ما مصير كييف الأوكرانية والطبقة الحاكمة بعد إنهاء الحرب الروسية–الأوكرانية، وخاصة بعد الخرق الكبير للمطارات والطائرات الاستراتيجية الروسية؟

الدكتور عبدالعزيز المفتي

ما مصير كييف الأوكرانية والطبقة الحاكمة بعد إنهاء الحرب الروسية–الأوكرانية، وخاصة بعد الخرق الكبير للمطارات والطائرات الاستراتيجية الروسية؟

مقدمة:

منذ انطلاق الحرب الروسية–الأوكرانية في فبراير 2022، تحولت العاصمة الأوكرانية كييف إلى رمز للصمود، كما صعد نجم الطبقة السياسية والعسكرية التي قادت البلاد وسط النيران والحصار والتدخلات. ومع تصاعد المعارك، خصوصًا بعد تنفيذ أوكرانيا لهجمات غير مسبوقة في العمق الروسي، بما في ذلك استهداف المطارات والطائرات الاستراتيجية النووية، تعقد المشهد السياسي والعسكري بشكل غير مسبوق.

وبينما تتوالى الضربات والمفاوضات، ويُطرح سؤال “متى ستنتهي الحرب؟”، يُطرح في المقابل سؤال لا يقل أهمية: ما الذي سيحدث بعد الحرب؟ وما هو مصير مدينة كييف، من حيث مكانتها السياسية والاقتصادية والأمنية؟ وما مصير الطبقة الحاكمة التي واجهت الحرب، والتي تنقسم بين قيادة شعبية تمثلت في الرئيس زيلينسكي، وقوى أمنية وعسكرية ذات نفوذ متصاعد؟ وهل سيكون هناك انتقال سياسي أم ترسيخ للسلطة؟ وهل ستعاقب روسيا هذه الطبقة بعد العمليات المؤلمة في عمق أراضيها؟

للإجابة على هذا السؤال، لا بد من تقسيم التحليل إلى ثلاثة محاور رئيسية: أولًا مستقبل كييف كعاصمة، ثانيًا مصير الطبقة السياسية الحاكمة، وثالثًا الحسابات الروسية–الدولية بعد الحرب.

أولًا: مستقبل مدينة كييف بعد الحرب
1. الموقع الرمزي:
كييف كانت وما زالت مركز الدولة الأوكرانية الحديث، وتحمل أهمية رمزية لدى الروس أيضًا بوصفها مهد “كييفان روس”، وهي حضارة السلاف الشرقيين. بعد الحرب، ستبقى كييف مركزًا للهوية الأوكرانية والصمود القومي.
2. إعادة الإعمار:

• ستكون كييف أول المستفيدين من خطط إعادة الإعمار الأوروبية والغربية، خاصة بعد الأضرار التي لحقتها بالبنية التحتية والكهرباء.
• عدد من الدول، أبرزها ألمانيا وبولندا وتركيا، أبدت استعدادها للمشاركة في بناء شبكات جديدة للطاقة والاتصالات والمواصلات.
• سيتحول وسط كييف إلى مركز لإعادة تخطيط سياسي واقتصادي جديد يشمل البرلمان، ومؤسسات الدولة، وهيئات إعادة الإعمار.

3. التغير الديموغرافي:

• عادت إلى كييف ملايين العائلات التي هجرتها في بداية الحرب، خاصة في النصف الثاني من 2023.
• لكن سكانها لن يعودوا كما كانوا، إذ سيغلب على الجيل العائد الطابع العسكري والخبرة في أوقات الحرب، ما سيؤثر على السياسات والمزاج العام.

4. العسكرة والأمن:

• سيستمر وجود أنظمة دفاع جوي كثيفة داخل وحول كييف.
• سيتم تعزيز القدرات الأمنية، وقد تتحول بعض المناطق فيها إلى مواقع قيادة عسكرية استراتيجية دائمة.
• ستشهد العاصمة تعاونًا عسكريًا أو استخباراتيًا دائمًا مع الناتو في مرحلة ما بعد الحرب.

ثانيًا: مصير الطبقة الحاكمة الأوكرانية
1. الرئيس فولوديمير زيلينسكي:

• زيلينسكي تحوّل خلال الحرب إلى رمز دولي، ولاقى دعمًا غير مسبوق من الغرب.
• في حال انتهاء الحرب باتفاق سياسي يحفظ وحدة أوكرانيا (ولو جزئيًا)، سيحظى زيلينسكي بمكانة أسطورية شبيهة بتشرشل أو ديغول.
• قد يُعاد انتخابه مرة أخرى بسهولة، خاصة إن قاد عملية إعادة الإعمار.

لكن إذا انتهت الحرب بتنازلات كبيرة، مثل خسارة مزيد من الأراضي الشرقية أو الاعتراف بسيطرة روسية على دونيتسك وزابوروجيا:
• قد تتراجع شعبيته تدريجيًا.
• قد تُفتح ملفات فساد أو سوء إدارة.
• من المحتمل أن يُغادر المشهد السياسي في انتخابات لاحقة أو يتحول إلى شخصية دولية خارج أوكرانيا.

2. النخبة العسكرية والأمنية:

• الجنرالات والقيادات الأمنية الذين خططوا للهجمات داخل روسيا، ومنهم رئيس الاستخبارات العسكرية كيريلو بودانوف، سيكتسبون مكانة غير مسبوقة.
• إذا استمرت حالة العسكرة في المجتمع الأوكراني، فقد يشكلون قوة سياسية ضاغطة داخل البرلمان أو الحكومة.
• هناك احتمال لتصاعد نفوذ الطبقة العسكرية في مقابل الطبقة المدنية بعد الحرب، خصوصًا إن لم يتم ضبط هذا التوازن دستوريًا.

3. صعود شخصيات جديدة:

• ظهرت خلال الحرب شخصيات جديدة من الجيش، الإعلام، والبلديات المحلية.
• بعضهم قد يصبح منافسًا مستقبليًا لزيلينسكي، مثل عمدة كييف فيتالي كليتشكو الذي لعب دورًا مهمًا في دعم المدنيين خلال الحصار.
• كذلك هناك احتمال أن تظهر حركات مدنية تطالب بالشفافية والمحاسبة بعد الحرب، خصوصًا مع المساعدات الهائلة التي ستُصرف.

4. المحاسبة والمساءلة:

• في حالة انتهاء الحرب بطريقة تضمن السلام لا الهزيمة، ستكون هناك مرحلة محاسبة داخلية لبعض الفاسدين أو المتخاذلين.
• قد تُجرى تحقيقات في الأداء العسكري، أو إدارة المساعدات، أو إدارة الهجمات على روسيا.
• كذلك قد تفتح روسيا ملفات خاصة ضد شخصيات معينة، وقد تطلب محاكمتهم دوليًا، لكن من غير المرجح الاستجابة لتلك المطالب دوليًا.

ثالثًا: الحساب الروسي مع كييف والطبقة الحاكمة
1. الانتقام الرمزي:

• روسيا قد تسعى بعد الحرب إلى الانتقام من الطبقة الحاكمة في كييف، خصوصًا من ضباط الاستخبارات الذين يُعتقد أنهم خططوا لهجمات داخل روسيا.
• قد تصدر موسكو قوائم “مطلوبين” بحق هؤلاء القادة.
• من المحتمل تنفيذ عمليات استخباراتية داخل أوكرانيا تستهدف شخصيات محددة، كما فعلت روسيا سابقًا في لندن أو برلين.

2. استخدام الهجمات كذريعة:

• ستستخدم روسيا الهجمات الأوكرانية داخل العمق كمبرر لأية عمليات مستقبلية، حتى بعد الحرب.
• هذا سيجعل بعض مناطق أوكرانيا، خصوصًا العاصمة، تحت التهديد الدائم في حال عادت التوترات.

3. العقوبات على النخب:

• ستُدرج موسكو العديد من السياسيين الأوكرانيين في قوائم عقوبات، وتجميد أصولهم، ومنع تواصلهم مع روسيا أو الدول الحليفة لها.

4. التأثير الدبلوماسي:

• حتى بعد الحرب، قد لا تعترف روسيا بشرعية الحكومة الأوكرانية إذا قادها زيلينسكي أو رفاقه العسكريون.
• ستسعى موسكو لدعم معارضة داخلية إن أمكن، عبر أذرعها الاستخباراتية والإعلامية.

رابعًا: مستقبل العلاقات بين كييف والغرب بعد الحرب
1. تعزيز الاندماج الأوروبي:

• ستسعى كييف للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بسرعة بعد الحرب.
• سيكون هنالك دعم مالي وسياسي غربي كبير لإعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار.

2. التقارب مع الناتو:

• حتى إن لم تنضم أوكرانيا رسميًا للناتو، سيكون لها اتفاقيات أمنية ثنائية مع دول أعضاء، مثل بولندا وبريطانيا وأميركا.
• ستستمر عملية تحديث الجيش الأوكراني وفق معايير الناتو.

3. حماية النظام السياسي:

• الغرب سيستمر في دعم كييف، لكنه سيتابع عن كثب مسار الحريات العامة وحقوق الإنسان.
• هناك احتمال أن تبرز خلافات لاحقة إذا تمادت السلطة في عسكرة الدولة أو التضييق على المعارضة.

خاتمة:

إن مصير كييف والطبقة الحاكمة فيها بعد الحرب الروسية–الأوكرانية سيعتمد بدرجة كبيرة على كيفية إنهاء الحرب: هل سيكون ذلك عبر نصر واضح لأحد الطرفين، أم عبر تسوية مريرة؟ وفي الحالتين، سيظل لموقع كييف الجغرافي، وقدرتها على إدارة مرحلة ما بعد الحرب، أثر بالغ في تقرير شكل الحكم والسياسة المستقبلية.

وإذا كان زيلينسكي وفريقه قد اكتسبوا شرعية تاريخية بفعل قيادتهم للحرب، فإن هذه الشرعية ستُختبر في مرحلة السلم، عندما تتغير الأولويات من القتال إلى الاقتصاد، ومن الصمود إلى التنمية. أما موسكو، فلن تنسى بسهولة ضربات المسيّرات الأوكرانية في عمق أراضيها، وقد تعتبر أن بعض قادة كييف يجب أن “يدفعوا الثمن”، ولو لاحقًا.

وبينما ستبقى كييف عاصمة سياسية رمزية ما بعد الحرب، فإنها ستتحول في الوقت نفسه إلى عاصمة جديدة لحرب باردة أوروبية مستترة، عنوانها الأمن، والمراقبة، والدبلوماسية المعقدة، وربما الخوف من تكرار الحرب ذاتها.

الدكتور عبدالعزيز المفتي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

750 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع