلامها العسكري الكامل، فالجواب على الأرجح: لا. أما إذا كانت تعني تآكل قدرتها على التصرف الحر، وتراجع نفوذها، واستنزاف مقدراتها على مدى زمني ممتد، فإن المسار الذي تسلكه هذه الحرب – بكل ما يرافقها من تطورات تقنية وعقوبات وأزمات رمزية – قد يُفضي إلى ذلك الشكل من الهزيمة الباردة.
خاتمة: ما لم يُفعل في 2022 لا يزال ممكناً اليوم، ولكن...
إن الإخفاق الروسي في حسم الحرب خلال أسابيعها الأولى لا يُعدّ دليلاً قاطعاً على ضعف بنيوي وجودي في الدولة الروسية أو جيشها، لكنه يكشف بجلاء عن خلل حاد في فهم طبيعة الحرب الحديثة، بما فيها من تداخل بين المادي والمعنوي، والتقليدي والتكنولوجي، والقدرة والإرادة. لقد فوتت موسكو فرصة ذهبية لتحقيق حسم سريع كان ممكناً – نظريًا – لو أنها سخّرت منذ اللحظة الأولى جميع عناصر القوة المتاحة لديها، وطبّقت مبدأ "الصدمة والرعب" بأسلوب شامل، كما فعلت الولايات المتحدة في حروبها الخارجية، أو كما طبّق الألمان مذهب الحرب الخاطفة في أربعينيات القرن الماضي.
لقد راهنت القيادة الروسية على انهيار الخصم من الداخل، أكثر من رهانها على إسقاطه بالقوة الكاملة من الخارج. واعتمدت على أدوات عسكرية محدودة النطاق، على أمل إحداث تأثير سياسي سريع. لكن أوكرانيا – بدعم غربي واسع النطاق – لم تنهَر، بل امتصت الضربة الأولى، وتحوّلت إلى ساحة صراع طويلة الأمد. ومع كل يوم يمضي دون حسم، كانت روسيا تفقد زمام المبادرة، ويتحول المشروع الاستراتيجي من "هجوم محسوب" إلى "صراع مفتوح"، يستنزف القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية في آن واحد.
ومع ذلك، فإن القول إن موسكو قد فشلت بشكل نهائي سيكون تبسيطاً ضاراً وغير دقيق. فروسيا ما زالت تملك أوراقًا كبرى لم تُستخدم بعد بالكامل. ما زالت تملك قوة نارية ساحقة، واحتياطاً بشرياً كبيراً، وقدرة على التصعيد المرحلي. ما زالت تملك القدرة على تعديل قوانين اللعبة، سواء من خلال إعادة توزيع الجهد الحربي، أو فرض أمر واقع في الميدان، أو استثمار علاقاتها الخارجية لإحداث فجوات في جدار الدعم الغربي لأوكرانيا. بيد أن السؤال الذي يلوح اليوم، ليس عمّا تملكه روسيا، بل عن الثمن الذي ستكون مستعدة لدفعه، وعن طبيعة الانتصار الذي يمكن تحقيقه بعد هذه التكاليف المهولة. لقد تغيّر السياق: فالنصر السريع لم يعد ممكناً، والعودة إلى نقطة الصفر باتت مستحيلة، والحرب لم تعد فقط على حدود أوكرانيا، بل أصبحت معركة رمزية وسياسية وتكنولوجية تخوضها روسيا أمام الغرب مجتمِعاً. ومن هنا فإن الانتصار – إن تحقق – لن يكون شاملاً أو نظيفاً، بل سيكون انتصاراً مشوبًا بآثار الاستنزاف الطويل، والتنازلات الميدانية، والخسائر الرمزية. وسيُقيّم هذا الانتصار مستقبلاً لا بحدود الجغرافيا التي تغيّرت، بل بحدود النفوذ الذي توسّع أو تقلّص، والقدرة على التعافي، وإعادة التموضع كقوة يُحسب لها الحساب لا في ساحة المعركة فحسب، بل في صياغة مستقبل النظام الدولي. إن ما لم يُفعل في عام 2022، لا يزال ممكنًا نظريًا في 2025، لكن بشروط أصعب، وبثمن أعلى، وفي بيئة دولية لم تعد تستجيب للمبادرات الأحادية كما كانت من قبل. وما لم تتمكن روسيا من استيعاب هذا التحول، والتصرف بموجبه، فإنها وإن لم تُهزم، فقد تجد نفسها وقد ربحت أرضاً وخسرت زمنًا واستنزفت مكانتها في معركة لم يكن يجب أن تطول إلى هذا الحد.
477 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع