ابراهيم فاضل الناصري
((الزعامة الملهمة والقيادة بين النبل والوضاعة: ميثاق شرف في زمن التغيير))
في زمن متسارع متغير تتقلب فيه القيم وتتشظى فيه ثوابت المجتمعات، يبرز مفهوم القيادة كقضية محورية في مصير الأمم، ويصبح السؤال المحوري: كيف تولد الزعامة الملهمة والفذة؟ هل هي هبة وراثية تسري في الدم، أم هي مهارة تُكتسب عبر تجارب الحياة؟ هل تكمن في الجينات التي يرثها الإنسان من أجداده، أم أنها ثمرة نضج روحي وفكري؟ هذا السؤال ليس مجرد تفكير نظري، بل هو محاولة لفهم جوهر القيادة التي تتجاوز مجرد احتلال المناصب أو ارتداء الألقاب، لتصبح عهدًا مقدسًا وميثاق شرف يحمل رسالة نبيلة للبشرية جمعاء. فالزعامة الحقيقية لا تُبنى على الصدفة أو الطموحات الذاتية العابرة، بل تقوم على نبل في الروح والتزام أخلاقي عميق يجعل القائد مرآة لأمته وضميرها الحي. فهل تكفي الموروثات الأسرية أو الطبقية لتصنع قائدًا؟ لا شك أن بعض المجتمعات عبر التاريخ كانت تحتكر القيادة في أسر محددة أو طبقات اجتماعية معينة، حيث كانت العائلات الحاكمة أو العشائر تعتني بتعليم أبنائها فنون السياسة والحكم، محاولةً بذلك الحفاظ على السلطة والأدوار القيادية عبر الأجيال. لكن الموروث وحده لا يصنع القائد، بل هو فقط مادة أولية، فالأصالة التي تمنح الزعامة معناها الحقيقي تتشكل في نبل الروح والتزام القائد بالقيم والحق.
في عصرنا الحديث، تبدلت معالم القيادة، وأصبح صوت المتسلقين والمناورات السياسية يغطي أحيانًا على جوهر الشرف والحكمة، فصارت الكاريزما أحيانًا تعبيرًا عن تسلق سريع وافتعال مصطنع لا يمت لأصالة القيادة بصلة. أصبح القائد الحقيقي نادرًا، كالنجم في ليل مظلم، يظهر فقط عندما يضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار، لا حين يستغل منصبه لأهوائه أو لمصالحه الضيقة. فكما قال ميشيل فوكو: "القيادة لا تُمنح، ولا تكتسب بسهولة"، إذ أن انتزاع السلطة بغير حق هو عبء ثقيل يهدد كرامة الأمة ومستقبلها. في صلب هذا الصراع بين النبل والوضاعة، يتجلى الفرق الجوهري في ولادة الزعامة الكاريزمية. فالنبل، ذلك الفن الأخلاقي الفذ، هو الذي يجسد الفروسية الحقيقية في القيادة، حيث يحمل القائد على عاتقه أمانة حماية القيم والعدالة، ويُلهِم شعبه بروح الوفاء والشجاعة. أما الوضاعة، فهي الانحراف الذي يستغل النفوذ للسيطرة والتسلط، فتولد زعامة زائفة مبنية على الخداع والتملق والمصالح العابرة، تلك الكاريزما التي تتلاشى حين تزول مصالحها أو يُكشف زيفها.
إن هذا الصراع ليس ظاهرة عابرة، بل هو انعكاس عميق لزلزال داخلي يعتصر جوهر المجتمعات وأسسها الأخلاقية، وهو ما يؤثر مباشرة في مصير الأمم. فالقيادة الحقة ليست مجرد منصب يُتسلق أو لقب يُرتدى كزينة عابرة، بل هي عهد مقدس يُوقع عليه بالقلب والروح، التزام لا يلين يحمل رسالة النبل والكرامة والعدل والحكمة. هذا هو معنى القيادة الحقيقية التي تحدث عنها المتنبي بقوله: "إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ فلا تقنعْ لما دون النجوم". فالقيادة ليست نزوة عابرة، بل هي اختيار مصيري يختار فيه القائد أن يصعد قمم النبل والفروسية، ليصبح رمزًا للكمال والوفاء، حاملًا مسؤولية حماية القيم، وبث الأمل، وبناء مستقبل يليق بتاريخ أمته وحضارتها. وليس هذا فقط، بل تتجاوز القيادة حدود السياسة أو الحكم، لتكون روحًا تتجلى في كل فرد يتحمل مسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه، تعكس أعمق المبادئ التي تمثل روح الأمة ومستقبلها.
وهذا ما أكده وينستون تشرشل حين قال: "القيادة هي القدرة على تحويل الرؤية إلى واقع"، فالقائد الحقيقي يصنع المستقبل بيد واعية وقلب مفعم بالإيمان بالإنسان وقيمه، قادرًا على نقل الأمة من واقعها إلى الأمل. علمتنا التجارب التاريخية أن سقوط الحضارات لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل يبدأ بتآكل القيم وتراجع القيادة النبيلة، فقد قال ابن خلدون: "الملك لا يدوم إلا بكرامة النفس وحفظ العدل"، وأكد لاو تسو: "الحكماء يحكمون بالفضيلة، أما الجاهلون فيستخدمون القوة"، وهذا هو الفرق الحقيقي بين ازدهار الأمم وانهيارها، بين نورها وظلامها، وهو ما يصنعه القائد الحكيم. ومن هنا تتجلى أهمية نموذج القيادة النبيلة في تاريخ أمم وشعوب برزت فيها زعامات أضاءت دروب التغيير والحضارة. فمثلًا، كان صلاح الدين الأيوبي نموذجًا نادرًا في الزعامة، إذ جمع بين القوة العسكرية والحكمة والعدل، ولم يكن هدفه التسلط بل الدفاع عن الحق والكرامة الإسلامية، فحظي بحب واحترام الجميع حتى من خصومه. وتجلت قوته الحقيقية في تواضعه وشجاعته وروحه النبيلة التي لم تذل أو تستغل النصر لأغراض شخصية ضيقة.
وكذلك نيلسون مانديلا الذي جسد معنى القيادة بالتسامح والشجاعة رغم سنوات سجنه الطويلة، فقاد جنوب أفريقيا نحو مصالحة تاريخية قلبت صفحة مظلمة في تاريخ البلاد، وعلّم العالم أن القيادة الحقة ليست استبدادًا أو انتقامًا بل نبل في الروح ورؤية تعانق الإنسانية جمعاء. هؤلاء القادة وغيرهم صنعوا تاريخًا لا ينسى لأنهم تجردوا من الأنا وتمسكوا بالرسالة، وقدموا مثالًا حيًا للزعامة التي تنبع من القلب النقي والضمير الصادق.
أما في المقابل، فقد شهد التاريخ كذلك فترات من زعامات أوتوقراطية، حيث تسللت الوضاعة إلى مهد القيادة، وتحولت الكاريزما إلى وسيلة للتحكم والخداع، ولم تلبث تلك الزعامات أن سقطت لأن غياب النبل والعفة جعلها عارية أمام اختبار الزمن. تلك التجارب تثبت أن الزعامة الملهمة التي تحمل رسالة سامية وتلتزم بقيم النبل والعدالة ليست فقط خيارًا أخلاقيًا بل هي ضرورة وجودية لاستمرارية الأمم وازدهارها.
ومن هذا المنطلق، تتجلى شروط الزعامة الفذة، والتي لا تقوم على العوامل الوراثية وحدها، بل على استعداد داخلي عميق للنضوج الروحي والفكري، وعلى القدرة على التعلم من التجارب والتأمل في الذات والآخر، وعلى التمسك بالفضائل التي تصنع الكاريزما الحقيقية، ومنها النقاء في النية والصدق في القول، والحكمة في القرار، والشجاعة في المواجهة، والرحمة في الحكم، والتواضع في التعامل مع الجميع. وتلك الصفات هي التي تصنع من الإنسان قائدًا لا يُنسى، يحمل معه شعلة النبل التي تضيء دروب الإنسانية في أوقات الظلام.
وفي خضم هذه الحقائق، لا يمكن لنا أن نتجاهل أهمية التربية الثقافية والأخلاقية في صناعة الزعماء، إذ لا يُمكن لقائد أن يظهر دون بيئة تُعزز قيمه وتمنحه فرصة صقل مهاراته عبر التجارب، كما أن المجتمع بدوره مسؤول عن اختيار قياداته، فلا يمكن أن يحصد شعب خيرًا وهو يزرع في قادته بذور الوضاعة أو التهاون في المبادئ.
وبالتالي، يبقى السؤال الأكبر مطروحًا أمام كل فرد وأمة: هل نحن مستعدون لتحمل مسؤولية القيادة التي تتجاوز الذات والمصلحة الشخصية؟ هل نملك الشجاعة لنحمل شعلة النبل، ونتحدى ظلمات الوضاعة؟ هل نعي أن القيادة الحقيقية هي رسالة إنسانية وعهد أخلاقي لا يحتمل التهاون؟ فلتكن إجابتنا بالعمل، لأن القيادة ليست مجرد كلمات أو شعارات تُقال، بل أفعال ومواقف تُبنى عليها الأمم، وأرواح تُكرس في سبيل الحق والعدل، فلتنطلق تلك الشعلة في كل فرد ينشد غدًا أفضل، ويؤمن بأن الزعامة ليست مقصورة على القلة، بل هي مسؤولية الجميع.
949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع